انطلقت منذ أيام آخر إبداعات الثورة المضادة في فن ابتزاز الرئيس.. من أجل إبقاء الأوضاع علي ما كانت عليه قبل الثورة( حصر الإسلاميين داخل دائرة الحظر), أو قريبة إلي ما كانت عليه, وذلك إلي حين إنجاز الانقلاب المنشود علي الحكم, أو الخراب الاقتصادي, أيهما أقرب. ومن أكثر المصطلحات المضللة التي يجري توظيفها في هذا الصدد هما التوافق والأخونة. التوافق مصطلح يتردد بهدف التسويف والعرقلة حتي لا يستقر الأمر للخصوم. تم توظيفه من قبل لعرقلة الدستور, ويتم توظيفه اليوم لعرقلة الانتخابات البرلمانية.. فالانقلاب علي رئيس أسهل من الانقلاب علي رئيس وبرلمان. الكل يعلم أنه يستحيل تحقيق توافق في ظل ثقة معدومة ووسائط مسمومة وديمقراطية مغدورة. ومع ذلك هدد أخيرا رئيس تحرير صحيفة خاصة بأنه إذا لم يحدث توافق فإن( الإخوان) يخاطرون بمستقبل الوطن بأكمله, وزعم آخر بأن استمرار الحكومة الحالية يشكل خطرا علي نزاهة الانتخابات, وأن الأمر يستلزم إقالتها وإلغاء كل التعيينات التي اتخذتها, ثم هدد بأن تجاهل هذه المطالب سيطيح بآخر أمل لإصلاح الأوضاع في مصر وسيدفع إلي مزيد من الفوضي والعنف اللذين سيكون المسئول الأول والوحيد عنهما هو الرئيس. إن هذه التهديدات المشينة تدلل, ليس فقط علي الدور الخطير الذي تلعبه وسائط الفتنة من صحف وفضائيات في تشجيع العنف والارهاب والتحريض عليهما, كوسيلة رخيصة لابتزاز تنازلات سياسية.. وإنما أيضا تدلل علي مدي لا مبالاة من يرددون هذه الترهات, بعواقب تلاعبهم في قواعد الديمقراطية المتعارف عليها عالميا. إن أي إجراء غير طبيعي يتم فرضه بالتهديد والابتزاز, سيكون بمثابة سابقة يجري تكرارها مع كل رئيس وحكومة مقبلة. بتعبير آخر, سيكون من حق أي فصيل فيما بعد أن يطالب بإقالة أي حكومة لا تعجبه قبل كل انتخابات برلمانية, لكي تشكل حكومة أخري يكون لهذا الفصيل حق الفيتو عليها, لأن هذا بالضبط هو ما يقصدونه عندما يطالبون ب حكومة توافقية.. وإلا فلا انتخابات. أما بالنسبة لمصطلح الأخونة, فقد قامت صحيفة خاصة أخيرا برصد اختراق رجال الجماعة لمفاصل20 وزارة, واستنتجت من ذلك أن الرئيس مرسي نكص وعده عندما أعلن منذ شهور أن أخونة الدولة المصرية مستحيلة, ولا يستطيع فصيل واحد قيادتها بمفرده. غير أن الحملة الدعائية الجائرة, التي أطلقتها وسائط التضليل منذ أكثر من عام, نجحت في ابتداع الأخونة كتهمة شيطانية مفزعة علي غرار معاداة السامية في الغرب تستهدف وضع الرئيس والإخوان في موقف الدفاع عن النفس, واستباق أي محاولات من جانبهم لتعديل الوضع الفاسد الذي كان سائدا قبل الثورة, والذي عومل الإسلاميون من خلاله كجماعات محظورة. وهي تهمة شيطانية لأنها استخدمت مصطلحا خادعا يوحي باختطاف مصر لمصلحة فصيل, بينما الحقيقة أن ما يخشونه ويحاربونه هو الأسلمة, التي تستهدف تحييد آثار العلمنة.. بتعبير آخر, الأسلمة مطلوبة لتخفيف طغيان العلمنة, وصولا إلي مصرنة الدولة. مصطلح الأخونة سلاح ترويعي يحمي علمنة الدولة, ويضمن استمرار هيمنة العلمانيين علي جميع مفاصلها, حتي تبقي مؤسسة الرئاسة جزيرة معزولة منبوذة, لا تلقي تعاونا من أية جهة, فينتهي بها الحال إلي الفشل. لقد استكثرت هذه الصحيفة الخاصة تعيين عدد من الإخوان في مواقع المسئولية, وكأن الإخوان ليسوا مصريين لهم نفس الحقوق التي يتمتع بها الآخرون, وهي الحقوق التي حرموا منها علي مدار ستة عقود.. أو كأن العلمانيين فقط هم أصحاب الكفاءة والعلم والخبرة.. أوكأن تعيين الإخوان هو جريمة كبري في حق العلمنة المترسخة منذ عقود, والتي لم تجلب لمصر سوي الخراب. وعلي غرار الأخونة, أطلقت أيضا اتهامات التكويش والاستحواذ والاقصاء للتغطية علي ما مارسه العلمانيون, ويمارسونه من تكويش واستحواذ, وعنصرية سياسية أقصت الإسلاميين عن السياسة والاعلام والثقافة والتعليم.. إلخ. ولأن علي رأسهم بطحة, فإنهم دائما ما يتهمون الاخوان بما فيهم, فيزعمون أنه لو استقر الأمر للإخوان, فسيفعلون بهم ما فعلوه هم بالإسلاميين. لقد تآمر العلمانيون علي برلمان الثورة حتي قضوا عليه, وانقلبوا علي الديمقراطية حتي أوشكوا علي القضاء عليها. وهم يتآمرون علي الرئيس, ولم يتركوه يحكم في هدوء يوما واحدا. لا يوجد في العالم رئيس تعرض لما تعرض له الرئيس مرسي.. حرب إعلامية شرسة ضده وجماعته, وسباب وإهانات وبذاءات لا تتوقف صباحا ومساء, وأكاذيب وشائعات وأراجيف لا تنتهي.. دعاوي قضائية ضد كل مؤسسة منتخبة, وضد الرئيس وضد أبنائه.. استدعاء للانقلاب العسكري علي أول رئيس منتخب في تاريخنا.. استدعاء للاغتيالات السياسية بتلبيس التهمة مقدما للإسلاميين.. إستدعاء للخراب الاقتصادي بتشجيع البلطجة والإرهاب وتغطيتهما سياسيا. لا يوجد في العالم رئيس يستطيع أن يحكم دولة بحجم ومكانة مصر, في ظل هذه الأجواء المسمومة والمضطربة. ولنفترض جدلا أن الرئيس مرسي قرر الدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة, وقال للجبهة إياها: خذوا الرئاسة التي تريدونها واشبعوا بها, هل يظن أحد أن ملايين الإسلاميين في مصر سيتركون الرئيس الجديد يحكم أسبوعا واحدا في هدوء؟ وهل ستخرج حينئذ وسائط التضليل لتقول إن الرئيس فشل, أم ستتهم المتظاهرين بالمسئولية عن فشله ؟ إن الذين يزعمون أن الأخونة تستهدف تغيير الهوية المصرية, يرفضون في الواقع رد هذه الهوية إلي أصلها, الذي يستند أساسا إلي الأسلمة( اللازمة لتكوين قوة صلبة نفتقر إليها) مع مسحة من العلمنة( كانت أحد أهم مصادر القوة الناعمة في المحيط العربي). إن الإسلاميين الذين يعبرون عن أغلبية هذا الشعب, كانوا محظورين لعقود طويلة. والأسلمة ضرورية لفك الحظر عنهم, واسترجاع الهوية المصرية المغيبة منذ عقود. أما الذين يمكرون بمصر وديمقراطيتها ويهددون بالعنف ويلعبون بالنار ظنا منهم أنها لن تحرقهم, فقد يفاجأون بما لم يكن في حسبانهم.. ثورة شعبية تستكمل مهمة ثورة يناير بالقضاء علي جميع أطراف الثورة المضادة.