عنوان هذا المقال استعرناه من عنوان إحدي المجموعات القصصية للأرجنتيني ذائع الصيت (خورخي لويس بورخس 1899 1986).. استعرناه لكي ندنو به علي وجل من رجل آخر لا يمت إليه بصلة عني الفيزيائي الأعظم (ألبرت آينشتين1879 1955). ولأنه لم يكن يليق الاقتراب من الرجل الذي يعتبرونه المؤسس الأول لعلم الكون الحديث والمعني بدراسة طبيعته بما في ذلك حجمه وشكله وتاريخه ومصيره من بداية الزمن إلي نهايته إلا بواسطة من يشتغلون بالعلم الخالص وشئونه, فإننا, مع ذلك, قادرون علي الاقتراب من الرجل بحيويته الدافقة وحسه الفكه والتعرف علي جانب من عالمه وشيئ عن النهج الذي اتبعه مدعما بآلة للكمان وولع بالموسيقي مستمعا ناقدا وعازفا شأن محترف كبير, وذلك عبر كتاب (آينشتين, حياته وعمله) الصادر في حوالي 600 صفحة من القطع الكبير عن داري كلمة في ابي ظبي وكلمات بالقاهرة عام 2010 لمؤلفه: والتر إيزاكسون ومترجمه: هاشم أحمد وهو الكتاب والذي لاقي حفاوة بالغة, باعتباره الأوفي حتي الآن عن الرجل. والحقيقة أن السيد هذا, بفضل ما كنت قرأته سابقا في إطار ولعنا الشخصي بسير الكبار من المبدعين, وبعدما تغاضيت, عن طيبة خاطر, عن تعقيداته النظرية الخاصة والعامة, بدا لي دائما مثل فنان أكثر منه عالما, بآلة كمانه التي تأبطها طيلة الوقت مثل مبدع جوال: لست سوي رسام أرسم بحرية حسبما يتراءي لخيالي, فالخيال أكثر أهمية من المعرفة, والمعرفة محدودة, أما الخيال فيحيط العالم. ولقد ظلت الموسيقي تسحر عقل آينشتين: ولم تكن بالنسبة إليه هروبا من الواقع بقد ما كانت( تأمل الكلام من فضلك) اتصالا بالتناغم الكامن في الكون, وبالعبقرية الإبداعية لعظماء المؤلفين الموسيقيين, وبالآخرين الذين يميلون إلي التواصل بما هو أعمق من الكلمات. إن ما كان يبهره في الموسيقي والفيزياء هو جمال التناغم.. إنه شعور رائع أن يكتشف المرء اتحاد مجموعة من الظواهر التي تبدو للوهلة الأولي منفصلة تماما. وهو كلام يذكرنا بقول رجل لا نذكره: الفن؟ هو أن تجمع شيئين معا, ما كان لهما أن يجتمعا. كما يذكرنا أيضا هذا الكتاب الكبير أن آينشتين كان مصدر إلهام للعديد من الفنانين والأدباء, وأن ثورة الحداثة بدأت في العام 1922, وهي السنة التي حاز فيها جائزة نوبل, ونشر فيها: جيمس جويس 1882 1941 روايته الهائلة:عوليس, كما نشر: تي إس إليوت 1888 1965 قصيدته الشهيرة: الأرض الخراب كذلك الحفل الذي أقيم منتصف إحدي ليالي هذا العام, حيث عزفت لأول مرة افتتاحية: رينالد ل سترافنسكي 1882 1971 الذي حضره رواد التحديث في ذلك الوقت بيكاسو 1881 1973 و جويس 1882 1941 و بروست 1871 1922( وأنا حرصت علي تدوين هذه التواريخ لكي تري سعادتك أن هؤلاء الكبار الذين كانوا يحطمون الثوابت الأدبية والفنية هم أبناء حقبة واحدة). يذكرنا الكتاب أيضا أن: مبدأ النسبية مسئول مسئولية كاملة عن الفن التجريدي والموسيقي اللامقامية والأدب العبثي (اللامعقول) باعتبارها أعمالا لا تخضع لسلطة الزمن. وكان بروست كتب لأحد أصدقائه يقول: كم أحب أن أحدثك عن آينشتين, أنا لا أفهم كلمة واحدة من نظرياته, ومع ذلك يبدو أن لنا طرقا متشابهة في تشويه الزمن. ولعل ما يدعو إلي الدهشة وكأن صاحب هذه العقلية الفريدة قد توصل إلي كشوفه الرياضية عبر لحظات من الإلهام الشعري أو الفني بواسطة علاقته بالموسيقي عزفا وسمعا ونقدا: كان كثيرا ما يعزف الكمان في مطبخه في وقت متأخر من الليل وهو يمعن فكره في مسائل معقدة ثم يصيح فجأة وسط العزف كما لو كان حل المسألة قد جاءه وحيا أثناء عزفه. يستوقفنا أيضا أن فيزيائيا آخر سبقه لعله بونكاريه 1854 1912 كان عشق آلة الكمان كما عشقها آينشتين, بل إن عالمنا الكبير الراحل مصطفي مشرفة (1898 1953) الذي حظي بعناية أينشتين نفسه (سمي آينشتين العرب وقتله الموساد) كان عاشقا وأجاد العزف علي الكمان هو الآخر بل وأسس الجمعية المصرية لهواة الموسيقي عام 1945 ووضع مؤلفا عالج فيه الأنغام والمقامات العربية. كان آينشتين يعلي من شأن موتسارت 1756 1791 الذي رأي أن موسيقاه: نقية وجميلة لدرجة أنني أراها انعكاسا للجمال الكامن في الكون نفسه, وبينما أحب باخ لمعماره و شوبيرت لقدرته العاطفية, وبعدم الراحة عندما يستمع إلي بيتهوفن لأنه كان شخصا جدا, ويعيب علي هاندل ضحالته و فاجنر يعوزه البناء و شتراوس موهوب لكن بدون صدق روحاني. هكذا ينتهي بنا الأمر بنا إلي الظن بأن آينشتين استعان بكمانه علي اختبار الكون والتوغل فيه: لقد امتزجت في نفسه الموسيقي والطبيعة والخالق في وحدة شعورية لم ينمح أثرها أبدا. وللكلام, ربما, بقية المزيد من مقالات إبراهيم اصلان