في بلدي جيل يحتاج إلي. هكذا كان رد العالم العظيم مصطفي مشرفة علي عرض العالم الذائع الصيت ألبرت أينشتين الذي دعاه للتدريس في مركز أبحاثه الجديد في الولاياتالمتحدة. لقد عجبت كثيرا لهذا الرد. فهذا عرض لم أعرف من قبل عالما رفض مثله أو حتي أقل منه بكثير, فالإغراء العلمي والأدبي لا يقاوم, ثم زاد انبهاري بهذا الرجل عندما علمت انه أتي بهذا الرد في وقت كان يضطهد فيه من الملك فاروق لمواقفه السياسية. نشأ علي مصطفي مشرفة في أوائل القرن الماضي في فترة ما يعرف بعصر التنوير المصري حيث الحمية لبناء مصر الحديثة وحركات الإصلاح والتحديث في جميع المجالات مثل السياسة والتعليم والاقتصاد وحتي في الشأن الديني الممثل في الإصلاح داخل الأزهر. نشأ مشرفة وحوله قمم لا هم لها إلا رفعة الوطن والإصلاح في هذه المجالات مثل الطهطاوي وعلي مبارك وسعد زغلول ومحمد عبده وطه حسين. وعاصر مشرفة ثورة1919 حيث التفاف المصريين جميعا حول هدف الاستقلال واستكمال بناء مصر الحديثة. وأدرك مشرفة أن عليه هو الآخر دورا إصلاحيا في مجال التعليم الجامعي والبحث العلمي وهو الهدف الذي كرس له بالفعل الكثير من وقته وجهده مقاوماتهم العالم المتطلع دائما للبحث العلمي واستكشاف أسرار الكون. فلم يهرب مشرفة إلي معمله ولم يهاجر من وطنه بحجة تخلفه عن الغرب بل أصر علي البقاء وبناء القاعدة العلمية المصرية رغم التحديات واضطهاد الملك له. لقد أعطي مصطفي مشرفة المثل والقدوة لكثير من العلماء المصريين ولي أنا شخصيا منذ دراستي في جامعة القاهرة واطلاعي علي انجازاته من خلال احتفالية الجامعة به في تسعينيات القرن الماضي. ولم أعجب بمشرفة لانجازاته العلمية فقط والتي شهد لها أعظم علماء العصر مثل أينشتين ونيلزبور وهي شهادات تعادل كل واحدة منها جائزة نوبل. بل أعجبت أيضا بإسهاماته المهمة في تاريخ العلوم والموسيقي والأدب والترجمة وأعجبت أكثر بآرائه التي سبقت عصره في سبيل تحقيق النهضة العلمية المصرية ودور العلماء وواجبهم تجاه وطنهم. لقد سعي مشرفة بكل الجهد لتحقيق ما آمن به والمتعلق بضرورة بناء المجتمع العلمي المتكامل لتحقيق النهضة العلمية, حيث الثقافة العلمية المتاحة لجميع أبناء الشعب وحيث العالم المتفاعل مع قضايا الوطن وهمومه وحيث العلم الملبي لحاجات المجتمع والمرتبط بالانتاج والتنمية. لقد أدرك مشرفة كارثة أنصاف المتعلمين والعلماء حاملي الألقاب بالمجاملة والأقدمية فقال: ان تخرج عالما واحدا كاملا خير من أن تخرج أنصاف علماء كثيرين, وهي بالفعل المصيبة التي نعاني منها حتي الآن والتي انعكست للأسف علي مستوي الطلبة والخريجين. وأدرك مشرفة خطر انشغال العلماء عن دورهم في رفعة الوطن ونسيانهم أو تناسيهم رسالتهم من أجل السعي وراء الأموال أو تكريم الغرب فقال: إن رقة حالتنا المادية لتهون إلي جانب تشرذمنا المعنوي, فالعلماء الذين قاموا بتسخير الطاقة الذرية لخدمة بلادهم إنما فعلوا ذلك بباعث من الإيمان بحق وطنهم عليهم(..) إن لنا ثقافة تليدة( عريقة) يحق لنا أن نفخر بها, أفلم يأن أن تفخر هي بنا. وللأسف لم يتغير الحال فمازال علماؤنا يرحلون عن وطنهم في ظاهرة تعرف بهجرة أو نزيف العقول, وإن كنا تلتمس العذر للبعض الذين ضاقت بهم سبل الحياة والبحث العلمي إلا أنه يجب أن تكون لنا وقفة مع الكثيرين ممن أنستهم الغربة وطنهم الذي أنفق علي تعليمهم وتمادوا في البعد بحجج وهمية مثل الحجة الدستورية الشهيرة مرافق الزوجة هذه الحجة التي أثرت بشكل حاد علي العملية التعليمية والبحثية في الكثير من مؤسسات البحث العلمي والتعليم. وهو ما نتمني مراجعته بعد الثورة خلال منظومة اصلاح التعليم العالي. وبعد أكثر من نصف قرن علي وفاته, قدمت الدراما المصرية عملا يتناول سيرته الذاتية مما ألقي الضوء علي حياة هذا العالم الجليل ومواقفه, فتحية لمن قام وشارك في تقديم هذا العمل الذي يعد أول عمل عن شخصية علمية مصرية وهو اتجاه نأمل تكراره بعد الثورة وبشكل أكثر بريقا وجاذبية لتشجيع الشباب علي البحث العلمي. لقد قدم هذا العالم الجليل الكثير لوطنه دون انتظار للتكريم, فلم يحصل من المجتمع العلمي المصري إلا علي مدرج ومعمل باسمه في جامعة القاهرة التي قضي بها عمره كله, ولو طالب البعض بأن تسمي باسمه لكان أقل مما يستحق نظير تفانيه في خدمة وطنه.