يقال عن القرن العشرين إنه عصر ثوري حدث فيه مولد نظريات علمية جديدة ونظريات أخري قديمة. ولدت الفيزياء النووية في عام1900 عندما أعلن ماكس بلانك أن طاقة الضوء لها كمية. وهذه الكمية عبارة عن جسيمات ضئيلة الحجم بحيث لا تري. وكان الرأي السائد قبل ذلك هو أن الطاقة سيال متصل خال من الجسيمات. كما ولدت نظرية النسبية في عام 1905 عندما أعلن أينشتين ان ليس ثمة زمان مطلق أو مكان لأن كلا منهما نسبي. ولم تكن الفلسفة منفصلة عن هذه الولادة, فقد ولدت حركة فلسفية في عام1924 عندما التقت جماعة من علماء الفيزياء والرياضيات في فيينا, وأطلقت علي نفسها اسم حركة فيينا وكان رائد هذه الجماعة هو مورتس شليك يهودي من أصل ألماني كان قد رحل من برلين إلي فيينا لشغل أستاذ كرسي تاريخ وفلسفة العلوم التجريبية في عام 1922 وقاد الجماعة من عام1924 إلي عام 1936, وهو العام الذي قتل فيه وهو في طريقه إلي قاعة المحاضرات بأربع رصاصات من أحد طلابه السابقين. وقيل عن هذا الطالب إنه كاثوليكي متعصب كاره لليهود. كان من الممكن أن يحكم عليه بالإعدام إلا أن الحكم صدر بحبسه عشر سنوات. وعندما استولي هتلر علي النمسا في عام 1938 أطلق سراحه بدعوي أنه في قتله شليك كان مدافعا عن الحزب النازي, الأمر الذي دفع أعضاء حلقة فيينا إلي الهجرة إلي أمريكا. وأيا كان الأمر فالذي يعنينا هنا هو الكشف عن الثورة الفلسفية التي فجرها شليك وأتباعه. فماهي هذه الثورة؟ قيل في الجواب عن هذا السؤال إن هذه الجماعة قد تجاوزت رأي الفيلسوف الألماني العظيم كانط بأن العقل الانساني عاجز عن اقتناص المطلق سواء كان هذا المطلق دينيا أو سياسيا. فهذا العجز, في رأيها, مجرد وهم لأنه ليس ثمة مطلقات حتي نقول إننا عاجزون عن اقتناصها بسبب أن العقل محاصر بالمحسوسات ولا يستطيع الفكاك منها إذا أراد تجاوزها إلي ما بعدها. واستنادا إلي رأي هذه الجماعة ثمة ثلاث نتائج حتمية: النتيجة الأولي أن أي فكرة لا يمكن أن تكون صادقة إلا إذا كان لها مقابل في عالم المحسوسات. والنتيجة الثانية إلغاء العلم الذي يزعم أنه يبحث فيما وراء الطبيعة أو فيما فوق الطبيعة. والنتيجة الثالثة أن أي ايديولوجيا مثل الايديولوجيا الماركسية لن تكون علمية الطابع, لأن الايديولوجيا من حيث هي نسق من القيم ليس لها مقابل في عالم المحسوسات. وبسبب هذه النتيجة الثالثة اعتبرت حلقة فيينا معادية للماركسية وللشيوعية وما يماثلهما. وفي عام 1932 وصل إلي حلقة فيينا اثنان من شباب الفلاسفة أحدهما انجليزي هو ألفريد إير والآخر أمريكي هو كواين. تعلما الألمانية حتي يمكنهما فهم ما يدور في الحلقة, ثم عاد كل منهما إلي موطنه مبشرا بفلسفة الحلقة وكان أن أصدر ألفريد إير كتابه المشهور اللغة والصدق والمنطق (1936) تعبيرا عن فلسفة حلقة فيينا. وفي عام 1934 أصدر كارناب وهو أحد ثلاثة من رواد الحلقة كتابا عنوانه وحدة العلم يعتبر منفستو الحلقة, جاء فيه أن جميع العلوم يمكن ترجمتها إلي لغة فيزيائية, وأنه ليس في الإمكان تحويل فلسفة الحلقة إلي مذهب فلسفي مغلق. ومن هذا اختتم كتابه بهذه العبارة نحن لا ننشغل إلا بالتحليل المنطقي وبالتالي لا نتبع أي فلسفة. وفي مصر كان زكي نجيب محمود هو ممثل حلقة فيينا إذ أصدر كتابا عنوانه خرافة الميتافزيقا (1953), أي خرافة وجود موجودات متجاوزة العالم المحسوس, فاتهم بأنه خارج علي الدين. وبعد عشر سنوات أصدر طبعة ثانية لكتابه هذا مع تغيير العنوان فجعله موقف من الميتاقزيقا وبه مقدمة أنكر فيها أنه خارج علي الدين إلا أنه ترك النص الأصلي بلا تعديل ليكون شاهدا علي فكره في مرحلة عمرية معينة لأنه بعد صدور هذا الكتاب بسبع سنوات نشر كتابا عنوانه الشرق الفنان (1960). وواضح من العنوان أن الشرق ليس صالحا لمسايرة أفكار حلقة فيينا. والسؤال إذن: هل ثمة حضارتان غربية وشرقية متناقضتان أم حضارة واحدة متعددة الثقافات؟ الجواب في المقالات القادمة. المزيد من مقالات مراد وهبة