في السينما وبالذات المصرية يقع الممثل اسيرا لوجهات نظر اخري بجانب موهبته مثل ملامح وجهه ومدي وسامته وبنيانه الجسماني ونبرات صوته وبالتالي تحديد شكل الشخصية التي يضع شكل خروجها الاخير للجمهور مخرج العمل السينمائي او المسرحي. ولا يستطيع التحرر من هذا الاسر الوهمي سوي القلة الموهوبة من الممثلين, التي تأسر بأدائها العبقري وجدان ومشاعر المتفرج فتحافظ علي مكانتها الفنية رغم تقلب ظروف واحوال الفن السينمائي والمسرحي. وفي قائمة الممثلين المصريين في عالم الدراما والكوميديا اسماء كبيرة استطاعت ان تقف بادائها للدور الثاني, واحيانا لدور قصير يستغرق اداؤه بضع دقائق علي الشاشة, علي قمة التمثيل التعبيري او التشخيص الروائي, ومن هؤلاء حسين رياض ومحمود المليجي ويوسف وهبي وامينة رزق وعمر الحريري وفي الكوميديا عبد السلام النابلسي وعبد الفتاح القصري وعبد المنعم ابراهيم وعبدالمنعم مدبولي, وكل واحد من هؤلاء كان قامة فنية كبيرة كان اداؤهم للدور الثاني لا يقل تأثيرا وجاذبية عن اداء الدور الاول أو دور البطولة او ما يعرف بنجم الشباك, و الواقع ان كثيرا من هؤلاء كانوا نجوم شباك بالفعل وجودهم كان ضروريا بجانب البطل لضمان حصيلة كبيرة من وراء عرض الفيلم او المسرحية. و الفنان عمر الحريري الذي رحل عن عالمنا عن عمر مختلف عليه هل هو86 او89 سنة, ليس هذا المهم, يمثل مع ابناء جيله طلائع الممثلين المتعلمين لفن التمثيل علي ايدي الاساتذة زكي طليمات وعزيز عيد ويوسف بك وهبي وجورج ابيض, الذي كان كل منهم له فرقته ومدرسته التمثيلية الخاصة, و تتلمذ الحريري علي ايدي زكي طليمات ويوسف وهبي الذي قدمه للسينما في عام1947 لينطلق بعدها كقاسم مشترك في الادوار الثانية لعشرات الافلام في حقبة الابيض والاسود خلال عقدي الخمسينات والستينات لم يستطع خلالها الخروج من اسر اداء الدور الثاني سوي في محاولة واحدة يبدو انها لم تنجح جماهيريا في عام1955 بفيلم' اغلي من عيني' من اخراج عز الدين ذو الفقار, والارجح ان الجمهور التقليدي في ذلك الوقت لم يستطع ان يغير انطباعه الشخصي عن عمر الحريري كفتي طيب ذو ملامح هادئة يكون في ركاب البطل او البطلة ومساهما في الانقاذ وليس مخلصا مثل البطل السينمائي. و قدرات عمر الحريري في الاداء البسيط والسلس للشخصية, والتي كان يعرفها جيدا المخرجون, عكست ليس فقط موهبته الكبيرة وحضوره المؤثر في العمل ولكن فهمه ودراسته لمدرسة' استوديو الممثل' للفنان الروسي قسطنطين ستنسلافيسكي في تقمص الشخصية, ظهرت بوضوح في ادائه العبقري لشخصية ملك فرنسا في فيلم الناصر صلاح الدين, وهي نفس المدرسة التي كان يؤمن بها مخرج العمل يوسف شاهين. في هذا الدورتجلت قدرات الحريري في تقمص الشخصية كما فهمها الطرفان هو والمخرج فخرجت معبرة في كل تفاصيلها الخارجية والداخلية عن شخصية ملك فرنسي مرفه انتهازي يطمح ويسعي لسرقة كنوز الشرق. كما تجلت هذه القدرات في تمثيله لدور صغير لم يستغرق عرضه سوي بضع دقائق علي الشاشة في فيلم' معالي الوزير', متشابه في المساحة الزمنية مع الدور الذي اداه الممثل الامريكي مارلون براندو في فيلم' نهاية العالم الان' الذي دارت احداثه عن مآسي حرب فيتنام. هذه القدرات التشخيصية للحريري سارت جنبا لجنب مع قناعته باهمية الدور المجتمعي للفنان باغترابه لخمس سنوات في ليبيا لانشاء وتأسيس المسرح الشعبي واعداد كوادره, عاد بعدها للمسرح و ليعلب دورا مهما في تقديم الدراما الدينية الناضجة من خلال التليفزيون وايضا من خلال الدور الثاني في مسلسلات مثل عمربن عبد العزيز وابن ماجه والقضاء في الاسلام وغيرها, مدركا اهمية التليفزيون في تثقيف الشعوب بحقيقة دينهم وتاريخهم. وبرحيل الحريري نكون قد فقدنا فنانا كبيرا من الزمن الجميل لم ينظر لحجم الدور الذي يؤديه ولكنه آمن باهمية اتقان العمل الذي يؤديه وبرسالته في الحياة, وهذا ما نفتقده هذه الايام. رحم الله عمر الحريري.