طلاب جامعة الأقصر يشاركون في ختام البرنامج التدريبي لقادة المستقبل    البنك الأوروبي لإعادة الإعمار يقدم 3 ملايين دولار لخط التمويل التجاري مع بنك القدس    النائب أحمد عثمان: قانون التصالح في مخالفات البناء تضمن تيسيرات عديدة    وزير الاتصالات يبحث مع سفير التشيك تعزيز التعاون بمجالات التحول الرقمي    استمرار تراجع العملة النيجيرية رغم تدخل البنك المركزي    رئيس الوزراء الإسباني سيعلن الأربعاء موعد اعتراف بلاده بدولة فلسطين    ممثل جنوب أفريقيا بالعدل الدولية: يجب حماية المدنيين الفلسطينيين ومحاسبة مجرمي الحرب    جيش الاحتلال يستهدف مناطق شرق دير البلح وسط قطاع غزة    أوكرانيا تسعى جاهدة لوقف التوغل الروسي فى عمق جبهة خاركيف الجديدة    وزير الشباب ومحافظ القاهرة يفتتحان المشروع المتكامل الأول بالتجمع الأول    سيفاس سبور يهزم إسطنبول في الدوري التركي    مصرع شخص وإصابة آخرين في حادث تصادم بصحراوي سمالوط في المنيا    «السكة الحديد» تعلن إيقاف بعض القطارات بصفة مؤقتة أيام الجمع والعطلات الرسمية    إصابة 4 أشخاص في حريق 7 منازل و4 أحواش ماشية بسوهاج    حريق هائل يلتهم محتويات شقة سكنية في إسنا ب الأقصر    شريهان في عيد ميلاد الزعيم: دمت لنا علم مصري مبدع وعظيم نفتخر به    ديمي مور بفستان أحمر في العرض العالمي لفيلم KINDS OF KINDNESS بمهرجان كان (فيديو)    الصورة الأولى من تجهيزات حفل زفاف شقيقة المخرج محمد سامي    بعد غلق دام عامين.. الحياة تعود من جديد لمتحف كفافيس في الإسكندرية (صور)    طيران الاحتلال يغتال القيادي بحماس في لبنان شرحبيل السيد «أبو عمرو» بقصف مركبة    فيديو.. المفتي: حب الوطن متأصل عن النبي وأمر ثابت في النفس بالفطرة    مدير إدارة المستشفيات بالشرقية يتفقد سير العمل بمستشفى فاقوس    حسام موافي يوضح أعراض الإصابة بانسداد الشريان التاجي    "بسبب سلوكيات تتعارض مع قيم يوفنتوس".. إقالة أليجري من منصبه    تاتيانا بوكان: سعيدة بالتجديد.. وسنقاتل في الموسم المقبل للتتويج بكل البطولات    توخيل يؤكد تمسكه بالرحيل عن بايرن ميونخ    "بموافقة السعودية والإمارات".. فيفا قد يتخذ قرارا بتعليق عضوية إسرائيل    سوليفان يزور السعودية وإسرائيل بعد تعثر مفاوضات الهدنة في غزة    عمر الشناوي حفيد النجم الكبير كمال الشناوي في «واحد من الناس».. الأحد المقبل    عمرو يوسف يحتفل بتحقيق «شقو» 70 مليون جنيه    بريطانيا تتهم روسيا بتزويد كوريا الشمالية بالنفط مقابل السلاح    علماء الأزهر والأوقاف: أعلى الإسلام من شأن النفع العام    4 وحدات للمحطة متوقع تنفيذها في 12 عاما.. انتهاء تركيب المستوى الأول لوعاء الاحتواء الداخلي لمفاعل الوحدة الأولى لمحطة الضبعة النووية    بالصور.. رئيس مدينة المنيا يفتتح مسجدين جديدين    أحمد السقا: أنا هموت قدام الكاميرا.. وابني هيدخل القوات الجوية بسبب «السرب»    دعاء آخر ساعة من يوم الجمعة للرزق.. «اللهم ارزقنا حلالا طيبا»    الوضع الكارثى بكليات الحقوق    بعجينة هشة.. طريقة تحضير كرواسون الشوكولاتة    وزارة العمل تعلن عن 2772 فُرصة عمل جديدة فى 45 شركة خاصة فى 9 مُحافظات    رئيس جهاز دمياط الجديدة يستقبل لجنة تقييم مسابقة أفضل مدينة بالهيئة للعام الحالي    موعد عيد الأضحى المبارك 2024.. بدأ العد التنازلي ل وقفة عرفات    «جمارك القاهرة» تحبط محاولة تهريب 4 آلاف قرص مخدر    «تقدر في 10 أيام».. موعد مراجعات الثانوية العامة في مطروح    إعلام فلسطيني: شهيدان ومصاب في قصف إسرائيلي استهدف مواطنين بحي الزهور    «المستشفيات التعليمية» تكرم المتميزين من فرق التمريض.. صور    بالصور- التحفظ على 337 أسطوانة بوتاجاز لاستخدامها في غير أغراضها    المقاومة الإسلامية في العراق تقصف هدفا إسرائيليا في إيلات بالطيران المسيّر    «المرض» يكتب النهاية في حياة المراسل أحمد نوير.. حزن رياضي وإعلامي    قافلة دعوية مشتركة بين الأوقاف والإفتاء والأزهر الشريف بمساجد شمال سيناء    في اليوم العالمي ل«القاتل الصامت».. من هم الأشخاص الأكثر عُرضة للإصابة به ونصائح للتعامل معه؟    كيف يمكنك حفظ اللحوم بشكل صحي مع اقتراب عيد الأضحى 2024؟    أوقاف دمياط تنظم 41 ندوة علمية فقهية لشرح مناسك الحج    الاتحاد العالمي للمواطن المصري: نحن على مسافة واحدة من الكيانات المصرية بالخارج    سعر جرام الذهب في مصر صباح الجمعة 17 مايو 2024    «الإفتاء» تنصح بقراءة 4 سور في يوم الجمعة.. رددها 7 مرات لتحفظك    أحمد سليمان: "أشعر أن مصر كلها زملكاوية.. وهذا موقف التذاكر"    بعد حادثة سيدة "التجمع".. تعرف على عقوبات محاولة الخطف والاغتصاب والتهديد بالقتل    «الأرصاد»: ارتفاع درجات الحرارة اليوم.. والعظمى في القاهرة 35 مئوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رقة الحرف تلين الحجر
الجدران تؤرخ لخطوط أصابها عقوقنا البصري بالغربة !
نشر في أخبار الأدب يوم 20 - 06 - 2015

الحجر الأصم ! كلمتان ترتبطان عادة في مصطلح واحد يجمع الصفة بالموصوف كأمر واقع . لكن الخط العربي جعل الحجر يستمع لأنامل الفنانين ويستجيب لأوامرها متحولا إلي كائن ناطق . يضفي علي العمارة الضخمة رقة تمنحها طبيعة أخري . إنه الجمال الناتج عن الجمع بين متناقضات صلادة الحجر وضخامة البناء ونعومة الحرف ! وقد أسفرت هذه المعادلة عن خدمات متبادلة ، فمثلما أعار الخط للعمارة رقته ، ساهمت المنشآت الضخمة في ازدهاره فنيا ، وكان العامل المشترك هو آيات القرآن الكريم وأبيات القصائد الدينية التي تألقت علي الجدران . وحتي اليوم لا تزال تجذب أنظار الزائرين ، ولكل منهم هدف ، فهناك من يرغب في إمتاع بصره بتحف فنية حقيقية ، بينما يركز آخرون في محاولة قراءة نصوصها التي تتداخل فيها الحروف . وبين المتعة واللعبة يظل الخط العربي هو البطل .
في مرحلة أولي من حياتي زرت مسجد محمد علي بالقلعة ، تباريت مع زملائي في قراءة النصوص التي بدت لنا كطلاسم شفرة غامضة ، تعبر عن عالم سحري قادم من أعماق الماضي . وبعدها بسنوات زرت الجامع أكثر من مرة ، كنت أكثر دراية وخبرة ، لهذا أدركت سبب عجز طفولتنا عن الاستيعاب ، فالمسجد معرض متكامل يجمع النصوص الفارسية والتركية مع العربية ، أعيد قراءة نص التأسيس الذي يرجح أن كاتبه هو عبد الغفار بيضا خاوري : " جامع بر وحسان ذات محاسن عنوان .. صرف ايدر خيره نقود همي آن بان .. مقتداي عظما راتبه بحسن علما " ، النص طويل لكن ترجمة السطور التركية السابقة هي : " اتخذ من البر والإحسان عنوانا له .. يصرف النقود في أمور الخير كل لحظة .. يقتدي بالعظماء وحسن معشر العلماء " .
يتميز المسجد بكتابات عدد هائل من الخطاطين ، فقد ترك كل منهم بصمة واضحة تظهر مدي تمكنه في فنه ، وتحيط به من ثلاث جهات نصوص كتابية بالخط الفارسي عن قصيدة نظمها الشيخ محمد شهاب الدين ، مطلعها : " ألا وهو قطب الوقت غيث زمانه ... منار الهدي المقصود في كل مقصد معاليه جلت عن نظير وأصبحت ... تباهي جميع العالمين بمفرد "، وقد وقع الخطاط الذي كتبها :" راقمه بنده حقير وفائي حسن 1267" .
كما كتب ميرزا سنجلاخ الخراساني عددا من كتابات المسجد أهمها تلك الموجودة علي قبة الوضوء بالصحن ، وهي مقامة علي ثمانية أعمدة تحمل عقودا تكون منشورا ثماني الأضلاع فوق رفرف به زخارف بارزة ، ومحلاة بنقوش تمثل مناظر طبيعية . وبداخل القبة قبة أخري رخامية ثمانية الأضلاع ، تحمل بالعرض بحورا كتابية مستطيلة مقسمة إلي ثلاث مساحات أفقية ، الوسطي هي الرئيسية وتتضمن آية قرآنية وحديثا نبويا ، أما باقي المساحات فتضم أبيات شعرية باللغة الفارسية .
خطوط المعز
في شارع المعز يقف سبيل محمد علي صامدا ، وسط عدد من المجموعات المملوكية الضخمة يستطيع أن يجذب الأنظار رغم حجمه الضئيل مقارنة بها ، تصعد عين المار تدريجيا لتمر علي نقوش جدرانه ونوافذه ، ثم تستقر علي اللوحات الخطية التي تبدو أقرب للناظر من تلك الموجودة علي جدران المساجد . القرب يخلق حالة من الحميمية رغم اللغة غير المفهومة ، فالنصوص مكتوبة بالتركية ، ومما ورد فيها : " سوره كوثر له استقبال ايدوب دلتشنه بي .. جاغيلوب زور قلدي دير له كل ايج آب حيات .. منبع فيض عطايا ايده حق در كاهني .. زمزم احساننه مستغرق أو لسون كائنات .. ساميا عطشانه تسبيل ايلرم تاريخ ايله .. كل كوزم عين علي باشا دن آل ماء الحياة " . كتب الخطاط أسعد سمرقندي كتابات السبيل ، وتعني السطور السابقة :" مياه نهر الكوثر كانت تواجه العطش قائلة ..تعالي اشرب مياه الحياة .. التي صنعها الله من فيض عطائه .. ومنحها للكائنات لتغمرها هذه النعم .. أنا سامي أسبل هذا الماء للعطشي مؤرخا : .. تعالي يا عزيزي خذ مياه الحياة من نبع علي باشا " .
علي مقربة من السبيل يرتفع بنيان مسجد وسبيل سليمان أغا السلحدار ، وقد بناه صاحبه علي الطراز العثماني ، وواجهته المطلة علي شارع المعز تشمل واجهات المسجد والمدرسة والسبيل ، وعلي واجهة السبيل خمسة مستطيلات يحتوي كل منها نص من سطرين باللغة التركية ، ومن بينها : " لذة للشاربين خمر عسلدان مستعار .. اب احيادر دماغ مصره بو كوثر رحيل .. جنت الفردوسة دونوروبش بوجاي دلكشي .. نحنها الأنهار فيلمش منزلن مجراي النيل " . وترجمتها : " لذة للشاربين أحلي من العسل .. هذا السبيل الكوثر الجليل ماء الحياة للمصريين .. حول هذا المكان إلي جنة الفردوس .. وجعل نهر النيل بمثابة الجنة التي تجري من تحتها الأنهار ".
في درب الجماميز يقع مسجد بشتاك الذي أنشأه الأمير بشتاك الناصري ، وأمرت والدة الأمير مصطفي فاضل بتجديده ، حسبما يتضح من نص يعلو المدخل كتبه حسين نديم الشيرازي ، بالخط الفارسي لكنه باللغة العربية ، وجاء فيه : " بنت مسجدا شكرا ويا حبذا الشكر .. علي نعم جلت وليس لها حصر .. وجادت ببذل المال حبا لربها .. كريمة كف وصفها الجود والبشر ". وتتعدد كتابات نديم في الجدار الشمالي الشرقي ، والجنوبي الغربي ، وأعلي المحراب .
وحدة النص
ربما تبدو بعض الأماكن السابقة مجرد أسماء لدي الكثيرين ، يعرفونها بحكم شهرتها دون أن يعلموا كيفية الوصول إليها ، وحتي من يصلون إليها قد ينشغلون بعمارتها ، بينما تظل الخطوط مجرد طقس شكلي يكملون به علامات انبهارهم بما يرونه ، لكن في المقابل توجد أماكن أخري أكثر ارتباطا بالوجدان الشعبي ، يزورها الآلاف يوميا لأداء الصلاة بحكم وجودها بالقرب منهم ، تطل عليهم الكتابات من أعلي وهي تشعر بالوحدة ، وتشتاق لعيون تتطلع بها وتخفف من غربتها ، لكن الزائرين يدخلون لأداء الفرض الديني دون أن ينتبهوا إلي أن هناك بالأعلي حروفا تتشابك في تكوينات جمالية رائعة ، وربما لا يذكر بعضهم آخر مرة تطلع لها ، وكم من الوقت انجذبت عيناه لما يراه وانشغل به ، هكذا يمضي الحال عادة في مساجد : الرفاعي ، الشافعي ، الحسين ، السيدة زينب ، السيدة نفيسة ، المؤيد شيخ ، والعشرات غيرها . إنه الاعتياد الذي يفقد الإحساس طزاجته !
في عام 1176 أنشأ صلاح الدين الأيوبي مدرسة بجوار قبة الشافعي ، عرفت بالمدرسة الصلاحية ، ويعتبر الضريح الموجود بها أقدم الأبنية الدينية التي خلفها سلاطين بني أيوب ، ويضم رفات الشافعي والأميرة شمسة زوجة صلاح الدين ، ورفات والدة الملك الكامل . وعندما تهدمت المدرسة أنشأ الأمير عبد الرحمن كتخدا مسجدا مكانها ، وحين تصدع أمر الخديو توفيق بتجديد الضريح و المسجد و توسعته ، وتم ذلك عام 1892 علي طراز مساجد تلك الحقبة . وقد كتب الخطاط محمد أمين الزهدي نص إنشائه ، وكتابات أخري فوق المحراب . حيث ورد في نص الإنشاء :" قد أمر بإنشاء هذا المسجد الأنيق للشافعي ذي العلم العميق خديو مصر الأفخم محمد توفيق " . أما كتابات المحراب فوردت فيها الآية الكريمة : " وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة واركعوا مع الراكعين ".
وفي مسجد السيدة نفيسة توجد تركيبات أخري بديعة من الحروف ، تبدأ من مدخله كالعادة ، وتمتد بكل أرجائه ، تغلب الآيات القرآنية علي الكتابات العربية ، غير أن مدخل الضريح يعلوه بيت من الشعر : " يا من أتي متوسلا بنفيسة .. ابشر بنيل القصد و الإسعاد " .
وسط الميدان الصاخب يقف مسجد السيدة زينب شامخا ، زحام المارة والسيارات كفيل بأن تنشغل العيون بما يحيط بها ، لتقي أصحابها من أخطار محتملة ، وحين يحل الخطر يتراجع الإحساس بالجمال ، وتصبح خطوط الفنان محمد جعفر البديعة وحيدة رغم الزحام المحيط ، تعلو باب المسجد في صمت لا تستطيع الضوضاء أن تقطعه .
لا يختلف الحال في بقية المساجد والأبنية ، فجدرانها شواهد راسخة تحمل ملايين الأحرف التي تشكل معا لوحات خطية جذابة ، قد تشعر بالوحدة أحيانا ، لكن عقوقنا البصري لها لا يفقدها حيويتها ، تلك الحيوية التي تتبدي لنا كلما قررنا فجأة أن نتذكرها .
الحجر الأصم ! كلمتان ترتبطان عادة في مصطلح واحد يجمع الصفة بالموصوف كأمر واقع . لكن الخط العربي جعل الحجر يستمع لأنامل الفنانين ويستجيب لأوامرها متحولا إلي كائن ناطق . يضفي علي العمارة الضخمة رقة تمنحها طبيعة أخري . إنه الجمال الناتج عن الجمع بين متناقضات صلادة الحجر وضخامة البناء ونعومة الحرف ! وقد أسفرت هذه المعادلة عن خدمات متبادلة ، فمثلما أعار الخط للعمارة رقته ، ساهمت المنشآت الضخمة في ازدهاره فنيا ، وكان العامل المشترك هو آيات القرآن الكريم وأبيات القصائد الدينية التي تألقت علي الجدران . وحتي اليوم لا تزال تجذب أنظار الزائرين ، ولكل منهم هدف ، فهناك من يرغب في إمتاع بصره بتحف فنية حقيقية ، بينما يركز آخرون في محاولة قراءة نصوصها التي تتداخل فيها الحروف . وبين المتعة واللعبة يظل الخط العربي هو البطل .
في مرحلة أولي من حياتي زرت مسجد محمد علي بالقلعة ، تباريت مع زملائي في قراءة النصوص التي بدت لنا كطلاسم شفرة غامضة ، تعبر عن عالم سحري قادم من أعماق الماضي . وبعدها بسنوات زرت الجامع أكثر من مرة ، كنت أكثر دراية وخبرة ، لهذا أدركت سبب عجز طفولتنا عن الاستيعاب ، فالمسجد معرض متكامل يجمع النصوص الفارسية والتركية مع العربية ، أعيد قراءة نص التأسيس الذي يرجح أن كاتبه هو عبد الغفار بيضا خاوري : " جامع بر وحسان ذات محاسن عنوان .. صرف ايدر خيره نقود همي آن بان .. مقتداي عظما راتبه بحسن علما " ، النص طويل لكن ترجمة السطور التركية السابقة هي : " اتخذ من البر والإحسان عنوانا له .. يصرف النقود في أمور الخير كل لحظة .. يقتدي بالعظماء وحسن معشر العلماء " .
يتميز المسجد بكتابات عدد هائل من الخطاطين ، فقد ترك كل منهم بصمة واضحة تظهر مدي تمكنه في فنه ، وتحيط به من ثلاث جهات نصوص كتابية بالخط الفارسي عن قصيدة نظمها الشيخ محمد شهاب الدين ، مطلعها : " ألا وهو قطب الوقت غيث زمانه ... منار الهدي المقصود في كل مقصد معاليه جلت عن نظير وأصبحت ... تباهي جميع العالمين بمفرد "، وقد وقع الخطاط الذي كتبها :" راقمه بنده حقير وفائي حسن 1267" .
كما كتب ميرزا سنجلاخ الخراساني عددا من كتابات المسجد أهمها تلك الموجودة علي قبة الوضوء بالصحن ، وهي مقامة علي ثمانية أعمدة تحمل عقودا تكون منشورا ثماني الأضلاع فوق رفرف به زخارف بارزة ، ومحلاة بنقوش تمثل مناظر طبيعية . وبداخل القبة قبة أخري رخامية ثمانية الأضلاع ، تحمل بالعرض بحورا كتابية مستطيلة مقسمة إلي ثلاث مساحات أفقية ، الوسطي هي الرئيسية وتتضمن آية قرآنية وحديثا نبويا ، أما باقي المساحات فتضم أبيات شعرية باللغة الفارسية .
خطوط المعز
في شارع المعز يقف سبيل محمد علي صامدا ، وسط عدد من المجموعات المملوكية الضخمة يستطيع أن يجذب الأنظار رغم حجمه الضئيل مقارنة بها ، تصعد عين المار تدريجيا لتمر علي نقوش جدرانه ونوافذه ، ثم تستقر علي اللوحات الخطية التي تبدو أقرب للناظر من تلك الموجودة علي جدران المساجد . القرب يخلق حالة من الحميمية رغم اللغة غير المفهومة ، فالنصوص مكتوبة بالتركية ، ومما ورد فيها : " سوره كوثر له استقبال ايدوب دلتشنه بي .. جاغيلوب زور قلدي دير له كل ايج آب حيات .. منبع فيض عطايا ايده حق در كاهني .. زمزم احساننه مستغرق أو لسون كائنات .. ساميا عطشانه تسبيل ايلرم تاريخ ايله .. كل كوزم عين علي باشا دن آل ماء الحياة " . كتب الخطاط أسعد سمرقندي كتابات السبيل ، وتعني السطور السابقة :" مياه نهر الكوثر كانت تواجه العطش قائلة ..تعالي اشرب مياه الحياة .. التي صنعها الله من فيض عطائه .. ومنحها للكائنات لتغمرها هذه النعم .. أنا سامي أسبل هذا الماء للعطشي مؤرخا : .. تعالي يا عزيزي خذ مياه الحياة من نبع علي باشا " .
علي مقربة من السبيل يرتفع بنيان مسجد وسبيل سليمان أغا السلحدار ، وقد بناه صاحبه علي الطراز العثماني ، وواجهته المطلة علي شارع المعز تشمل واجهات المسجد والمدرسة والسبيل ، وعلي واجهة السبيل خمسة مستطيلات يحتوي كل منها نص من سطرين باللغة التركية ، ومن بينها : " لذة للشاربين خمر عسلدان مستعار .. اب احيادر دماغ مصره بو كوثر رحيل .. جنت الفردوسة دونوروبش بوجاي دلكشي .. نحنها الأنهار فيلمش منزلن مجراي النيل " . وترجمتها : " لذة للشاربين أحلي من العسل .. هذا السبيل الكوثر الجليل ماء الحياة للمصريين .. حول هذا المكان إلي جنة الفردوس .. وجعل نهر النيل بمثابة الجنة التي تجري من تحتها الأنهار ".
في درب الجماميز يقع مسجد بشتاك الذي أنشأه الأمير بشتاك الناصري ، وأمرت والدة الأمير مصطفي فاضل بتجديده ، حسبما يتضح من نص يعلو المدخل كتبه حسين نديم الشيرازي ، بالخط الفارسي لكنه باللغة العربية ، وجاء فيه : " بنت مسجدا شكرا ويا حبذا الشكر .. علي نعم جلت وليس لها حصر .. وجادت ببذل المال حبا لربها .. كريمة كف وصفها الجود والبشر ". وتتعدد كتابات نديم في الجدار الشمالي الشرقي ، والجنوبي الغربي ، وأعلي المحراب .
وحدة النص
ربما تبدو بعض الأماكن السابقة مجرد أسماء لدي الكثيرين ، يعرفونها بحكم شهرتها دون أن يعلموا كيفية الوصول إليها ، وحتي من يصلون إليها قد ينشغلون بعمارتها ، بينما تظل الخطوط مجرد طقس شكلي يكملون به علامات انبهارهم بما يرونه ، لكن في المقابل توجد أماكن أخري أكثر ارتباطا بالوجدان الشعبي ، يزورها الآلاف يوميا لأداء الصلاة بحكم وجودها بالقرب منهم ، تطل عليهم الكتابات من أعلي وهي تشعر بالوحدة ، وتشتاق لعيون تتطلع بها وتخفف من غربتها ، لكن الزائرين يدخلون لأداء الفرض الديني دون أن ينتبهوا إلي أن هناك بالأعلي حروفا تتشابك في تكوينات جمالية رائعة ، وربما لا يذكر بعضهم آخر مرة تطلع لها ، وكم من الوقت انجذبت عيناه لما يراه وانشغل به ، هكذا يمضي الحال عادة في مساجد : الرفاعي ، الشافعي ، الحسين ، السيدة زينب ، السيدة نفيسة ، المؤيد شيخ ، والعشرات غيرها . إنه الاعتياد الذي يفقد الإحساس طزاجته !
في عام 1176 أنشأ صلاح الدين الأيوبي مدرسة بجوار قبة الشافعي ، عرفت بالمدرسة الصلاحية ، ويعتبر الضريح الموجود بها أقدم الأبنية الدينية التي خلفها سلاطين بني أيوب ، ويضم رفات الشافعي والأميرة شمسة زوجة صلاح الدين ، ورفات والدة الملك الكامل . وعندما تهدمت المدرسة أنشأ الأمير عبد الرحمن كتخدا مسجدا مكانها ، وحين تصدع أمر الخديو توفيق بتجديد الضريح و المسجد و توسعته ، وتم ذلك عام 1892 علي طراز مساجد تلك الحقبة . وقد كتب الخطاط محمد أمين الزهدي نص إنشائه ، وكتابات أخري فوق المحراب . حيث ورد في نص الإنشاء :" قد أمر بإنشاء هذا المسجد الأنيق للشافعي ذي العلم العميق خديو مصر الأفخم محمد توفيق " . أما كتابات المحراب فوردت فيها الآية الكريمة : " وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة واركعوا مع الراكعين ".
وفي مسجد السيدة نفيسة توجد تركيبات أخري بديعة من الحروف ، تبدأ من مدخله كالعادة ، وتمتد بكل أرجائه ، تغلب الآيات القرآنية علي الكتابات العربية ، غير أن مدخل الضريح يعلوه بيت من الشعر : " يا من أتي متوسلا بنفيسة .. ابشر بنيل القصد و الإسعاد " .
وسط الميدان الصاخب يقف مسجد السيدة زينب شامخا ، زحام المارة والسيارات كفيل بأن تنشغل العيون بما يحيط بها ، لتقي أصحابها من أخطار محتملة ، وحين يحل الخطر يتراجع الإحساس بالجمال ، وتصبح خطوط الفنان محمد جعفر البديعة وحيدة رغم الزحام المحيط ، تعلو باب المسجد في صمت لا تستطيع الضوضاء أن تقطعه .
لا يختلف الحال في بقية المساجد والأبنية ، فجدرانها شواهد راسخة تحمل ملايين الأحرف التي تشكل معا لوحات خطية جذابة ، قد تشعر بالوحدة أحيانا ، لكن عقوقنا البصري لها لا يفقدها حيويتها ، تلك الحيوية التي تتبدي لنا كلما قررنا فجأة أن نتذكرها .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.