بدأ كل شيء مع وعي الطفل أن نظرته لكل ما حوله تنتمي لذات تقف في مواجهة العالم، علي مسافة تُقاس بعدد الاحتمالات والخيارات المطروحة، هل أنا جزء من كل ما يدور حولي؟ هل أنا مختلف؟ هل الصواب في الحفاظ علي هذه المسافة، أم في تبديدها؟؟ الطفل الذي سيترك ذ طوعا ذ قيادته لآخرين سيلتفت متأخرا إلي ما يمارسه من لعبة مدمرة؛ حين يتعامل مع المسافة بالتجاهل تارة وبالوعي تارة أخري... لعبة سيدرك بعد بلوغه الأربعين كم تتآكل بسببها روحه... وسيبقي الوعي بالذات نقطة البداية لكل ما يعول عليه في الحياة... في مواجهة العالم تتسلح الذات بالخيال الذي يبقي كامنا ريثما تحقق الحواس رصيدا من الخبرة يقوي ذبغض النظر عن حجمهذ علي تفعيل الخيال الكامن الذي سينطلق ببراءة تعوقه عن ملاحظة الحدود بين ما نسميه تجاوزا الواقع وبين ما هو غير ذلك، حتي إذا ما اضطربت الذات، لجأت إلي السؤال.... السؤال الذي لا ينتهي رغم أنف الإجابات المحبطة وضجر الكبار وجديتهم الزائفة... لتأتي في مرحلة متأخرة القراءة... بحثا عن إجابات ثم بدافع الشغف ثم تستقر بيد العادة وبما تحققه من متعة... القراءة انعكاس صادق للحياة ... حتي الكتب السيئة بما تمثله من نسبة غالبة، تذكرنا أن الجمال حولنا استثناء والقبح والتفاهة هما المشاع الذي في متناول الوجود... كما لا تنسي القراءة أن تعلمنا التمسك بالأمل، فدائما ثمة باب ضيق تنفذ منه إلي عالم أكثر رحابة وأكثر جمالا.... الباب ذاته موجود في الحياة من حولنا فقط نحتاج إلي الوعي بالذات في قوتها وفي ضعفها وفيما تملكه وفيما تحتاجه بصدق... عندها سنقطع الطريق نحو ذلك الباب.. وسيفاجئنا كم كان قريبا منا!! لا يحتاج الشاعر لمن يرشده إلي حقيقة أنه شاعر.. هو يعرف ذلك، ويعرف أنه من الضروري الإطلاع علي أعمال من سبقوه، وفي حالة كون الشاعر عربيا؛ يصير تعبير من سبقوه غير مطابق لمقتضي الحال؛ لأنه يشير إلي منجز إبداعي يمتد لأكثر من ألفي عام هذا الرقم بمزيد من التجاوز... منجز فادح في عظمته وفادح في كم الغث وتنوعه.... الغث في ذاته والغث بقراءته خارج سياقه الاجتماعي والحضاري، والغث الذي تقول أنه غث بينك وبين ذاتك فقط ولا تجرؤ علي الجهر به... والغث الذي تواطأ الجميع من حولك مدعين أنه غير ذلك... حتي يضيق بك الحال ويصيبك الكرب، فتهرب إلي التجارب الحداثية أو الطليعية أو التجريبية، وتتخفف من سلطة الماضي وهوائه الراكد باللجوء إلي الترجمة سعيدا بحماقة أن ماضي النصوص المترجمة لا يعنيك في شيء... بعدها لن تطيق النظر فيما تكتبه؛ لأنه ببساطة ليس أنت... ستبقي قصيدة النثر اليوم وغدا وبعد غد كما قلت عنها في شهادة سابقة منذ ثلاث سنوات، تلك القديسة شفيعة الخيبات... ليس فقط لأنها تصدر عن ذات غارقة في خيباتها، بل لأن لها من السحر ما ينأي بهذه الخيبات بعيدا عن ابتذال السخرية وكآبة النواح وحماقة الفخر بها! قصيدة النثر تضع خيباتنا علي درجة غامضة من الوجود، بعيدة عن الأرضي المبتذل وبعيدة عن السماوي المقدس، درجة من الوجود لا تملك لها تعريفا، فقط تستشعر أثرها في قيلولة البلدات الصغيرة وأمسيات الضواحي! هل من اللباقة أن أحدثكم الآن عن حلمي بكتابة ديوان لا أعرف عنه أي شيء سوي عنوانه: في مديح البلدات الصغيرة؟!! إن كان ثمة يقين بشأن قصيدة النثر، فهو يقين شخصي وحيد... يتمثل في قراري بالتجاهل التام للسؤال: ولماذا تكتب قصيدة النثر؟؟ السؤال الذي طالما تعرضت له بلهجة واحدة لا تتغير رغم تغير السائلين والمكان والزمان، لهجة من يسألك: لماذا أنت بعين واحدة في منتصف رأسك؟ أو لماذا تحمل جرابا في بطنك أيها الكانجارو؟؟! أشعر أن علاقتي باللغة تتسم بالثراء، أتعامل في حياتي اليومية باللهجة العامية، أحب الكثير من الأغاني منها المكتوب العامية ومنها المكتوب بالفصحي، أحب شعر العامية سماعا لا قراءة، الكتابية تسلب روح الشعر من قصيدة العامية، لا أستطيع أن افكر أو أصوغ الفكر إلا بالفصحي، نعم لا تخلو من الأخطاء لكنني لا أستطيع غير ذلك، وفي الحلم تتحدث الشخوص لغات عدة منها ما أجهله ومنها الفصحي والعامية! هذا انا وهذه ذاتي ولا يمثل لي الأمر أي اضطراب بل ثراء وتنوع. ذات مرة شخص الصديق الشاعر ياسر عبد اللطيف عجزي عن قراءة شعر العامية، أن الاحتكاك المبكر لي مع النص المكتوب جاء مع القرآن الكريم. وهذا تشخيص قوي لأبعد الحدود، فقد بدأ أبي تحفيظي القرآن الكريم قبل حتي أن أعرف الحروف، ثم علمني القراءة عن طريق المصحف الشريف، صحيح أن مشروع تحفيظي القرآن كاملا فشل مبكرا، لكن بقيت لي منه حسنات كثيرة ذ أو هكذا أراها ذ ومنها أن كل ما هو قابل للقراءة لا بد أن يكون مكتوبا باللغة الفصحي. جماليات وفنيات قصيدة النثر تتميز بأنها حية، ليست مطلقة في ذاتها، بل تنمو عبر جدلية علاقتها ببقية العناصر داخل القصيدة، لذلك عناصر مثل الإيجاز والتوهج والمجانية ليست كافية لصنع قصيدة نثر، واستعمالهم علي نحو منفصل وقاصر يصل بالنص إلي لا شيء، لا بد من تفاعل هذه العناصر عبر ( رؤية ) بحثية، فإذا حق لي أن أضيف اسما إلي القائمة الطويلة الواصفة للشاعر: المنشد، النبي، الرائي معطل الحواس... فأظن -وقد أكون مخطئا- أنه الشاعر الباحث، بحثه يبدأ من الذات دون أي شروط مسبقة اللهم إلا شرط الحركة الطليقة غير الموجهة سلفا، ودون أي تحديد لمسارات، ربما ينحو الشاعر ببحثه نحو الذات أو نحو العالم أو نحو المسافة القائمة بينهما..... هذه مجرد احتمالات والشاعر لا يعرف نحو أيهم سيتحرك ولا يعرف أين سيصل، هو في الأساس لم يقم بمغامرة الكتابة وفاء لقيمة أو لمبدأ بل تحت ضغط داخلي يشبه الشغف غير أنه أكثر قدرية وإجبارا... إذا فقد الشاعر هذا الضغط الداخلي فلن يجدي معه الإيجاز والتوجه والمجانية ولن تجدي معه طرافة الفكرة و غرابة المشهد... إذا تخلي الشاعر أثناء فعل الكتابة عن جدية الباحث وطموحه فسيسقط في فخ المباشرة والدعائية والاستسهال.. كما ستفلت من يده خطوط العالم الذي دخله للتو، هذا إذا كان الحظ حالفه وهيأ له الوقوف علي عتبة يعرفها كل من اشتغل ذات مرة علي كتابة جيدة.. ثمة ظاهرة في حاجة إلي دراسة جادة عميقة، قصيدة النثر التي يزعم الكثيرون أنها أكثر الأنواع حرية وانفتاحا وكسرا للقيود تلتقي في تأثيرها الانفعالي والجمالي مع أكثر الأنواع صرامة ودقة والتزاما بالقواعد.. أقصد شعر الهايكو. بعد ثلاثة دواوين... اشتغل الآن علي تجربة في قصيدة النثر تطمح عبر مواضيع ومواقف شخصية حميمية إلي استعادة جانب فني في القصيدة الكلاسيكية ... لست أدري هل يصح لي أن أسميه عمومية الدلالة، اي النص المفتوح علي دلالات متشعبة تلافيا لمنجز شعري اتسم بعضه بأحادية الدلالة وبعضه الآخر باختفاء الدلالة تحت طبقات الغموض... هل سأنجح في ذلك؟؟ ربما نعم وربما لا... لست أدري إلي أين ستأخذني التجربة ولا علم لي أية حياة تنتظرها وأي صيغة ستكون عليها... أطمح في المستقبل بتنفيذ مشاريع أراها مثيرة للاهتمام، سبق وتحدثت عن حلمي بديوان في مديح البلدات الصغيرة، وأحلم بكتابة فقرات نثرية ممتدة عن حياة فلاح أخذوه للعمل بالسخرة في حفر قناة السويس، وأحلم بكتابة نص طويل يتناوب عليه صوتان: صوت لجندي عربي وصوت لجندي أوروبي زمن الحروب الصليبية.... هل يمنح المستحيل صفة الهراء لأحلام كتلك؟ ربما... لكنني منذ سنوات حلمت بصياغة القصص الديني في قالب شعري وتحديدا قالب قصيدة النثر، وجاءت تجربة ( ثمة أشياء لن يجربها ) علي درجة من الرضا الإيجابي... ليس الرضا المطلق الذي هو في أساسه لا وجود له، ولا الرضا الذي يضعني في مواجهة مع أخطائي لأتمكن من تلافيها وتطوير أدواتي في المشاريع اللاحقة. أخيرا كلمة للقارئ: القصيدة التي تطالعها، كتبها صاحبها دون أي قواعد مسبقة ودون تحديد لمسارها، كتبها وهو مطلق الحرية دون فقدانه الحس بالمسئولية الفنية.... أنت أيضا أيها القارئ لست أقل من الكاتب، ادخل النص حرا من أي تصورات مسبقة، وأضمن لك أنك ستكون فاعلا داخل النص، مثلك مثل الكاتب وستعبر بالمفاجأة حدود النص إلي العالم من حولك.