لم يحب إدواردو جاليانو التصنيف في أي وقت، كتب ما يحلو له بالطريقة التي اختارها، باللغة التي رآها الأنسب له ولجمهوره، بالأفكار التي شغلته علي مدار 74 عامًا عاشها، بالطريقة التي لمست قلب كل قرائه في شرق الأرض وغربها، حتي هؤلاء الذين لم يعرفوا تاريخ أمريكا اللاتينية وثقافتها، حتي هؤلاء الذين نهبوا قارته وحكموا عليها بالفقر. جاليانو ناثر عظيم، هو كذلك دون تصنيف، دون أن نضيف إلي كلمة ناثر كلمة مفكر، أو مثقف، أو مؤرخ، أو قاص أو كاتب سياسي. هو ناثر صاحب أسلوب اتكأ علي البساطة ليقول كل ما هو معقد، وعبر البساطة سرّب لنا همومه، همومهم، همومنا، تاريخ بلده وقارته وعالمنا. وبنثره العظيم دفعنا لنقرأ التاريخ من وجهة نظر أخري، بعيدًا عن التاريخ الرسمي الذي كتبته أوروبا وأمريكا، بعيدًا حتي عن التاريخ الذي كتبه مؤرخو قارته. كتب جاليانو تاريخ الإنسان، تاريخ الأرض حتي لو اختصرها في أرضه، كتب الماضي الذي هو ماضينا دون أن ننتبه، وحاضرنا ولو لم ندرك ذلك بعد. وبينما كان يكتب ذلك، كان ينتقد أيضًا معسكره، لم يقل جاليانو أبدًا أن حكومات اليسار في العالم أصابت علي طول الخط، لم يقل إن خندقه معصوم من الخطأ، كتب ونقد، نقد وأعاد ترتيب أوراقه التي أصبحت الآن جزءًا من تاريخ أمريكا اللاتينية. وكان قادرًا طوال الوقت علي مراجعة ما كتب، بل وانتقاده وأحيانًا التقليل من شأنه بكل تواضع. "شرايين أمريكا اللاتينية المفتوحة"، كتابه الأشهر، وأحد أهم الكتب التي أرخت لأمريكا اللاتينية في خمسة قرون، قال عنه "كتبته دون أن أكون مزودًا بالمعارف الكافية"، قال "كنت أريد كتابة كتاب في الاقتصاد السياسي". الكتاب الذي صادرته حكومة أوروجواي الديكتاتورية وتعرض للسجن بسببه، وأصبح واحدًا من الكتب الأكثر تأثيرًا في الأجيال اللاتينية التالية، يقول عنه مؤلفه إنه تعجل في كتابته. يقول بتواضع. بتواضع يثير الشفقة علي كُتّاب آخرين لم يتعلموا درس التواضع. وحتي آخر يوم في حياته كان قارئًا نهمًا. يقول عنه صاحب إحدي مكتبات مونتفيديو، وهي مكتبة متخصصة في الكتب القديمة، إنه كان دائم البحث عن كتب التاريخ والسياسة والاجتماع القديمة، وإنه كان يأتي ليبحث عن كتب بعينها ولا يشتري بالصدفة. في سن ال 74، وبمرض سرطان الرئة، لا يزال يشعر بالحاجة لمزيد من المعرفة. عمل جاليانو لأكثر من خمسين عامًا علي النبش في الذاكرة الجمعية، علي استخراج الماضي الذي حاولت السلطات الاستبدادية المعادية لقارته طمثه، سلطات هي بنت نفس الأرض التي ولد عليها، لكنها اختارت أن تعادي ماضيها لتحقيق مكاسب زائفة، زائفة وزائلة. وتحول الكاتب الأوروجواني إلي ضمير أمريكا اللاتينية الحي، ضمير عادي كل الحكومات حتي الحكومات اليسارية التي أيدها، أيدها لكنها لم تنجُ من نقده اللاذع. وأثناء ذلك، كان يشكّل وعي مجتمع مغيّب تحت سطوة ديكتاتورية استهدفت عمل غسيل مخ، وحتي تستريح سجنته ونفته وطردته من أرضها، دون أن تدري أن العالم سينسي من كان حاكم الأوروجواي في السبعينات وسيتذكر جاليانو للأبد لأنه أخلص للإنسان ودافع عن ذاكرته. لم يتوقف ناثر الأوروجواي العظيم عند الماضي البعيد وإعادة كتابته، ولا عند التفتيش في حقيبة التاريخ المنسية، بل دوّن كذلك ماضيه هو، هذا الماضي الذي يختلف عن حياة اليوم. رسم جاليانو صورة رقيقة لزمن لم يكن الاستهلاك سيده، ولا كانت اللهفة لاقتناء كل ما هو جديد رغبة عند ساكنيه. كتب في مقالات متعددة كيف أصبحت المشاعر الإنسانية رخيصة ومبتذلة مع تحولنا لمجتمع استهلاكي، وربط ثبات هذه المشاعر وقوتها بزمن كان فيه الحفاظ علي أبسط الأشياء مبدأ لا يمكن التخلي عنه. رأي جاليانو أن استبدالنا الدائم للأجهزة الحديثة، وعدم قدرة هذه الأجهزة علي البقاء لأكثر من عام مثلًا، مرتبط بشكل وثيق وبخيوط قوية بتبدلات علاقاتنا الإنسانية، فكأن كل شيء تحول إلي مجرد "تيك أواي" بما في ذلك علاقات الحب والصداقة. تذكر كيف كان طفلًا يستغل كل الأشياء المتاحة حتي بعد أداء مهمتها دون أي تفكير في إلقائها في القمامة. تذكر ذلك وهو ابن طبقة اجتماعية عليا لكنه تعلّم أن الحفاظ علي الأشياء الصغيرة خطوة أولي للحفاظ علي الأشياء الأكبر، واستنتج إن الحفاظ علي الأشياء المادية إحدي طرق الحفاظ علي الأشياء المعنوية. وهو الدرس الذي سربه لقرائه عبر كتاباته. تميزت كتابات جاليانو بهذه القدرة الفريدة في التقاط التفاصيل الصغيرة وربطها طوال الوقت بالوجود الإنساني، بالوصول من خلالها لمعانٍ كبري، بالتوصل لجذر الأزمات الإنسانية من خلال استعراضها، لكنه ليس الاستعراض الدراماتيكي بقدر ما هو التساؤل حولها، في محاولة منه لرصد التطور التكنولوجي وعلاقته بالتطور الإنساني. إنها الكتابة التي تظهر لنا وقت هرولتنا بعقول غائبة فتطرح علينا سؤالًا لم يخطر ببالنا: ما أثر كل ذلك علي إنسانيتنا؟ ألا تستحق علاقاتنا الحميمة أن نتوقف قليلًا لنسأل أنفسنا ماذا نفعل نحن حقيقةً في هذه الأرض؟ أن نسأل أنفسنا إن كنا نفعل ما يجب أن نفعله. إنها الكتابة التي تشبه حجرًا يقف عائقًا أمام خطوات ثور يدور في ساقية لتسأله: هل تعرف عدد اللفات التي يتحتم عليك لفها؟ هل تعرف لماذا تلف بهذا الشكل وإلي متي؟ بذلك، يسحبنا جاليانو إلي المنطقة الأكثر حميمية بداخلنا، فيطالعنا كجهاز إنذار ضد الحريق أننا في خطر، أن إنسانيتنا في خطر. فعل ذلك في الكثير من كتبه، مثل "ذاكرة النار" "أشياح يوم الأسد وقصص أخري" "أغنيتنا" "كتاب المعانقات" "الكلمات المتجولة" "فم الزمن" "أبناء الأيام" "مرايا"، وفي كتابه الأخير "نساء- أنطولوجيا". إنها أسئلة مبطنة، تتسرب إلينا علي مهل.