للمترجم والباحث الألماني الدكتور هارتموت فاندريش دور مفتاحي في مضمار استقبال الأدب العربي الحديث في الأقطار الناطقة بالألمانية. فقد ترجم هذا الرجل ما يربو علي ستّين كتاباً أدبياً من العربية إلي الألمانيّة، وألّف عددا كبيراً من الكلمات الختامية للكتب التي ترجمها، ومن المقالات النقدية حول الأدب العربي الحديث، كما قام بدور استشاري لدي دور نشر المانية وسويسرية بخصوص الأدب العربي، ونظّم أكثر من مؤتمر وندوة حول ذلك الأدب. ومن أحدث النشاطات الأدبية التي قام بها الدكتور فاندريش الإشراف علي ملفّ "أدب جديد من المنطقة العربيّة" الذي يتضمنه العدد (139) من مجلة "إضاءات" النمساوية Lichtungenس ك وهو ملفّ يضمّ قصصاً وقصائد وفصولاً من روايات لعدد من الأدباء العرب المعاصرين الذين يقَدَّم بعضهم للقارئ الألماني للمرة الأولي، أمّا كتّاب هذا الملفّ فهم: إيمان مرسال- ياسرعبد اللطيف- مازن معروف- أحلام بشارات - سنان أنطون- حسين الواد- هالة كوثراني- ياسين عدنان- نجاة العدواني- رجاء عالم- إبراهيم الكوني- محمد المطرود. وقد زوّد الدكتور فاندريش الملفّ بمقدّمة عنوانها: "الأدب العربيّ المعاصر: بعض الأفكار"، وهي مقدّمة تمت ترجمتها إلي العربيّة لأنها تنطوي علي رؤية غربية للأدب العربي المعاصر، رؤية من الضروري أن يطلّع عليها قرّاء "أخبار الأدب". هنالك قول كثيراً ما يسمعه المرء في العالم العربي، ألا وهو: "في القاهرة يُكتَب وفي بيروت يُنشَر، وفي بغداد يُقرَأ. هذا قول يرجع أصله إلي خمسينيات القرن العشرين، ومن المؤكّد أنه قد بات بحاجة لإعادة نظر. ففي هذه الأثناء (وآنذاك أيضاً في حقيقة الأمر)، كان يُكتَب في بيروت أيضاً. كذلك فإن صناعة الكتاب والنشر قد شهدت في السنوات الأخيرة نشاطاً مشجّعاً من الدار البيضاء إلي أبو ظبي. وأخيراً فقد أصبح علي المؤلّفين والمؤلّفات العراقيين الكثير أن يكتبوا في بغداد، وليس في نيويورك وبرلين وستكهولم وباريس. فالقول السابق الذكر لم يعد مسوّغا كما كان في الخمسينيات، وهو يلحق بشكل خاصّ ظلماً لا مبّرر له بأقطار المغرب العربي ولا يراعي ما تمّ في تلك الأقطار من تطورات علي صعيد الأدب. أدب عربيّ أم آداب عربيّة إنّ ضخامة الرقعة التي ينتشر فوقها الأدب العربي داخل العالم العربي وخارجه تستدعي أن يتساءل المرء عمّا إذا كان من المشروع أن يتحدّث عن "أدب عربي". إنها مسالة خلافية، حتي بين العرب أنفسهم، علماً بأنّ اعتبارات لا أدبيّة (كالتقسيمات القطرية) قد لعبت دوراً كبيراً علي هذا الصعيد. إلا أن السؤال المفتوح هو : ما الذي يمكن أن يجمع هذا الأدب العربي الذي يجري إنتاجه اليوم في أكثر من عشرين دولة تختلف كل منها عن الأخري في كثير من النواحي؟ بوسع المرء أن يلجأ بهذا الخصوص إلي التعريف اللغوي للأدب، وأن يُجمَل إنطلاقاً منه، تحت مفهوم "الأدب العربي" كلّ تلك الأعمال الأدبية التي كتبها أو يكتبها مؤلفوها باللغة العربية الفصحي ، مع أن عناصر تلك اللهجات العاميّة واللغة الدارجة المحكيّة، التي تتميز كلّ منها عن الأخري إلي هذه الدرجة أو تلك، كثيراً ما تستخدم تلك المؤلّفات. إلا أننا نكون بذلك قد ظلمنا أولئك الكتاب العرب الذين يكتبون بلغات أجنبية، بغضّ النظر عن الأسباب التي جعلتهم يلجؤون إلي ذلك. كما لا يجوز لنا بهذه المناسبة أن ننسي أن بعض الكتّاب العرب الذين يكتبون بغير العربية، ولا سيما أولئك المغاربة الذين يكتبون بالفرنسيّة، قد أبدعوا أعمالاً أدبية جعلت منهم قدوة حتي لأولئك الذين يكتبون بالعربية. الأدب العربيّ الذي عرّفناه علي النحو السالف الذكر هو أدب جديد وحديث، ولكنه أدب ذو تاريخ قديم. قد يبدو أن هنالك تناقضاً مستهجناً في ذلك، ولكنّ استيعاب تلك الحقيقة أمر مفيد لفهم الكتابة الأدبية العربية المعاصرة. إنّ هذا الأدب جديد لأنه بدأ خطواته الأولي في النصف الثاني من القرن التاسع العشر، ثم تطوّر، وإن يكن بدرجات تتباين كثافتها من قطر عربي لآخر، إلي أن نشأت فيه الأجناس الأدبية كلها التي تؤطّر الكتابة الأدبية في العالم، ألا وهي: الرواية، والقصة القصيرة، والشعر، والمسرحية. كذلك فإن هذا الأدب العربي يؤدي الوظيفة عينها التي يؤدّيها الأدب في كل مكان: أن يكون ميزاناً لتفكير وأحاسيس وآمال وتطلعات ومخاوف أولئك الناس الذين ينحدر الأديب أو الأديبة من محيطهم، وأن يعبّر لغوياً عن البيئة السياسية والاجتماعية والتقنيّة، واصفاً ومنتقداً ومتابعا التفكير ، ومطوّراً بذلك عوالم بديلة. وللتوصّل إلي ذلك كان لا بدّ للكتاب العرب في أوّل الأمر ، وللكاتبات العربيات فيما بعد ، من أين يجتازوا طريقاً طويلاً: فقد خاضوا نقاشات طويلة حول جدوي الأدب التخييلي، كما لم يكن هناك بدّ من أن يتدرّبوا علي كثير من الأمور المتعلقة بانتاج هذا النوع من الأدب ، ولا نذيع سراً عندما نقول أنهم اقتدوا في ذلك بالآداب الأوروبية، ثمّ بأدب أمريكا الشمالية، وفي وقت لاحقا بأدب أمريكا اللاتينية. إن أسماء ليو تولستوي، إرنست همنغواي، أنطون تشيخوف، وليام فوكنر، جيمس جويس، فرانز كافكا، جي دي موبسّان، فيكتور هيجو، خورخي لويس بورخيس، جبراييل جارثيا ماركيز لم تكن مجهولة بالنسبة لممثلي أدب عربي يتجدّد، وهي أسماء مألوفة أيضاُ بالنسبة لكثير من الأدباء الشباب المعاصرين، وإن كان هؤلاء يستطيعون اليوم أن يطلّوا علي عدد كبير من القدوات الأدبية العربية وأن يهتدوا بها. كتاب وكاتبات من بين العدد الكبير من الذين ينتجون أدبا باللغة العربية لم يشتهر خارج العالم العربي من خلال الترجمة سوي عدد ضئيل نسيباً، كما يلاحظ أنّ كتاباً وكاتبات مهمّين ينتمون إلي أحد الأقطار العربية كثيراً ما يكونون غير معروفين في أقطار عربية أخري، لا بل من غير الممكن الحصول علي مؤلفاتهم في تلك الأقطار، وذلك نتيجة الأوضاع المؤسفة التي تسود التبادل الثقافي بين الأقطار العربية. من المؤكد أن أشهر كاتب عربيّ حديث هو الروائي المصري نجيب محفوظ (1912ر2006) الذي أنجز إنتاجاً روائياً ضخماً يدور حول القاهرة منذ الحرب العالمية الأولي، وقل أن ينكر كاتب عربي أنه قد تأثّر به ذات يوم. وفي هذه الأثناء أعقب نجيب محفوظ في عدة أقطار عربية جيلان أو ثلاثة أجيال من كتّاب الرواية (والقصة القصيرة) الذين يكتبون حول مواضيع تختلف عن مواضيعه، وبأساليب تختلف عن أسلوبه إلي ذلك الحدّ أو ذاك. نذكر من هؤلاء علي سبيل التمثيل لا الحصر: الروائي السعودي- العراقي عبد الرحمن منيف (1931-2004) ،كاتبة القصّة القصيرة المصرية سلوي بكر (من مواليد 1949) ، القاصّ الفلسطيني الذي يحمل الجنسيّة الاسرائيلية إميل حبيبي (1921-1996) ، الروائي المصري جمال الغيطاني ( المولود سنة 1945) الروائي اللبناني رشيد الضعيف (من مواليد 1945) ، القاص السوري زكريا تامر (من مواليد 1931) . إنهم كتاب غاصوا عميقا في التراث الأدبي العربي بشأن الكثير من مؤلفاتهم. تاريخ طويل يطلّ الإبداع الأدبي الحديث في العالم العربي علي تاريخ طويل من الكتابة الأدبيّة. فبعد فترة قصيرة من ظهور الإسلام في القرن السابع ظهرت مؤلفات لم تقتصر مواضيعها علي دراسة الإعجاز الأسلوبي للقرآن الكريم الذي نوّه إليه كثير من العلماء، ولا علي الشؤون اللاهوتيّة، بل شملت العلوم الإنسانية والطبيعية، وتضمّنت مقومات أدب تخييلي صيغ جزئيا باللغة الدارجة، وفي الجزء الآخر بلغة عربية فصيحة رفيعة جدّاً، وذلك لاختلاف الجماعات المستهدفة. برز في هذا الإطار ذلك العمل الذي عُرِّف به العالم العربيّ أدبياً في الغرب منذ ترجمته الأولي (الفرنسية) في مطلع القرن الثامن عشر، ألا وهي قصص (ألف ليلة وليلة) إنها مجموعة من القصص التي ينهل منها الكتّاب في العالم العربي وفي العالم بأكمله. منها يأخذ الكتاب بني فنيّة وأغراضاً ومواضيع وشخوصاُ يواصلون نسجها وصياغتها. إلا أنّ (ألف ليلة وليلة) ليست كلّ شيء ولم تقتصر علي حركة التأليف عليها، فقد كان هنالك تاريخ، وشعر، ومقالات حول موضوعات لا عدّ لها ولا حصر، وكانت هناك نكات، والعديد من التعبيرات الأدبية عن الوقائع والأحداث السياسية والاجتماعية. لقد كُتب ذلك كلّه بلغة عربية هي، من حيث البنية، اللغة العربية الفصحي إلي أبعد حدّ وهذا ما يجعل العلاقة بالكتابات التي ترجع إلي عهود قديمة أسهل بكثير مما هي عليه في الأقطار الأوروبيّة، التي لكلّ منها لغة قديمة، ولغة متوسّطة، ولغة حديثة. إنّ الجدل الدائر في العالم العربي حول قيمة أو لا قيمة ذلك الأدب القديم بالنسبة للأدب العربي المعاصر لم يزل مستمراً، وهو بعيد عن أن ينتهي، كذلك فإنّ الأجابة عليه تختلف دائما من أديب عربي لآخر. هنالك من يري أن بوسع المرء أن يغفل ذلك الأدب القديم، وأن ينصرف إلي "الحداثة" بصورة كاملة، وهذا ما يقوم به كثيرون. إلا أن باستطاعة المرء أيضاً أن يشتغل عليه، وأن يجد متعة في أشكال الأعمال الأدبية القديمة ومضامينها، وقد يكتشف فيها أشكالاً حديثة تستفيد منها الكتابة الأدبية الحديثة بصورة جادّة أو بصورة ساخرة. وهنالك في الأدب العربي الحديث أمثلة علي تلك الإمكانات المختلفة، وهذا ما يجعل الأدب العربي أدباً غنياً ومثيراً.