محافظ سوهاج يزور مطرانيات الأقباط بالمحافظة للتهنئة بعيد القيامة    مصر تستورد لحوم وأبقار بقيمة 139.7 مليون دولار خلال يناير وفبراير    عاجل| ماكرون يدعو نتنياهو إلى استكمال المفاوضات مع حماس    بالأسماء.. مفاجآت منتظرة بقائمة منتخب مصر في معسكر يونيو المقبل    تصنيع مواد الكيف والاتجار بها.. النيابة تستمتع لأقوال "ديلر" في الساحل    3 أبراج تعزز الانسجام والتفاهم بين أشقائهم    فوائد وأضرار البقوليات.. استخداماتها الصحية والنصائح للاستهلاك المعتدل    الآن.. طريقة الاستعلام عن معاش تكافل وكرامة لشهر مايو 2024    الأهلي يبحث عن فوز غائب ضد الهلال في الدوري السعودي    «الزهار»: مصر بلد المواطنة.. والاحتفال بالأعياد الدينية رسالة سلام    فى لفتة إنسانية.. الداخلية تستجيب لالتماس سيدة مسنة باستخراج بطاقة الرقم القومى الخاصة بها وتسليمها لها بمنزلها    «على أد الإيد».. حديقة الفردوس في أسيوط أجمل منتزه ب «2جنيه»    انتشال أشلاء شهداء من تحت أنقاض منزل دمّره الاحتلال في دير الغصون بطولكرم    تجدد الطبيعة والحياة.. كل ما تريد معرفته عن احتفالات عيد شم النسيم في مصر    ناهد السباعي بملابس صيفية تحتفل بشم النسيم    دمر 215 مسجدًا وكنيسة.. نتنياهو يستخدم الدين لمحو فلسطين| صور    «مراتي قفشتني».. كريم فهمى يعترف بخيانته لزوجته ورأيه في المساكنة (فيديو)    هل يجوز أداء الحج عن الشخص المريض؟.. دار الإفتاء تجيب    وزير الرياضة يتفقد مبنى مجلس مدينة شرم الشيخ الجديد    إصابة 3 إسرائيليين بقصف على موقع عسكري بغلاف غزة    قبل ساعات من انطلاقها.. ضوابط امتحانات الترم الثاني لصفوف النقل 2024    قوات روسية تسيطر على بلدة أوتشيريتينو شرقي أوكرانيا    رئيس مدينة مرسى مطروح يعلن جاهزية المركز التكنولوجي لخدمة المواطنين لاستقبال طلبات التصالح    «الزراعة» تواصل فحص عينات بطاطس التصدير خلال إجازة عيد العمال وشم النسيم    ندوتان لنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية بمنشآت أسوان    تقرير: ميناء أكتوبر يسهل حركة الواردات والصادرات بين الموانئ البرية والبحرية في مصر    التخطيط: 6.5 مليار جنيه استثمارات عامة بمحافظة الإسماعيلية خلال العام المالي الجاري    5 مستشفيات حكومية للشراكة مع القطاع الخاص.. لماذا الجدل؟    جامعة بنها تنظم قافلة طبية بقرية ميت كنانة بطوخ    «شباب المصريين بالخارج» مهنئًا الأقباط: سنظل نسيجًا واحدًا صامدًا في وجه أعداء الوطن    بين القبيلة والدولة الوطنية    "خطة النواب": مصر استعادت ثقة مؤسسات التقييم الأجنبية بعد التحركات الأخيرة لدعم الاقتصاد    استشهاد ثلاثة مدنيين وإصابة آخرين في غارة إسرائيلية على بلدة ميس الجبل جنوب لبنان    في إجازة شم النسيم.. مصرع شاب غرقا أثناء استحمامه في ترعة بالغربية    طوارئ بمستشفيات بنها الجامعية في عيد القيامة وشم النسيم    رفع حالة الطوارئ بمستشفيات بنها الجامعية لاستقبال عيد القيامة المجيد وشم النسيم    الصحة الفلسطينية: الاحتلال ارتكب 3 مج.ازر في غزة راح ضحيتها 29 شهيدا    إعلام إسرائيلي: وزراء المعسكر الرسمي لم يصوتوا على قرار إغلاق مكتب الجزيرة في إسرائيل    التنمية المحلية: استرداد 707 آلاف متر مربع ضمن موجة إزالة التعديات بالمحافظات    بالصور.. صقر والدح يقدمان التهنئة لأقباط السويس    أنغام تُحيي حفلاً غنائيًا في دبي اليوم الأحد    بالتزامن مع ذكرى وفاته.. محطات في حياة الطبلاوي    جناح مصر بمعرض أبو ظبي يناقش مصير الصحافة في ظل تحديات العالم الرقمي    الليلة.. أمسية " زيارة إلى قاهرة نجيب محفوظ.. بين الروائي والتسجيلي" بمركز الإبداع    البابا تواضروس: فيلم السرب يسجل صفحة مهمة في تاريخ مصر    الإفتاء: كثرة الحلف في البيع والشراء منهي عنها شرعًا    دعاء تثبيت الحمل وحفظ الجنين .. لكل حامل ردديه يجبر الله بخاطرك    3 أرقام قياسية لميسي في ليلة واحدة    ميسي وسواريز يكتبان التاريخ مع إنتر ميامي بفوز كاسح    اتحاد الكرة يلجأ لفيفا لحسم أزمة الشيبي والشحات .. اعرف التفاصيل    صحة مطروح تطلق قافلة طبية مجانية بمنطقة أولاد مرعي والنصر لمدة يومين    جامعة بنها تنظم قافلة طبية بقرية ميت كنانة في طوخ    الأهلي يجدد عقد حارسه بعد نهائي أفريقيا    اليوم.. انطلاق مؤتمر الواعظات بأكاديمية الأوقاف    السيطرة على حريق شقة سكنية في منطقة أوسيم    مختار مختار: عودة متولي تمثل إضافة قوية للأهلي    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهاوية مجتزأ من رواية
نشر في أخبار الأدب يوم 07 - 03 - 2015

»هيا ارفعوا أيديكم هذه!« أصرخ من الشرفة في المساء بكل عزمي وأنا أحتضن صدري بخفة. مَنْ مِنكم يرغب في حياة أسوأ من حياته؟ وحتي هذه الغابة، غابة الأيادي المنتصبة، تبدو كقاعة تعج بأناس مُحبِطة، تمارس الأعمال الإنسانية. يعتقدون أن الآلام تقرب الإنسان من جوهر الظواهر، ومن الأشياء. طبعًا، لكن البشر الذين اشتدت آلامهم يتحولون إلي خنازير، فهم ليسوا بشرًا خلت من المواجع، أو لا تشعر بالألم إلا في إجازات نهاية الأسبوع.
هكذا كانت أمي تقول لي. أكتفي، وأغادر الشرفة التي أقضي فيها كل أوقات فراغي. ثم أتوجه إلي المطبخ، أصب كأسًا من الماء الدافئ، يُساعد في علاج التهاب المثانة. نصائح أمي التي كانت تكررها عليّ أمور لا يعرف الإنسان إلا بعد سنوات أنها بلا فائدة. لم تكن نصائح ذات قيمة تُذْكَر، لكن ما عسانا أن نفعل بدونها. تتكرر نفس القواعد، ويسير ذلك البهيم، الإنسان الذي خلقه الله، وسط حشود لا تتزاحم. يتبادل مع غيره وضع الغمامة علي العيون كدليل علي المساعدة والحس المشترك، تمامًا كما يحدث في الطائرة، عند انخفاض الضغط بها تتدلي من مكان ما فوق رؤوس المسافرين أقنعة التنفس، يضعها كل مسافر علي وجهه أولا، ثم يساعد الآخرين الذين أصابهم الهلع.
أكون في أحسن حالاتي استفاقة عندما أشرب شيئًا ما. معدة ممتلئة بالنبيذ الأحمر تثبتني بالأرض مثل خطاف سفينة في المرفأ، أو مثل فراشة مثبتة بدبوس فوق لوحة (تُرَي كم عدد من يجلس أثناء الليل في هذه المدينة ويشرب وحده مثلي). أوجه كلمات اللوم إلي نفسي أولا. سهام تحاول الوصول الي مقصدها في قلبي، إلي هدفها الذي لا يستقر في مكان. فكل شيء يدور في رأسي، والباقي في معدتي التي تموج وسط بحر من الكحول، وتتحول السكريات المتعددة إلي حبات سكر، إلي أن تصل إلي نبوءة حول غد أفضل.
المؤسف في الأمر أن الإنسان مدفوع إلي أن يبدأ من نفسه دائمًا. لذلك يظل البشر وحدهم، بمنتهي الصدق. يبدأون بأنفسهم، ولا يتجاوزونها. لأنك لو انتقلت من العمل علي نفسكَ إلي العمل علي الآخرين بنوع من التسامح، لن تشعر باللوم، وبالعمل الجاد علي نفسكَ يزداد اعتدادك بها، وتحجب عنك شعور الحب تجاه الآخرين، لذلك يقال عن الأشخاص الذين يعيشون لأنفسهم بأنهم أنانيون. إنه بالتأكيد سوء فهم واضح، لكنه محرك لغالبية الأحداث الهامة، وفي مقدمتها حالات الحب.
يكفيني القليل من الشمس، والقليل من الزهور المتفتحة كي أنتشي، وأبدأ حديثًا مع أناس عادة لا ألقي عليهم التحية، وأشعر برغبة في أن أعانق كل من أتبادل معهم التحية.
أفهم لغة الطير، بالمعني الحقيقي للكلمة، وأنا أطأ بقدمي أثناء الصيف بقعة حشائش مسحوقة في منتزه قريب من بيتي. سمعتها في آخر مرة وهي تتذمر من تزايد عدد القطط.
ربما يكون ما أقوله مجرد ثرثرة فارغة. اللا حياة، المعلم الذي لا يعلم، الأبكم. لكني أنا مُعَلّم نفسي. ألقي كراساتي وواجباتي علي المقاعد، وأضع خطوطًا بالقلم الأحمر تحت الأخطاء. في المرة التالية سأجد نفس الأخطاء، وستظل هكذا، صدقوني، طوال حياتي التي لم تصل نهايتها بعد بكل تأكيد، وكل أحداثها العظام مازالت تنتظرني. تلك التي يصفونها بأنها تختبئ لتظهر في سن التقاعد. ولا يمكنها أن تبقي مختفية إلي أكثر من ذلك. ربما سأجدها هناك. أتمني ألا تكون مجرد كراميل باللبن خلف كومة من أكياس حساء سريع التحضير، أو أحداث حزينة، أو تلك التي يقال عنها إنها لا تستحق.
هكذا يقولون، أشياء ذات قيمة، أموراً تستحق أمورا أخري، وليس غيرها. سعادة مقابل بعض الألم، وليس كل الألم. حب مقابل تضحية، تضحية بسيطة، بالطبع، تَخَلّي عن شيء من الراحة، لا أكثر. لكن الشر الأكبر لا يستحق التضحية، لا يستحق أن أضحي من أجله. رغم أني قد أعطي انطباعًا بأني مفرمة لحم أو معادن، لكني غارقة حتي أذني وسط بتلات الزهور، أتفتح وسط ندي الصباح، وكأني أصحو علي قرع خفيف من هاتفي.
أصيح من الشرفة: »أنا هنا! هل تسمعوني؟!« لكن لا أحد ممن يسيرون أسفل الشرفة يجيبني. الناس تهرول نحو أعمالها اليومية مثل أطفال المدارس الإلزامية. لأنهم رأوا حلمًا، يقول إنهم سيصبحون راضين عن أنفسهم تمامًا عندما ينجزون المهام المطلوبة منهم. ومعهم تلك الفتاة ذات الجدائل التي تجلس في الصف الأمامي بالفصل، الفتاة التي وضعت كل اهتمامها علي فتي مزعج جالس في الصف بجوار النافذة. سيصبحون راضين بخططهم في الحياة التي لم تخل من إقامة في محطة قطبية، تستبدل لاحقًا بمنحة في بروكسل، ثم بطفلين في النهاية، يأتيان كمعجزة صغيرة. خطأ صغير. لكن ذلك الفتي لم يستطع، وبقي الحب الأول القديم كما هو.
لا يتطلعون نحو نافذتي، وكأنهم مازالوا يصدقون أن الشيء الذي يبحثون عنه سيعثرون عليه بكل بساطة وسط بركة صغيرة جافة علي الرصيف وهم في طريقهم إلي عملهم، طالما انتظروا أسبوعًا آخر، عامًا آخر، أو حياة بأكملها.
من جدي وحتي المطحنة رأسه مدلي فوق حاجز البانيو. هذا كل ما أعرفه. لم يكن جدي يتردد علينا كثيرًا، فأرسلتني أمي إليه في الشقة التي يقطنها. انتظرنا وقتها مكالمة هاتفية. رن الجرس ليقطع الصمت، شعرت بشعيرات لحية العجوز البيضاء تتطاير علي ذقني، رأس كالجمجمة، جافة وذابلة مثل صورة جمجمة فوق زجاجة سم للفئران. وأنا لا أفكر سوي في نفسي بكل غضب، أكرر نفس العبارة: العصر الذهبيّ الفائت». أستحق علي ما فعلت أكثر من ضربة علي يدي، بل صفعة علي وجهي.
لأن الزمن الجميل الفائت كان زمن الشيوعيين، ولم يكن عصرًا ذهبيّا، بل عصر اليورانيوم الذي كان أبطاله يستخرجونه من المناجم. أما جدي، الذي تتدلي جمجمته فوق حاجز البانيو بكل استسلام، مثل شخص استنشق بعض الهيروين الجيد، جدي هذا كان يثور أثناء الاجتماعات غضبًا علي موت هؤلاء الأبطال. سرواله فوق الأرض، جاءته النوبة وهو يتبرز.

بطرقة صغيرة تغير محطة الراديو إلي محطة أخري، وكأن طبيب عظام خائب يسحب عمودكَ الفقري، فيخلع الفقرة التي أراد في الأصل أن يسويها. أو، ليفعل كل إنسان ما يريد، وما يحلو له.
فمثلًا عزق الطين هو تسميد في حد ذاته. ولو أنكَ جئت عند شرفتي، ورفعت رأسك إلي أعلي ستتأكد من أن الأمر لا يتعلق بحماس سيدة تساير موضة حديثة تتعلق بحدائق المدن، تمسك بآي باد ملوث بالطين، وتذرع نباتات بأصابع ملطخة حسب إرشادات محددة. إنه أمر يتعلق بمحبة العالم عليها أن ترعاها. أنا كلب حارس، أشعر بالنجاح عندما تنمو نباتات زرعتها. أبحث فيها عن الطمأنينة. عندما تسأل عاملة الحدائق إن كانت تحيض مع الزعفران أو الورود، ستعرف عنها الكثير، أكثر من لو أنكَ اتبعت أسلوبًا يعرضك لأشواك الكرز. إن العلاقات الإنسانية المتداعية نغذيها اليوم بفلاحة مشتركة للأرض.
لقد افتتحوا مؤخرًا في الحي الذي نقطنه حديقة عامة. تعج بالإنسانية، وكأنها مستنقع للضفادع. نَفْسٌ طيبة تتآلف مع نفسٍ طيبة أخري من عند الجيران، في الوقت الذي لا يتواصلون مع بعضهم خارجها إلا بتلويح بأيديهم وهم في سياراته، يتجهون لحضور مَحْفَل تافه. إحدي الأمهات تقف في إشارة ضوئية في حارة مرورية تأخذها إلي طريق جانبي، وأخري تسير إلي الأمام مباشرة نحو متجر »كاوفلاند«. تلوحن من سيارة »فورد مونديو« وأخري »تويوتا ليكزاس«.
أري التقاطع من الشرفة عندما أدلّي منها رأسي. أقول لنفسي إن التصافح وسط أرفف المتجر قد يكون أسوأ. لكن الظهور والتواصل عبر »تويتر« صار أسهل، وهو أمر يدعو للعجب. موجات من إجابات بنعم أو لا، وسهل عكس صعب، أشياء تعد مِلحًا للحياة. لا شيء يتحقق بسهولة حتي ننتظر أن يكون أكثر سهولة. ذهبت وأنا أرتدي ملابس العمل بالحديقة لأشتري الكثير من أحواض الزهور، وأكياس التربة.
حتي خشيت من أن الشرفة ستسقط تحت وطأة كل هذه الأشياء. إنه مبني تاريخيّ. ولو حدث لجاء خبراء الآثار، والبناؤن للسير في دهليز شقتي وهو يُحصون الزخارف المدمرة، ويشيرون إليها، ثم يأتي أحدهم في الأسبوع التالي، وفي غيابي يدخل إلي الشقة، فيأخذ جهاز الكمبيوتر ومعه مجوهراتي، يلفها في سجادة عجمية أمتلكها. هكذا ظننت. إنه الرعب. الرعب الذي لا ينتهي. أري نفسي في الشارع أسفل البيت، أخلص نفسي من وسط أنقاض الشرفة المنهارة، التراب عالق في كل جزء من جسدي مثل أناس بُعِثوا من وسط الأنقاض بعد حادثة إرهابية. وأقول لنفسي، إن خوفكِ سببه أنكِ تريدين الكثير من الكثير، كل شيء من كل شيء. عينان زرقاوان باهتتان تراقبان المارة من خلف قناع التراب الذي غطي وجهي، أو تنظران من خلالهما إلي مكان بعيد. يا لها من صورة متألقة لكارثة قد تقع!رجل ما صورني بهاتفه، لا أعرف إن كان فعلها لإشباع رغبته في تسجيل الأحداث المثيرة، أم أنه كان مصورًا محترفًا يعمل لصالح إحدي المؤسسات. أنتفض، ثم أرتدي خفّا، وأتجمل. أطلي أظافري من جديد عندما تهدأ الأمور. أفكار تدور في رأسي. ارجميني لأنكَ طامعة في مشاكلي، ستحلين عقدة الخوف عن قلبكِ بمجرد أن تحملينها علي كاهلكِ، تمامًا مثل حلقتين عند اختبار الجاذبية. كنت قد بلغتِ الأربعين. حققت بعض النجاح في الوظيفة. ولو لم تحققيه، فلن تحرزي أي نجاح آخر. أنفخ التراب عن أظافري برقة، ثم أعود إلي الحياة مرة أخري، وأنا علي قناعة بأن تحريكها ستجعلها أفضل. فما لا يقتلك يُقويك. ولأن لموقف كهذا قولا مأثورا، فهذا يعني أنه وصل إلي نصف طريق النجاح، فعرف كيف تسير الأمور في الحياة. أتابع الهرج والمرج من شرفتي، أتابعه لأني أترقب زائرًا.
زائر أحادثه في البيت. نفعل ما فعله آدم، ولا ننتهي إلا بعد أن يبلغ الليل منتهاه. أرغب في أن أشاركه في ثمن التاكسي الذي أقله في تلك الساعة المتأخرة من الليل. ليس رغبة في أن أفرض عليه أن يأتي من جديد رغمًا عنه، فيخصم ما يدين لي به وهو فاتح كفيه. بل لسعادة خالصة من حديث من القلب. حديث بدون خبز بلاستيكيّ، وتجنّب مَن وعدني بأن يتصل بمن يأتي لإصلاح الغسالة، بدون خجل من أنه يعرف نواقصي، دون أدني تفكير في استيائه من الحديث عن زوج أمه (وقد أفعل ما يفعله أنا أيضًا).
يفضل الحديث عن المرج الأخضر، ومهندس مبان يتلصص من مسافة بعيدة. خسارة أنه سيبني هذا المكان من العُلَب علي مر السنين. علب علينا أن نمر بها، فتقطع خيط الحديث. يمر بالحافلة رقم ثلاثين علي مهل في منطقة الألعاب والتدريبات هذه، وهو مغمض العينين أحيانًا، مراعاةً لمشاعر الآخرين. فالطريق إلي جهنم مفروش بالنوايا الحسنة. هذا القول المأثور لم يلفظه أحدهم عبثًا.
بالنسبة لي أحاول أن أتجنب العالم بكل ما فيه، وعندما أسمع أزيز عثة الملابس في الخزانة أتخيل نفسي أعيش في الظلام وسط المعاطف. إقامة طوال العام وسط كومة مُتْرِبة من الصوف، يتخللها صرير أبواب الخزانة من وقت لآخر، عندما أذهب لأخذ أحد المعاطف كي أعطيه لإحدي الجمعيات الخيرية، بعد أن يكون قد صار مهلهلاً.
أتخيل نفسي مثل هذه العثة، ثم أهلل فرحًا عندما أري وجهي الذي يظهر مثل بطيخة وسط فجوة بين جناحي باب مفتوح، أري المعطف وقد صار باليًا مهترئًا. في لحظة كهذه لا يمكن أن أخسر أكثر من ذلك الاهتراء، أرسل المعطف بقلب مرهف الحس لمن يحتاجه، فتسري في نفسي قناعة وإيمان بوجه إنساني طيب. أحيانًا أخري أهرب إلي العصور الماضية البطيئة. دقات ساعات لا تنتهي في بيت علي طراز «بيدرماير»، تلميع الأثاث وسط توافد زيارات متفق عليها، وقت يَقْصُر باكتشاف كلمات تشيكية جديدة. فأري حشدا من أطفال بريئة، تتوافد أسفل شرفتي، فأدَلّي لهم سلة مليئة بقصاصات الكلمات الجديدة، فينتشر الأطفال في الحي، يعلمون أطفالًا أخري تلك الكلمات الموجودة في الأوراق. فتشجيع الجيل الشاب هو أساس النجاح.
الشارع الذي أراه من الشرفة مثل كعكة خانقة، أفقد معه أنفاسي وأنا أجاهد في تناول بعضها، اعتقادًا مني بأنه حبة توت شيطانية رخيصة. أعدل المسار: لَسْت حبة توت! ولا تدعي أنكَ كذلك. علي الأقل بعض الانتباه إلي أن السنوات تمر، فيمزقها الزمن، مثل فيضان يعصف بشطآنه ويمزقها إربًا، فتمرق هائمة وسط الضباب بكل قسوة، وتختفي خلف الستارة، وسط قارة من الذكريات المزيفة.
تظهر في رأسي كل تلك الطرق الصغيرة، والبيوت الدقيقة، وأناس ضئيلة أتوقع وجودها في داخلها، أناس تظهر من خلف السحب مثل غيوم تنفلق، وكأنها ستارة تخترقها الطائرة قبل أن تهبط. يا له مسرح يعج بعواطف جياشة. كم مسافرا قد يرغب في أن يلقي فوق إحدي تلك البيوت الصغيرة زجاجة صودا؟ سينشب حريق، وضوء ساطع! يا إلهي! في الواقع سكان البيوت الصغيرة غالبًا ما يكونون أشرارا. ليسوا طيبين. أو أن عددهم كبير، إلي درجة أن أي نقصان فيه لن يكون ملحوظًا. لن نلقي بهم من الطائرة بالتأكيد. وعليكَ أن تسأل كل من يسير فوق الطرق في القارة الأوربية عن مكان تلك البيوت المتهدمة. سيقول لك جيرانكَ من سكان القرية القريبة بأنهم لم يسمعوا عنها إلا من خلال التليفزيون. لكن قد يرغبون هم أيضًا في معرفة مكانها. أو ربما لا، ولن يعيرونكَ سيارتهم لتركبها. ألا تعرف أن هناك أماكن لاستئجار السيارات؟ من منكم لم يتعرض لأذي؟ فأوصله إلي درجة البكاء. كم مرة تعرض نفس الأشخاص لصفعة من القدر، بلا سبب، وبلا طائل. ما قيمة زجاجة صودا واحدة أمام كل هذا، خاصة عندما يكون الإنسان علي علم مسبق بأن مجرما محتالا يقيم في ذلك البيت الصغير، وينفق أموال الدعم القادمة من الاتحاد الأوربي علي مصنعه الذي يسحق الألوان، ويتظاهر بأن أحدا لا يعرف المقصود بأجهزة سحق الألوان.
فما بالك بأن يعرف شيئًا بخصوص مواد القانون حول مخارج ماكينات السحق. دائمًا ما أتبحر في قضايا التقنيات عندما لا أرغب في الحديث عما يهمني. الاستيقاظ مع الأخبار دون أن أقرأ الجرائد اليومية، فيكفيني اليوم ما أعرفه نظرًا لما حدث بالأمس، واليوم الذي سبقه، وما قبله إلي أن نصل إلي عصر الروكوكو، ومصر، والعصر الحجري، والعصي المكسو بالطحلب، والخلايا غير العضوية، وحساء درب اللبانة، وما سبقها من صمت أبدي للوجود أتطلع إليه مثل تلميذ يتحرق شوقًا إلي معسكر المدرسة، أو مثل طفل يشتاق إلي أمه. لا يهم الطريقة التي ستختارها. سواءً أردت أن تكون عثة الملابس، حبيسًا في خزانة سوداء، أو أن تكون كما ترغب، أن تكون أنتَ نفسكَ. فقط انتبه إلي ما تلقي به من الباب، لأنه سيعود إليك من النافذة. وسيبدأ كل شيء، وينتهي في نقطة واحدة. لن تكون نقطة الصفر، لأن الصفر شَرِهٌ للغاية، يلفظك بعيدًا، إنها دورة الحياة، ثعبان قابض علي ذيله بأسنانه.
وأنا أعرف أن الحساء ساخن ويلسعني، لأن الحقيقة تكشف عن نفسها في كل مرة. تلتصق بي بمساعدة شيء ما، مثل رائد الفضاء الممسك بالعدّاء المتجه نحو سفينة الفضاء، وهو يبدل أطواق منع التسرب في الهيكل، ويحذر من أنه قد يسقط في الفضاء، ويقضي ما تبقي له في الحياة سقوطًا. أمْ أُسرِع إلي المطبخ، وأشعر بكاحلي يثبان، ويتراءي لي بلاط حوائط المطبخ وكأنها بقع ملونة لمواد عازلة عابثة. عندما يأتي المترو، ويصل محطة «سترومنيتسكا»، أحملق في إناء يفور مثل الصخور المنصهرة، نفس الفوران واللزوجة أجدها في حساء الطماطم.
أُمزّق القاع بالملعقة، وأنظر إن كان احتراق الطعام خطيرًا. أكشط، وأفتش، ثم أصب، وفي النهاية أصب بعض الحليب. للأسف لم يعد لدي قشدة، صببتها كلها في فنجان القهوة في اليوم السابق. في الواقع أنا سيدة انطوائية إلي درجة تشبه الزاهدين. لديّ ميول إلي الاستعراض بالكلمات، وأمتلك موهبة قول لا شيء بالكثير من الكلمات، وبغيرها أفصح عما تبقي، لو أن نصفي الغالي الآخر قال إني أفصح عنها بالابتسامة، سوف أقول له بلا تردد: «يا »ياردا«، لست مضطرًا إلي التعليق علي ما أقول». نادرًا ما أبتسم، وكثيرًا ما يحدث هذا عندما أكون وحدي بالمنزل، فلا يراني أحد. هل وضعتَ لي كاميرا هنا عندما أوصلت لي الانترنت في الشقة، ولوّنتَ غرفة الاستقبال؟ كاميرا تراني وأنا أضحك، ثم يزعجك أن هذه الضحكات لا أبادلك إياها كثيرًا، كما يحدث مع الغرف الثلاث والمطبخ، وأنا أقهقه الآن من الحساء المحترق؟ »ياردا«شخص ذكي للغاية. يبهرني دائمًا الرجال العمليون.
لم أعد ألتقي بزوجي، لكنها قد تكون سقطة كبيرة لو قلت إني لم أعد أحبه. الحب لا يموت. الحب الحقيقي. لكنه يرقد، مثل رائد الفضاء أسفل غطاء تابوت مشابه، وعندما تنطلق سفينة الفضاء فوق كوكب يبعد مئات السنوات الضوئية، ثم يظهر اللاعبون، تمامًا كما كانوا من قبل. لا أعرف السبب الذي يدفعني دائمًا للحديث عن الفضاء عندما أسهب في الحديث عن الأمور الحياتية، رغم اختلافه مع المشاعر الخالصة التي تتحدث عن الروح. الأجساد تتطلع إلي ما ستفعله معها الروح من ملاطفة، وإن كانت، الأجساد، سيصيبها شيء منها، أم ستبقي «stand by». مثل جهاز اللابتوب المطويّ. يواصل أزيزه في هدوء، دون أن يفعل شيئا، ورغم أنه يستهلك الطاقة القادمة إليه من فيشة الكهرباء. قرأت مؤخرًا عن الأموال التي يستهلكها سنويّا هذا اللابتوب النائم. كان رقمًا مخيفًا لمستخدمي هذه الأجهزة، لكنه بث في نفسي الهدوء: إنه يتغذي علي التيار الكهربائي. وهذا أمر اتفهمه. لأن التفاهم اليوم هو حد ذاته شيء مهم. أن تمد يدكَ في الشارع لتصافح أحدهم بكل تفهم، وتري ممثلك المفضل يختبئ خلف نظارته السوداء وهو يشتري حليبًا، وجبنًا، وبيضًا.
فيتساءل الإنسان: وأنتَ أيضًا؟ اعتقدت أنكَ تتغذي علي التمثيل، وليس من السعرات الحرارية. إنها مفاجأة تشبه الطفل عندما تصيبه الدهشة لعلمه بأن مدرسته في الفصل تتبرز هي الأخري، وأن فتات الطعام يتساقط علي ياقتها وهي تتناول الفطور. يتعجب من أنها لا تسكن في المدرسة، ولا تعيش علي التراب المتصاعد من أحشاء أرائك المكتب، أو علي الضباب المتصاعد من أنابيب الاختبار. مثل هذا الاكتشاف يعني أنكَ فقدت براءة الطفولة. وهي ملحوظة أهم بكثير من مما تحصل عليه من كل التجارب التي تجريها بكلوريد الهيدروجين أثناء حلقة إعداد الكيميائي الصغير الذي تتكسب منه المدرسة بعد انتهاء فترة عملها الرسمية.
تري هذه المدرسة في الشارع أكثر من بطل المسلسلات الشهير الذي يضع في جيبه عدد اللحظات التي ستفهم عندها العالم، من معدل تغييره لملابسه. أنا أسميها مدرسة رغم أني لا أري شعرها المعقوف ولا تجاعيد حول فمها (في الوقت الذي ينطلق بطل المسلسلات بسيارته ذات الزجاج الداخن، تقطع المدرسة عددًا محددًا من الكيلو مترات رغمًا عنها، في سيارتها «سكودا فابيا»). ربما ظهرت هذه التجاعيد بعد آخر مرة رأيتها فيها، لكني لا أراها من منبر شرفتي. هي علي أي حال ترتدي سروالا جينزا ماركة «ديزيل». أكاد أراها من الشرفة وهي تقترب من البيت. حذاؤها يبدو جديدا، ومعطفها أعتقد أنه ماركة «مارلبورو» من تشكيلة ربيع هذا العام. إنها من نوع السيدات ذات الشعر القصير اللواتي تعتقدن أنه هناك من اليوم يهتم بمن تتشبه بالرجال. وكأنها تقول: «تعال! اكتشفني!»، وأنا، وبعد أسابيع من الاختبار، سأخرج من قبعتي نمرًا، لا أرنبًا. لبؤة، تضاجعها كما لم تضاجع امرأة قبلها.لا تعنيني هذه الادعاءات.
امرأة فاتنة، مؤامرات نسائية ليست هي ما يبدو من اللون الأزرق الباهت. وحتي السترة الزرقاء التي ترتديها المدرسة تآمرية هي الأخري، تلبس معها شالا أزرق، وحذاء أزرق. وهنا أفقد، ومعي كل الرجال، أي رغبة في الاهتمام بها. كان »ياردا«يعرف هذا الأمر جيدًا. أنني أفهم في أمور النساء. أقرؤها مثل «الاسكانر» الذي يمسح المسافرين في المطار. صحيح، لكن عندما تظهر امرأة ما تسير في الشارع وهي تحمل كيسًا من المواد المخدرة، مخبأً في مؤخرتها فغالباً لن أراه. ولم كل هذا. إنه ناصع مثل الفنار، وأنا أصفر بصوت عالٍ مثل ذلك «الاسكانر» في المطار عندما ينسي أحد الركاب أن يخلع حزامه. وطالما تقدم لي المرأة شيئًا علي غير حقيقته وكأنها تحمل أسفل حبات الفراولة الطازجة حبات أخري فاسدة. تمامًا مثل وطواط يصدر موجات فوق صوتية لا يسمع منها جنس البشر إلا الصمت، أنا أيضًا، يصيح عليّ الرادار مثل لمبة عربة الإسعاف التي تجأر في المدينة وهي تحمل حالات طارئة. رغم أن تلك المرأة تشعر بي علي ما يبدو، وتعتقد أن الشيء الوحيد الذي رأيته هو أحمر الشفاه الذي لطّخ أسنانها. سوف أذكر واحدة منهن بكل تحفظّ. ألا تفصحون عن رأيكم بصراحة في هذا الآخر؟ هذا ما يطلقون عليه النضج. لكن هذا خطأ. لأن »ياردا«، زوجي رجل ضخم، ويتحدث معي بدون أدني مواربة. ينطق بكل ما في نفسه. سوف نبقي معًا. أحبكِ. لكن ماذا حدث بعدها؟ يناديني بكلمة يا حبيبتي، ودائمًا ما يصلح كل ما يفسد عندي في الشقة. لا يوجد في العالم شيء لا يفهمه، أو أمر من أمور استعصت عليّ أنا. يعرف أين يفور الانترنت، ولماذا يسبح في الهواء. لماذا يهيم التيار في الكابل، ولا يمكنني أن أحتفظ به في موقع uloٌto.cz.
لماذا لم يفكروا يومًا في اختراع دراجة تطير. لماذا تتطاير النوافذ في جهاز الحاسوب الخاص بي بينما ألواح زجاجي نافذتي تتساقط بسرعة صفر صفرصفر. ورغم ذلك مازالت هناك. لن تتمكن من أن تفعلهافي حياة شخص واحد. إنها قصيرة، وحتي عمركَ أنتَ أيضًا. فعمرك لن يكفي كي يسقط خلاله لوح الزجاج. وهل يستطيع الانسان أن يفعل شيئًا علي النحو المطلوب حتي ذلك الموعد النهائي القريب؟ لكن كل شيء بالطبع يتوقف علي رؤيتنا للأشياء. وبالطريقة الصحيحة. لا شيء أبسط من قول كهذا، ومع ذلك، بعض الناس لا يعرفون. يخبطون رؤوسهم علي الحائط، في نفس المكان، معتقدين أن ملعقة شاي عادية صغيرة يأكلون بها كعكعة في يوم السبت تكفي لأن يحفروا بها نفقًا في صخرة لا يشغلهم إن كانت صخرة بازلتية أو أُسَرِيّة، أو مجرد عادات. والديناميت لا يكفي، ويجب أن يتكرر الانفجار بصورة تهكمية، يتكرر ثلاث أو أربع مرات.
المسألة بالدرجة الأولي مسألة قوة. الروحانيات قابعة في أحد الأركان تنتظر أن ينتهي كل شيء، فتنهض لتلعق القشدة، في حين أنها مسألة طاقة خالصة (يجب أن أقول هذا) وقوي رجولية. يقرعون فيها بمطرقة مطاطية. ولو ظهر رجل غبي يرغب في حفر نفق دون أن يزعجهم فعليه أن يتعلم في سويسرا. هناك، يجب أن يتحمل النفق ويصمد، وأن يكون أيضًا قابلا للهدم السريع حينما تواجه البلاد هجومًا من الأعداء. ولا تَقُلْلي أن ليس لكَ أعداء.
القوات الشعبية السويسرية تحمل البنادق، وتدمر الأنفاق، ثم تختبئ في قلب الأرض. ولا أثر للفرسان، ولا الأصدقاء. لن يأتوا. والأمر كله متروكَ لنا. وهذا أيضًا نُضْج، تمامًا كما في حالة العجز بسبب الحياة القصيرة، وحياة لوح زجاج النافذة (التي هي أيضًا قصيرة مقارنة بالخلود)، وكفي. فرأسي تدور، وأترنح هنا في المطبخ عند طاولة بجوار الحائط تقف علي عجلات. نظرتي إلي الأشياء مشتتة، وكذلك توجهاتي، وخطواتي، وحركاتي. أحدهم يلوح بها طوال الوقت، في عصر النسبية المتعددة، هؤلاء الناس أسميهم الرغائين، لغرض في نفسي، لأن التفكير في الأشياء التي تستحق يشبه السروايل. قل لي متي فقد أحدهم ساقه في سرواله؟ وبما أننا نقارن التفكير بالسراويل، فلننظر إلي الأفلام المتحركة. الفئران ترتدي مئزرا، والفطر له عيون، والذئاب تأكل بالملعقة. بعض النظر علي الحالات الشاذة في الثلاجات المتنقلة التي تزينها قطع دجاج شهية، وملعقة طهي خشبية منتشية، لم تقو علي انتظار الحساء القادم من أحشائها. كلا. لم تعد الناس طبيعية كما كانت، لأن، أو لهذا السبب البعض منهم يرغب بقوة في أن يصبح كذلك (وطبيعي أن الأصالة لا تُعني بالحفنة الطبيعية المتبقية). أو أن التفسير الصحيح أخيرًا يطفو الجوهر من قلب قشور الكلمات التفسير الوحيد لامتناع الفرسان عن الحضور، وأن الأمر كله منوط بنا، ليس لأنهم يضعون أيديهم بين فخادهم جماعات، يوبخون أنفسهم ويخدعونها، ويجني محبو الفخاد ثمرات أعمالهم. لما لا يتناوبون طالما أن الإله ميت، ولن يأتي الفرسان، والإنسان مجرد ذرة تراب في بحر عاصف؟ إذن القدم وحدها يمكنها التلويح بما ذكرته. القدم التي تطل من ثقب في ركبة مهترئة، أو من جيب سروال مزقه الهاتف المحمول. لكن لو تحلّي الانسان بالعقل (إنها مقولة مبتذلة، وهراء لا يمكن التعويل عليه)، واقتنع بأن الأمر منوط به هو وحده، ولن يوهن عزيمته، بل بالعكس، سيضرب بقوة ضربة البغال، ويدير ظهره لكل الشرور، مثل لازمة أغنية مفضلة. ومن يتذكر نشيد بلادي، بلادي، سينال نقطة إضافية. مكافأتي التي أريدها الآن وهنا هي كأس من الروم الكوبي. أذهب لأصبه في هذا الزمن الحقيقيّ نظير هذه الروعة المتوَّجة بالفشل الجزئي الوحيد، وهو في حالتي نقض الوعد بأن أقلل من الشراب بعد الظهيرة. فليس كل يوم عيدًا.
لذلك هيا نجعله الآن كذلك عمدًا. عزائي الوحيد أنه قد يكون اعتذارًا مفاجئًا لأحدهم، أو فكرة جفت في فمي. أنا سعيدة لأن بار الخمور ليس في مطبخي الذي يعج برائحة حساء طماطم محترقة. لكنه في متناول يدي، بجوار خزانة بها أواني العائلة الزجاجية. عندما كنت أصل إلي هذه الحد وأنا مع »ياردا«، وكان كثيرًا ما يحدث في الأماكن التي تقع علي يمين الخزانة الزجاجية، يقول لي: إهدئي! وإلا حملتكِ إلي مكان آخر! أتعرفون هذا الأمر، الكلمات التي تبعث علي السكينة، والجنون في نفس الوقت؟ مثل زيت تدهن به الحد الفاصل، حيث يحرقون أحدهم لأنه يقول الحقيقة، مثل رفع الغطاء، وصب الحساء أسفل دجاجة مسكينة جاءت إلي متجر اللحوم في عربة نقل صغيرة مع صورة سعيدة لها وهي ترتدي قبعة الطباخين، وتمسك بعصا الطبخ تحت جناحيها. سَكِينة تشبه غطاء بالوعات قنوات الصرف حيث هدير المياه، غطاء يسعي إلي نشر الهدور. غطاء يرفعه فتية من مدرسة إعدادية للفنون التشكيلية بورقة تغليف، وعندما تفوح رائحته في كل مكان، تدب الحياة في الغطاء، ويتحول إلي نوع من الفنون.
»انظر! لقد سقطت في الوحل«، يصيح الفنان وهو يلوح لأحدهم أمام عينه بورقة مشوهة بالخطوط. نفس المسافة، المسافة بين الجمرة وقطعة الفحم (مسافة قليلة)، المسافة بين الفحم والمقلاة، بين المقلاة والمرأة، إنها هي نفسها المسافة بين المرأة وزوجها الحبيب، عندما يتدبر الأمر إله الحب (كانت المسافة قريبة بالفعل بيني وبين »ت. ك«). تضاجعنا معًا في الأماكن العامة (كانت زوجة »ت. ك«تختار بعد كل ليلة عاصفة سياسة ما تقول »عندما تصابين بالانهيار، عودي إلي حيث تنتمين«). وكما تعود البراعم في فصل الربيع يعود إلي داء البواسير، من أوردة متسعة مشابهة، لكنها لا تصيبني في مؤخرتي، لأن الجزع لا يضغط إلا علي الرأس. من يضحك فهو يضحك من غبائه، معتقدًا أن الحب يعني مطعما غاليا، أو طيور مغردة تنشد أغنية في أوقات الحب، وليس كلمة «أحبكِ» المغلفة بالقيود. لكن الأمر في النهاية يتعلق بأمر واحد. ليس هو ما حذرتكِ منه أمكِ، طالما كنتِ امرأة، وأنتِ في الخامسة عشرة. أفترض أن هذا الأمر الواحد غير صحيح فيما يتعلق بالحب الحقيقي، لا من قريب ولا من بعيد. أما الافتراض الآخر فهو يتعلق بأن أنثي الخيل التي يمتلكها الحداد تسير غالبًا حافية القدمين. فمن يصنع الحذاء؟! إنه سؤال حريّ بمعهد لضعاف النفوس، مهما ادعيت بأن التصويت من حق المصابين بالبلاهة المنغولية لأن المجتمع السليم يتم تجاهله. »اهدئي وإلا حملتكِ إلي مكان آخر». هكذا كان يردد »ياردا«، ويقول أيضًا: »هل ترغبين في ذلك بالفعل؟«. وأنا أقول: »القبول زائد الرفض يعني القبول، أم تُرَي يعني الرفض؟» فلا أحد مضطر إلي أن يحملني إلي أي مكان. أنا قادرة علي أفعل ذلك بنفسي. فطوال حياتي وأنا أحمل نفسي إلي أماكن كثيرة. أحمل رأسي فوق ملابسي، وأضع قدمي فوق الأرض، ورأسي فوق السحاب. بشجاعة أو بدون شجاعة. ومن لم يسأل أحدًا عن شيء، يوفر المال لسن التقاعد، أو يتجول في قلعة مخيفة فوق عربة، ويضع عينيه في كفيه طوال الوقت، أصوات إنسان ميت قادمة من مكبرات صوت ترتدّ إليها. تقول عن غير قصد إن الرياح العاصفة تهدر في داخله. وبدلًا من أن يعيدوا تقييم ما يفعله المسافر عبثًا كي يستعرض قواه في العالم، ويقول شيئًا هستيريًا مفاده: »كفوا عن إزعاجي« في وجه الجميع (تقولها في المرآه،طالما أردت أكثر من أن تتخيلها)، بدلًا من ذلك يذهب لتناول نقانق الفجل، وهو علي قناعة بأن الحب الصادق يساوي محاولة فاشلة في أن يلقي لحبيبته بعض الزهور الورقية. فهذا، وياللعجب، يجعل الدموع تترقرق في عينيها.
أعطيك خبزًا فترميني بحجر. راودتني هذه الفكرة وأنا أقف مستندة علي الخزانة في غرفة الاستقبال، أتسلح بالشجاعة من كأس ثالث. سؤال انبعث من داخلي: عن أي شجاعة أتحدث، أم أن الأمر يتعلق بإطفاء جميع مصابيح المصعد في عقلي. المصعد الذي ينطلق من مكمنه، ويصدر شرارًا وهو يصعد ممزقًا قيود العادة، فيخلط، دون أن يدري، بين الحرية، والسرعة، والذكاء. اللعنة علي الجميع،وعلي صورة العالم الشاعرية الباهتة التي يراها قصير النظر وهو ينظف نظارته، وينقل أكياس الفضلات من غرف حاويات القمامة بسيارته العتيقة، ثم يلقي، وهو ينظف زجاجة نظارته، بلوحة فان جوخ في مقلب القمامة. بكل بساطة. لا طائل من كل هذا؛ من الشعر التافه الذي إن زاد عن حده صار مجرد كلمات مسجوعة. يا إلهي! هذا ما علمتني إياه: أن أترقب نقد الآخرين لي، وأجعل منه أمنية ليوم سعيد قبل أن تتوقف جارتي «بلاشكا« عن قولها لي، فقط لأنها لا تباركَ كأسي الذي أحتسيه بعد الظهيرة. حيوانة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.