تعاني صناعة النشر، ضمن ما تعانيه، من تردي أحوال الصناعة الأخري المرتبطة بها وأعني صناعة التوزيع، ولعل تردي صناعة التوزيع يعود في الأساس إلي تعاملنا معها علي كونها مكملة لصناعة النشر وملحقة بها (اعتدنا أن نسمي الشركات العاملة في هذا المجال، دار ..... للنشر والتوزيع) ولم يحدث حتي الآن أن تعاملنا مع التوزيع علي أنه صناعة قائمة بذاتها تحتاج لاستثمارات ضخمة ودعمًا لوجيستيا وبنية تحتية تشمل أسطولا للنقل وطرقاً ومخازن ومناخًا ثقافيًا داعمًا وأخيرًا العديد من منافذ التوزيع وهي الحلقة الأخيرة في هذه السلسلة قبل الوصول إلي القارئ (المستهلك). من المؤكد أن هناك تطويرًا في هذه المعادلة بما لا يجعل منافذ التوزيع لا تمثل بالضرورة الحلقة الأخيرة، ولكن الأمر يتطلب المزيد من الوقت لتصبح البدائل عملية ومثمرة. مجموع ما تمتلكه مصر من منافذ توزيع (مكتبات بيع) لا يصل إلي 200 مكتبة (إذا استثنينا باعة الصحف والأرصفة) تتركز معظمها في العاصمة وتحديدًا في وسط العاصمة إضافة إلي المولات الكبيرة، معظم هذه المكتبات غير مجهز بما يسمح بسير العمل بشكل جيد ومتدفق ومتجدد؛ فالعديد منها يعمل دون نظام يحدد حركة المبيعات والرصيد المتبقي، ربما تغلبت سلاسل المكتبات، والمنتشرة بشكل أساسي في المولات وبعض المناطق المتميزة اجتماعيا، علي هذه المشكلة لكنها صدرت لسوق النشر مشكلة جديدة ألا وهي التسليع، فالاستثمارات التي تم ضخها في هذه السلاسل لا يعنيها نوع السلعة بقدر ما يعنيها العائد ودورة رأس المال، مما جرد الكتاب كمنتج ثقافي، بالأساس، من الكثير من خصائصه وحوله إلي فرس رهان فنتجت ظاهرة الأكثر مبيعا والكتاب الخفيف والكتاب بطيء الحركة ... إلخ، وتحولت هذه السلاسل إلي سلطة جديدة تتدخل في نوع المنتج وتحديد مواصفاته، ليس فقط علي مستوي الشكل وجودة الصناعة بل تعدي الأمر ذلك إلي تدخل مباشر وغير مباشر في المحتوي، فبعض السلاسل بدأ يتشارك مع الناشرين في إنتاج كتب محددة، وجميعها يحدد ما يعرضه وما لا يعرضه دون معايير محددة، فقط المبيعات ودورة رأس المال، وأحيانًا يتم منع كتب تحقق هذه المعادلة بحجج أخلاقية وسياسية وفكرية، مما جعل هذه السلاسل تتحول بقصد أو دون قصد إلي جهة رقابة خفية وقبل هذا وبشكل واضح إلي متحكم أساسي في الذوق العام للقراء. هل ثمة بدائل تلوح في الأفق، بالتأكيد هناك العديد من البدائل للخروج من قبضة هذه السلطة المستحدثة، يتمثل بعضها في اقتحام بعض الشباب في الأقاليم لهذا المجال، وفي الإلحاح علي الهيئات الحكومية علي استغلال منافذها ومقارها للتغلب علي ندرة منافذ التوزيع وتفكير البعض في حلول مبتكرة للتسويق الإلكتروني مشفوعا بخدمة التوصيل.... لكن ثمة تفاصيل تحتاج للمناقشة في هذا المجال لها حديث آخر.