خريف تتحرك الزوجة الشابة في العاشرة صباحاً، خلف السور الخشبي لمنزل زوجها. وأنا أراوغ العُزلة بسيارتي. تتجه نحو الرصيف مرة أخري لتنادي علي بائع الثلج، وبائع السمك، وهي تقف في خجل، بلا مشد للصدر، وتعبث بخصلات شعرها المُتماوجة، أشبهها بورقة سقطت من شجرة. تندفع عجلات سيارتي، مصحوبة بصوت طقطقات، وهي تدهس أوراق الشجر اليابسة، وأنا أومئ برأسي وأمر مُبتسماً. وصول ثم يصل شخص ما، بطريقة ما، ويجد نفسه يفك أزرار فستانها في غرفة نوم غريبة. تستشعر الخريف، وهو يُلقي بأوراقه الحريرية المُوشاة عند كاحليها. يبدو الجسد الخفيف بارز العروق مُلتفاً علي نفسه مثل هبة رياح شتوية.. دمار شامل كان يوماً شديد البرودة. دفنا القطة، وأشعلنا النار في قفصها في الفناء الخلفي. تقافزت البراغيث لتهرب بحياتها من النار.. فقتلها البرد. اقتراب الشتاء ترتطم الأشجار التي سقطت نصف أوراقها بفعل الرياح، وتنثني، ترفرف أوراقها الجافة وتحاول التشبث، أو تجرفها الرياح مثل سيل من البرَد حتي تهوي وتحط فوق الأعشاب القصيرة علي حافة الحديقة الجرداء. احتفال يحل شهر مارس علي منطقة في الشمال الأوسط يحدث الآن، كما يحدث دوماً، أن تتقابل نسمات الجنوب برياح باردة. وعلي الأرض يرتفع المد، كأن يداً بطيئة رفعته. لن يأتي أبريل بعد مارس، بل سيأتي مارس جديد وتسقط حراشف الرياح وجلدها القديم في الوحل؛ وها هو الظل يُباعد بين الأشجار ويُفسح مجالاً لنور الشمس. سنرتدي قبعاتنا الوردية، ناعمة الملمس التي اشتريناها العام الماضي. تكتسب القبعات رونقاً جديداً بفضل عيون بُنية اللون تتذكر المواسم القديمة، وتسمح لنا بالتوجه إلي زهور الأوركيد في صوبتها الزجاجية، لنري الزهور التي ستنال الجائزة غداً في القصر الملكي. توقف هنا، هذه هي زهور الدُلفي حين تري براعمها.. ستعجز عن التعبير. براعمها أكثر صفاءً من زهور تتفتح علي الأغصان. يُشبه النظر إليها تأمل سحابة ملونة ومحاول الكشف عن سر وجودها. بالطبع هذه هي أشجار البرتقال يكشف عنها ذلك العبق الذي يملأ الهواء. العبق يوزع الظلمة بين الأغصان والأوراق، والظلمة تمنح الأبيض جلالاً. هل تفهم قصدي؟ هذه الظلمة تكشف ما يفككه الظلام ويجعله يدور في الهواء بأجنحة من شمع. الظلام وحده قادر علي هذا بقوة تفوق لمسة إصبع أو تنهيدة حارة. جمال ساحق، وفناء قريب. وها هي زهور الأوركيد أخيراً لم أشعر بفرح كهذا من قبل، سأترجم لك ما تقول الزهور: يا له من يناير غريب؛ مات في زمن الشاعر الفرنسي فرانسوا فينو. ها هو الجليد، وها هي بقعة من زهور البنفسج تنمو في ذات المكان الذي رأي فيه الربيع مصيره المحتوم. وهذا يوليو قادم من أيسلاندا: إنه أنفاس فتاة في ريعان الشباب، حملتها الرياح جنوباً. اكتسبت الزهور لونها، إلا أن النبات لا يزال صغيراً. نتف الجليد المتساقط ليست إلا حفنة من شهور فبراير الميتة، تضرع فيها الروائي الجواتيمالي؛ رافائيل اريفالو مارتينيز، إلي زهرة. ها هي زهرة الخزامي؛ صديقتي العزيزة التي ظلت إلي جواري لسنوات برأسها الهش، وعروقها المليئة بالنسغ. ذات أبريل، حين استبدت الشهوة بنا لأول مرة، هربنا من المدينة واتجهنا نحو التل الأخضر. قالوا هناك أنها تشبه شهر مايو. ثم جاءنا جميعاً ما يُطفيء نار شهوتنا.. سرب فراشات زرقاء يتجمع حول جذع شجرة. يونيو كأس صفراء اللون، لن أخبرك باسمها؛ وأغسطس له وطأة.. وها هي الشهور المُشرقة خمرية اللون، حضرت عدا شهر مارس. مارس؟ أجل، مارس. تربية الزهور هواية مملة، يتمني المرء أن ينتزعها من الأصص، ويُلقي بها إلي الشمس كي تلتهمها. اتجهنا إلي المنزل البارد المُتبلد، وجلسنا جوار المدفأة. لقد أزهر هذا اليوم بما فيه الكفاية. أشعلتُ جذوة في المدفأة بدلاً من قضاء ليلة حمراء. سوف تدفيء الجذوة أيدينا، وتشعل نار الحديث. أعتقد أننا قضينا وقتاً طيباً.. وقت يشبه بُستاناً أخضر اللون.