محافظ الجيزة يزور الكنيسة الكاثوليكية لتقديم التهنئة بمناسبة عيد القيامة    تقدير كبير ل«قائد المسيرة».. سياسيون يتحدثون عن مدينة السيسي بسيناء    مغربي يصل بني سويف في رحلته إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج    الإسكان تُعلن تفاصيل تنفيذ 3068 شقة في مشروع "صواري" في بالإسكندرية    برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: الدمار في غزة هو الأسوأ منذ عام 1945    الاعتراف بفلسطين.. دعم عربي وفيتو أمريكي    «كيربي»: روسيا تخرق قرارات الأمم المتحدة بشحن النفط إلى كوريا الشمالية    بعد سقوط توتنهام.. ليفربول يعود إلى دوري أبطال أوروبا في الموسم المقبل    صن داونز يهزم كايزر تشيفز بخماسية ويتوج بالدوري الجنوب إفريقي    القبض على نصاب بزعم التوظيف بمقابل مادي    «كان» يمنح ميريل ستريب السعفة الذهبية في افتتاح دورته ال77    الفنان أحمد السقا يكشف عن الشخصية التي يريد تقديمها قبل وفاته    نعيم صبري: نجيب محفوظ هو مؤسس الرواية العربية الحديثة    إجابة غير متوقعة.. زاهي حواس يكشف حقيقة تدمير الفراعنة لآثارهم    توقعات برج الأسد في مايو 2024: «تُفتح له الأبواب أمام مشاريع جديدة مُربحة»    «يا خفي اللطف ادركني بلطفك الخفي».. دعاء يوم الجمعة لفك الكرب وتيسير الأمور    «الصحة» تدعم مستشفيات الشرقية بأجهزة أشعة بتكلفة 12 مليون جنيه    في يومها العالمي.. سبب الاحتفال بسمك التونة وفوائد تناولها    الصليب الأحمر الدولي يعلن مقتل سائقَين وإصابة 3 موظفين في السودان    القوات الروسية تتقدم في دونيتسك وتستولي على قرية أوشيريتين    استعدادًا لموسم السيول.. الوحدة المحلية لمدينة طور سيناء تطلق حملة لتطهير مجرى السيول ورفع الأحجار من أمام السدود    مصطفى كامل يحتفل بعقد قران ابنته    بيان عاجل من الأهلي بشأن أزمة الشحات والشيبي.. «خطوة قبل التصعيد»    أسعار النفط تستقر وسط ارتفاع المخزونات وهدوء التوترات الجيوسياسية    بالفيديو.. خالد الجندي يهنئ عمال مصر: "العمل شرط لدخول الجنة"    محافظ جنوب سيناء ووزير الأوقاف يبحثان خطة إحلال وتجديد مسجد المنشية بطور سيناء    أستاذ بالأزهر يعلق على صورة الدكتور حسام موافي: تصرف غريب وهذه هي الحقيقة    جهود لضبط متهم بقتل زوجته في شبرا الخيمة    السجن 7 سنوات وغرامة مليون جنيه لشاب ينقب عن الآثار بأسيوط    "أسترازينيكا" تعترف بمشاكل لقاح كورونا وحكومة السيسي تدافع … ما السر؟    إصابة موظف بعد سقوطه من الطابق الرابع بمبنى الإذاعة والتلفزيون    نجوم الغناء والتمثيل في عقد قران ابنة مصطفى كامل.. فيديو وصور    لمدة أسبوع.. دولة عربية تتعرض لظواهر جوية قاسية    مصرع أربعيني ونجله دهسًا أسفل عجلات السكة الحديدية في المنيا    أخبار الأهلي: توقيع عقوبة كبيرة على لاعب الأهلي بفرمان من الخطيب    الأرصاد العمانية تحذر من أمطار الغد    أمين الفتوى ب«الإفتاء»: من أسس الحياء بين الزوجين الحفاظ على أسرار البيت    رسالة ودعاية بملايين.. خالد أبو بكر يعلق على زيارة الرئيس لمصنع هاير    مدينة السيسي.. «لمسة وفاء» لقائد مسيرة التنمية في سيناء    «المهندسين» تنعى عبد الخالق عياد رئيس لجنة الطاقة والبيئة ب«الشيوخ»    120 مشاركًا بالبرنامج التوعوي حول «السكتة الدماغية» بطب قناة السويس    «ماجنوم العقارية» تتعاقد مع «مينا لاستشارات التطوير»    مصرع شاب غرقا أثناء استحمامه في ترعة الباجورية بالمنوفية    فنون الأزياء تجمع أطفال الشارقة القرائي في ورشة عمل استضافتها منصة موضة وأزياء    ب 277.16 مليار جنيه.. «المركزي»: تسوية أكثر من 870 ألف عملية عبر مقاصة الشيكات خلال إبريل    ندوة توعوية بمستشفى العجمي ضمن الحملة القومية لأمراض القلب    "بسبب الصرف الصحي".. غلق شارع 79 عند تقاطعه مع شارعي 9 و10 بالمعادى    هجوم شرس من نجم ليفربول السابق على محمد صلاح    برلماني سوري: بلادنا فقدت الكثير من مواردها وهي بحاجة لدعم المنظمات الدولية    مستشار المفتي: تصدّينا لمحاولات هدم المرجعية واستعدنا ثقة المستفتين حول العالم (صور)    رئيس الوزراء يعقد اجتماعًا مع ممثلي أبرز 15 شركة كورية جنوبية تعمل في مصر    القوات المسلحة تنظم المؤتمر الدولى العلمى الثانى للطب الطبيعى والتأهيلى وعلاج الروماتيزم    رانجنيك يرفض عرض تدريب بايرن ميونخ    دعم توطين التكنولوجيا العصرية وتمويل المبتكرين.. 7 مهام ل "صندوق مصر الرقمية"    الأهلي يجهز ياسر إبراهيم لتعويض غياب ربيعة أمام الجونة    التنظيم والإدارة يتيح الاستعلام عن نتيجة الامتحان الإلكتروني في مسابقة معلم مساعد فصل للمتقدمين من 12 محافظة    هيئة الجودة: إصدار 40 مواصفة قياسية في إعادة استخدام وإدارة المياه    بروسيا دورتموند يقتنص فوزا صعبا أمام باريس سان جيرمان في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



‎لأن هناك ما ومن يستحق
‎كنا نحلم بالثورة.
نشر في أخبار الأدب يوم 25 - 01 - 2015

الثورات حلم حين تحققه الشعوب تتعلم الفرح. حين تثور أنت تدافع عن حقك في الأمل وهذا الدفاع يعني أنك حي وتريد الحياة بشروط و معانٍ تعرف أنك تستحقها وتحددها.
‎لست وحدي من تستطيع الكتابة عن ثورة 25 يناير 2011. كل من شارك بها ونزل سواء عاد حياً لبيته أو لم يعد يستطيع أن يصف الوهج الذي يشبه الحب لأول مرة.. الذي يتوه منا بقية العمر.. وتعيده لنا الثورات بصدقها وطزاجتها. هي التي تجعلنا نتعرف علي غرباء يصبحون كالأهل أكثر من بعض الأهل.. وهي مادة الفرح الخام الذي يشبه عالم الطفولة الذي كان بلا دماء ، بلا فهم حين أحببنا العالم لأننا اعتقدناه طيباً.
‎حتماً كثير من الشهداء صاروا شهداء لأنهم صدقوا هذا.. أن طفولتهم تعود إليهم وتمتد ولن يُصوب أحد ( حقاً ) رصاصه إلي صدورهم.
‎كنت كتبت " الذين ينظرون للبحر " مقالة عن مقتل الشهيد خالد سعيد وتم نشرها في جريدة الدستور الورقية أيام حكم مبارك ومقالة أخري بعدها لكن هذه الثانية تم نشرها في الدستور الإليكترونية بعد بيع جريدة الدستور وكان عنوانها " الذين يقفون بيننا وبين حب الوطن " عن تشكيل نفسية البلطجي في نظام مبارك البائد وفيها تكلمت عن وجوب التخلص من وزير الداخلية الحبيب العادلي ومن نظام تطل علينا بعض رموزه السياسية في أشخاص مثل هشام طلعت مصطفي كما تضامنتُ مع زملاء جريدة الدستور الأصلية وقتها فيما تعرضت له جريدتهم بما رأيناه " مؤامرة " من الحكم عليها لموقفها شديد المعارضة. كذلك وقفنا نؤيد حق الصحفيات والمحاميات اللواتي تم التحرش بهن من قبل أمن الدولة علي سلم نقابتنا من أعوام.
‎علي مدي سنوات وقفنا- الصحفيون خاصة علي سلم نقابتهم للمطالبة بإقالة حبيب العادلي و التصدي لجهاز أمن الدولة.. شاركنا في وقفات داعمة لغزة والعراق بسبب الاحتلال أمام مجمع التحرير. كنا نشاهد ضباط الأمن وهم يقومون ب " تصويرنا " ونحن نقوم بتصويرهم أثناء تصويرهم لنا بدورهم في محاكاة ساخرة لم يصدق أحد إلي ما قبل اندلاع الثورة بأيام بأنها ستتحول إلي واقع لا نكف فيه عن تصوير كل ما نراه بعد ذلك طيلة أيام " التعارف " والحب بين ملايين المصريين ما قبل تنحي مبارك.
‎كان هناك من " الزملاء " من يحضر أوقاتا.. إلي وقفاتنا علي سلم النقابة قبل أعوام من وقوع الثورة لسؤالي مباشرة: " وأنت هنا كمشاركة ولا لتغطية الحدث؟" بسخرية وخبث واضحين.. فأرد: زي ما تحسبها ".. فيعاود التعليق: " بس أنا حابلغ الريس " قاصدا ب " الريس " رئيس تحرير الجريدة وقتها سمير رجب والذي كان يرأس جريدة " مايو " الجريدة الناطقة باسم الحزب الوطني الحاكم والتي كان مقرها بكل اسف جريدتنا أيضاً أي بجريدة الجمهورية.
‎ما أكتبه هنا لم يحدث بقصد أن يكون يوميات.. لم يكن بي قدرة ولا تركيز علي تدوين أي شيء أثناء مشاركتي في الثورة التي أراها تمتد لسنوات.. كنت قد شاركت في وقفة نقابة الصحفيين يوم 27 يناير ثم مسيرة الجماهير التي حاولت الوصول إلي ميدان التحرير يوم الجمعة 28 يناير 2011 و ما تلا ذلك من أيام سبعة نزلتها لميدان التحرير وأنا أصرخ مع الصارخين والصارخات: " اِرحل "
‎أصل هذه " اليوميات " هو خطابات ( إيميلات ) إليكترونية متبادلة بيني وبين بعض الأقارب ، وبيني وبين شاعر صديق كان قد بدأ مراسلتي وقتها و هو الشاعر المصري أمجد ريان. كانت ابنة الخالة خارج البلاد في قارة أخري وكان ابن الخال الشهيد في مسقط رأسه بورسعيد كما كان الشاعر أمجد ريان في مصر لكن ثلاثتهم لم يتمكنوا من النزول والمشاركة في أحداث ثورة 25 يناير 2011 لظروف تخص كل منهم ليس أقلها الظروف الصحية.أولاد الشاعر أمجد نزلوا وشاركوا حتي أني كتبت له: " ربما أكون قابلتهم أو قابلوني دون أن نعرف بعضنا البعض ". كما أن بعض " اليوميات " طويلة أكثر من غيرها لكونها تضم عددا من الإيميلات التي استبقيت أو نشرت هنا منها ما أرسلته أنا كرد علي الرسالة ثم رد علي الرد وهكذا. وقد يبدو من بعضها كما في مستهل رسالة للشاعر أمجد ريان أني أِشير إلي قراءة شيء ما.. كان أمجد يرسل لي شعراً جديداً كان يكتبه تلك الفترة ويطلب رأيي المتواضع فيه وكان هذا يضطرني للإجابة رغم أني كنت أوضح أن مزاجي وحالتي النفسية والبدنية معاكسة تماما للشعر وحدها. لكني احتفظت بعناوين بعض تلك الرسائل الإليكترونية مثل " الأمل والألم " ، و" بافكر آخد الجنسية التونسية " ( يلاحظ أن تاريخ الرسالة المذكورة بهذا العنوان كان قبل اندلاع شرارة ثورة يناير 2011 بيوم ) و" المتاريس " والتي أظنها تحولت لقصيدة لدي أمجد حيث كتب يعلق علي ذكري للمتاريس ال " نوفي " الجديدة كما وصفتها له
‎لهؤلاء الثلاثة: معتز فاروق السيد ابن خالي شهيد حرب أكتوبر 1973 ولابنة خالتي المهاجرة دينا القاضي ، وللشاعر أمجد ريان تدين هذه المراسلات " الجبرية " التي كانت تطالبني بسرد ما حدث حين نزلنا للثورة ضد حكم مبارك ونظراً لحق كل طرف في خصوصيته قام أخي باستبعاد رسائلهم والاحتفاظ بإجاباتي عليهم ما جعل الحصيلة تبدو كيوميات لمشاركتي المتواضعة التي أفخر بها في ثورة 25 يناير منذ ما قبل نزول الجيش المصري لميدان التحرير وميادين مصر.
‎ 24 يناير 2011
‎ بافكر آخد الجنسية التونسية
‎معتز الغالي
‎أحبك وأحب مصر بلدي وأحب كل حاجة جديرة بالحب والاحترام.. الخير والحق والجمال
‎امتي مصر تبقي " تونس"؟ الكل بيسأل بدل ما ينزلوا الشارع !
‎باحلم بأن وطني يرجع لي. النهارده شفت تاني كلب الحراسة الوولف الكبير ده وعارفه اسمه بالإنجليزي ( جيرمان شيبرد ) رجعوه تاني (حجمه أقرب للأسد) لمحطة مترو السادات ده غير عربات الأمن المركزي المصفوفة في مربع منطقة أحزاب وسط البلد بميدان طلعت حرب من أيام ولعلها من أسبوع لدرجة أني رحت سألت الضابط في محطة مترو السادات ( ميدان التحرير فوق الأرض) : " لو سمحت عندي سؤال. الكلب ده بيفكرني بكلاب استعملوها الأمريكان في العراق لتخويف وإرعاب المسجونين زي كل الفضائيات والمجلات السياسية ما كشفت لنا وقتها أنا فاكره الصور ".. قام الضابط الوسيم المعجب بنفسه أول حاجه قالها " حضرتك بتشتغلي إيه؟" فما قلتش وكررت مش مهم ".. مواطنة مصرية" وفهم مهنتي وظل يدافع عن منطق البطش (بدون الاعتراف بيه) مدللا بأن " الطبنجة بتاعته حسب استخدامها , وإن الكلب حيوان أليف في البيوت وليه ما ارحش أسلم عليه ( علي الكلب) اللي نص ارتفاع جسمه يغطي أغلب جسمي وأنا واقفه.
‎ سألته بعد ما ادعي أن الكلب عشان " شم المتفجرات": " يعني لو فيه مظاهرة هنا بكره وشاورت بإيدي علي المساحة أمامنا في المترو.. لو فيه مظاهرة مش حيهاجم أو يُستخدم في الهجوم علينا؟ " وطبعا كنت عارفة أني حاسمع الكذب اللي اتدربوا علي النطق بل التفكير بيه حتي بينهم وبين نفسهم. في الآخر شكرته بأدب علي صبره مع أني ما اخدتش من وقته دقيقة (كان علي وجهه ابتسامة مدهوشة) ومشيت بحزني لأني كنت شفت قبل كده هذا الكلب (كلب السادات زي ما أسميته) في نفس المكان من شهور وذكرته لماما وبعض زملائي في "أدب ونقد" وعارفه زي ما كل الناس عارفه انهم نزلوه تاني في هذه المحطة الرئيسية للترويع والترهيب.. يعني التلويح باستخدامه للردع ووأد الفعل قبل البدء.
‎قلت لذلك الضابط :" بس هو بقه (فمه) مكشوف مش متغطي " ولم يجد إجابة رغم أن الكلب ده كان في وقت من الأوقات لفترة لم تتجاوز نصف يوم بكمامة من الأسلاك الحديدية سرعان ما خلعوه عشان نصدق إمكاناته وقدراته العدوانية.
‎ودلوقت بنسمع عن التنسيق بين السلطة الفلسطينية والإسرائيليين ضد حماس ولصالح تصفيتها وإلغاء قضية اللاجئين وتقريبا التآمر علي أهل غزة.. ومع أني مش متحمسة لحماس أو للإسلاميين في أي مكان بأتعجب باشمئزاز وحزن من عدد الخونة المتصاعد في كل الجنسيات وخصوصا في نسبتهم العالية ضمن حكام العالم العربي
‎.. وإمتي يا مصر وإزاي حتنضفي
‎تعبت وأتعبتك
‎بسلام وحب وإخلاص أتركك
‎غادة
‎ 26 يناير 2011
‎أمجد العزيز
‎النهارده ظهرا كانت محطة مترو السادات هادية لكن الاحتشاد الأمني سواء بيونيفورم أو بدونه من الشرطة إياها سواء فوق الأرض أو تحتها كتييييير جدا حتي أني رأيت متاريس جديدة " نوفي " ألوانها جديدة وهي لسه بورقها في التحرير وأمام النادي الدبلوماسي وفي ميدان طلعت حرب بشكل مستفز.
‎ سألت الضباط والجنود وأنا بادفع بايدي متراس منهم: لمين ده.. لنا؟ احنا مصريين زيكو.. وفي شارع فرعي سألت واحد مجند بيستريح داخل عربة الأمن المركزي: " لمين كل ده احنا كلنا مصريين ليه؟" أجابني بابتسامة طيبة ويد مرفوعة بعجز لأعلي " احنا ما لناش ذنب " قلت له عارفه بس أنتو بتموتوا واحنا بنموت عارفه ما لكوش ذنب ".
‎ في طريق عودتي للبيت شفت طفل فقير ب " شبشب" وملابس تدل علي أنه ابن بواب أو حد بسيط واقف قدام كشك يشتري بسكوت.. كان صغير قوي بس كان بيقول للشاب صاحب الكشك: كان فيه مظاهرات هنا في التحرير إمبارح." كان يتكلم عما عرفنا لاحقاً أنه كان الثورة .... حبيته وفرحت بلا حدود من أن طفولته حصلت علي هذه الهدية.. علي فعل بِكر صحيح وتصحيح .. فجّر همة في وشوش الناس اللي مش حاسه فيها نفس العتامة والإنسداد زي الأول. تخيل.. مش حتصدق أني من شهرين كنت باقدم 2 شعرا في عدد من أدب ونقد- واحد منهم من " شباب من أجل العدالة والحرية" وكان عنوان المساحة اللي وضعت فيها شعرهم " أوان الثورة " وده كان قبل ثورة تونس بشهر أو أكتر وغيرته لعنوان " دعوا ملايين الزهور تتفتح " بس والله حلمت ليلة تدفق الناس في التحرير أني في منطقة مواجهة للمصل واللقاح وبادعي الناس للثورة وباتكلم مع الجنود وبعدين رفعت إيديا للسما ( في الحلم ) ادعي ربنا ينصر الحق والعدل وتحصل ثورة بيضا !! ".
‎ لم أكن اشتركت في يوم 25 يناير أو عرفت تفاصيل ما حدث فيه التي عرفناها لاحقاً مثل كل المصريين.أنا طبعا ياما نزلت وشاركت في مظاهرات أو اعتصامات بس المرة دي متفائلة وحاسة الناس كمان كده.. اليأس مش أسمنتي تماما زي ما قبل تونس ولكن كم كنا نتمني أن الملايين تنزل الشارع عشان كل الحسابات تتقلب وأهي أمريكا وإنجلترا وألمانيا وفرنسا بل حتي رؤساء تحرير الصحف القومية مانشيتاتهم وكلامهم اتغير.. حتي أمثال جهاد عوده من الحزب الوطني بيتكلم بلهجة شبه خائفة في التليفزيون.
‎دلوقت السعادة اللي كنا نسيناها هي أني باشوف شباب ماسكين علم مصر.. بس مش عشان الكورة أو لعب المنتخب مع فرقة أجنبية لكن عشان مصر يعني عشان نفسهم...
‎سامحني مش قادرة أتحرر نفسياً من استحواذ الحالة دي عليا لأنها حالة مفرحة وفيها أمل ولو بعد حين.. عشان كده متشبثة بالإحساس ده وعطشانه له زي كل المصريين والمظلومين اللي زهقوا وتعبوا.
‎لا بد أن تكون بخير لأنني أريدك كذلك ولأن لسه فيه حاجات صح وجميلة في الحياة
‎غادة
‎ 2 فبراير 2011
‎ الأمل و الألم
‎معتز
‎هل يجب أن أعتب عليك أم أقلق فقط؟
‎من الصعب أن أحس بأي شئ سوي الغضب الجارف والغيظ الذي سيفجرني من بوادر الحرب الأهلية التي بدأها الخائن الذي استحل دماء المصريين وطبعا أنا شاركت في الجمعة الأولي ( 28 يناير ) حيث تم ضربنا بكل شئ وسقطت بتأثير الغاز أكثر من مرة وكنت قد تلوت الشهادتين قبل خروجي يومها من بيتنا بدون معرفة جواد الذي كان يسأل ماما وتكذب هي عليه بطلب مني لطمأنته. تركت بعض أرقام التليفونات لأمي فقالت لي " إيه يعني بتودعيني؟".
‎لم أقم بالصلاة في مسجد مصطفي محمود يومها وإنما ظللت أدعو ربي قبل المسيرة أن يغفر لي ذنوبي وكنت قبلها بيوم علي سلم نقابتنا مع المحتجين الزملاء ولأول مرة نري مواطنين شعبيين ذلك اليوم- علي سلم النقابة ينضمون إلينا رغم الكردون الأمني البشع وكنا نصرخ " سيبه.. سيبه " أو " حرية.. حرية.. حرية " ليترك الأمن أحدنا أو إحدانا بعدما أمسك به أو بها , أو ليترك من تريد من المواطنات أن تدخل. قلة قليلة تم السماح لها بالدخول. كان ضابط أمن الدولة " يقزقز" اللب ضاحكا و" يعزم" علي زميله ويضحكان وهما ينظران إلينا كإننا حيوانات في أقفاص بحديقة حيوانات أو في فقرة بالسيرك.. والحناجر تشتم مبارك وعز أكتر منه.. و" الحزب الواطي.. اللاديمقراطي ". اندست واحدة بيننا كنت سبق ورأيتها حين كنا نتضامن مع الزملاء المعتصمين بالنقابة من " الدستور" الأصلية وكانت يومها تدعي حين سألناها ، أنها من جريدة " 24 ساعة " (بتاعة المدعو سمير رجب الذي كان لا يكتب إلا ليسجد لحسني مبارك وخلق مثل مبارك كتائب من المنافقين الحرامية داخل المؤسسة.. وهوالذي كما تعلم قام برفتي أو رفدي فور حصولي علي الماجستير بإمتياز من إنجلترا وكان ينكل بكل شريف كما منعني من الكتابة بالاسم وهو ما كان رئيسي في صفحة الأدب قد بلغني به في وقت من الأوقات ). تلك البنت الغير مريحة ذات الوجه الجبسي كانت تحاول الالتصاق بي وأنا أتحدث إلي غيرها فقط لتسمع ما أقول ولا تكف عن الإستجواب وأهم حاجة عندها الأسماء ولاحظت أن محمد عبد القدوس الذي كان سبق وأعطاني رقم موبايله من قبل وأدرت ندوات لحرية الرأي معه بالنقابة يتململ في تأكيد رقم موبايله لي أمامها حينما طلبت ذلك بينما هي لا تريد الإجابة علي أي شئ وحتي اسمها حين سألتها بلطف ذات مرة أصيبت بحالة عصبية وقالت اسما سريعا جدا وتركتني حتي أني نسيت الاسم.
‎كانت تلك المدسوسة قبل الثورة قد ظهرت فجأة علي سلم النقابة بيننا ولم يتحقق أحد من إدعائها أنها في جريدة 24 ساعة لكن كانت تتعمد نشر وإشاعة أشياء محبطة تهدم بها عزيمتنا مثل القول أن من يعبر النقابة من الناس أثناء هتافنا يعتقد أننا نهتف لجمال مبارك ثم يمشي. تقول هذا وتضحك وتمضي. كان هذا يوم التضامن مع أسرة جريدة الدستور بعد الإطاحة بأغلب الشرفاء فيها وبرئيس تحريرها إبراهيم عيسي. لم تفتح فمها بكلمة أو تهتف أبدا بل تدون أشياء. ويوم الخميس 27 يناير كانت البنات يغطين وجوههن منها لما بدأت تقوم بتصويرهن والسلم شبه " فاضي" قبل مجئ الناس وانضمام المزيد من الزملاء أيضاً.. كما اظهرت أنا بالكلام المباشر بصوت مسموع لتلك المدسوسة أننا نعرف الجواسيس المدسوسين بيننا بتوع الوطني وحذرتُ الزميلة الجميلة الناشطة نور الهدي زكي منها أيضا ً ولأن الفتاة تلك كانت جاسوسة فعلاً كانت تفر من كل مكان أكون فيه أو تبتعد عني وهي تسمعني أتكلم بصوت عالي عنها للآخرين علي السلم وحتي داخل النقابة.. تبتعد ولا تتصدي أو تواجه لأن المثل يقول بوضوح " يكاد المريب يقول خذوني " . لم أستغرب. لكنها حاولت تدفع إلينا ببعض الشباب من الزملاء ليسألونا متي ننوي أن تكون مظاهرات "الجمعة" ( الذي كان 28 يناير) ولم يكن هؤلاء انتبهوا لها ولا قلنا لهم تحذيرا. تسأل عن طريق واحد طيب لا أعرف اسمه: من أي مسجد؟. قلنا " كل المساجد ".
‎يوم 28 كنا وقفنا كلنا قبل " صينية " ( دائرة ) المنطقة المقابلة لقسم شرطة الدقي وفندق شيراتون القاهرة.. الجموع هادرة والشعور تجاه الشرطة عدائي جدا حتي أن ضابطا وهو يقوم بحركة ودية مهذبة بالسماح لي بالتحرك ونحن أمام الساحة الأمامية لمسجد مصطفي محمود.. نظرت إليه وأنا أرفض وبتكشيرة وغضب هائل بداخلي.. أقصد ده وقت تحرك جموعنا بعد انتهاء صلاة الجمعة في المسجد اللي كانت أول مرة أسمع فيها خطبة لها معني. كانت عن العدل.
‎في الدائرة أمام قسم شرطة الدقي وقف الطرفان.. الشعب والشرطة. المدججون بالسلاح والعزل. المواجهة التاريخية الأزلية تتكرر. أتذكر أني يومها بلا إدعاء لبطولة قد تكون زائفة.. تقدمت وحدي تماما إلي منطقة الدائرة تلك يعني خرجت من حيز المجاميع ربما لأني شعرت أن وقفتنا أو حالة الشلل والتربص المتبادل دي حتطول.. كنت أرتدي نظارتي الشمسية لكن هيهات؟ بدأ إلقاء قنابل غاز عند قدمي. لم استطع الحركة وأنا أتعرض لما لا أعرفه للمرة الأولي في حياتي.. المجاميع كانت لسه واقفة في الخلف تبعد عني بمسافة. فجأة وجدت شاباً مراهقا لا أعرفه يمسك بيدي. كان يرتدي " تي شيرت أبيض " وشعره منكوش وعلي عينيه نظارة نظر... ليس طويلا ويمكنه أن يكون ابني... أخذني من يدي بسرعة إلي رصيف فندق الشيراتون حيث تكوم عدد ممن أصابهم الغاز مبكرا وظل يعطيني البصل الذي لم أكن أفهم أول الأمر ماذا أفعل به وبجانبي بعض المصابين من الغاز في حالة صعبة.. الولد المراهق من شدة حماسه وحبه لبلدنا جذب إيدي اليمين وقام بتقبيلها بسرعة وبفرح وهو بيقول: "النهارده حضرتك عملتي حاجة عظيمة قوي لمصر " !
‎رأيت رامي لكح يوم 28 يحاول التقاط أنفاسه أمام نهاية دار الأوبرا قبل كوبري قصر النيل بعدما أنزل الماسك مثلي.. مرهقا من الغاز مثلما شعرت وأنا أقع أمام دار الأوبرا من الغاز. لم أكن قادرة حتي علي القئ وسعالي بسبب الغاز وهو لا إرادي بالإضافة لما يحدث للعينين والأنف.. السعال أو الكحة المختنقة المستمرة تجعلك تستنشق المزيد من الغاز فلا هواء أبدا بل " مية نار".. هكذا تشعر بالغاز.. تخرج من جوفك لأعلي وليس من الخارج. كانت التاكسيات البيضاء التي يوقفها الناس لأخذ من يسقط جريحاً ترفض وتفر مستديرة في نفس الطريق الذي أتت منه وهو عكس اتجاه سيرها وكانت السيارات الملاكي التي تقف تأخذ من يمكن أخذه من الجرحي للمستشفيات وعلمنا أن الناس ما زالت ترفض برعب مستشفيات الحكومة فالفقراء لا أمل أمامهم لو جُرحوا بعدما حدث من خطف لهم من معهد ناصر وليست هذه أقاويل بل تأكدت حين نشرتها جريدة الشروق المصرية.
‎حين ساعدني شاب لم أره بينما كنت أسقط للغاز للمرة الثانية الأشد والأكثر عنفا يوم 28 يناير.. حين ساعدني للدخول إلي حرم دار الأوبرا حيث كان الأمن بداخله يقفزون داخل سيارتهم وأياديهم علي أنوفهم من الغاز.. لم يكن ممكنا أن " أفوت " بين حديد قضبان السور.. كان الشاب يدفع ويحاول رجرجة السور بيديه مع وجود قفل علي تلك البوابة.. لم يكن ممكنا القفز علي السور لأنه ينتهي بصورة أسياخ قد تدميك وتجرحك.. لم أكن أري أي شيء ولحظتها فعلا وفقط كانت لحظة عدم قدرتي علي التنفس ( ده يوم 28 يناير جمعة الغضب ).. كنت أقرب ما أكون للموت كما أحسست فلا شهيق ولا قدرة علي الزفير أو التخلص مما كان يتسرب داخل رئتي.. المهم أني رأيت والحمد لله كنت أحاول أن أفتح عيني المصابة بالتهاب من الغاز ولو بسرعة للرؤية أن في حديد السور توجد منطقة منثنية تسمح لو تحركت بشكل جانبي فقط أن أدخل منها لمنطقة دار الأوبرا كي أستريح من الغاز. فعلت وتمكنت من الدخول جانبيا.. دخلت إلي ما يبدو مثل " كوخ " لكنه مبني صغير ما زال في حالته الأسمنتية أو ربما بالطوب الأحمر فهناك مبانٍ كثيرة لم تكتمل.. وبلا باب علي منطقة تركيب الباب.... كان هناك شاب صغير يجلس علي كرسي. جلست أنا أيضا.. تبادل الكلام معي. عرفت أنه صبي حلاق وقال لصاحب المحل: " انا واخد بكره اجازة عشان نازل الميدان ".. ومعه مشيت حيث كان علينا الخروج بطريقة جانبية لجسمي علي الأقل من بوابة أخري لدرا الأوبرا قبل الالتحاق بالجماهير مرة أخري في نفس اليوم.
‎رأيت أيضاً الفنان عمرو واكد أكثر من مرة في الميدان وكانوا اعتقلوا شقيقه ثم أفرجوا عنه. وكان خالد النبوي برضه أمامي في مسيرة يوم 28 يناير قبل ما يبدأوا بتوع الوطني إياهم والمأجورين يتظاهروا أمام ذلك مسجد.
‎تمكنا فقط من بلوغ منتصف كوبري قصر النيل يوم الجمعة 28 يناير وكانوا يقومون بخداعنا واستدراجنا إلي كمائن لنظن أنهم يتراجعون فنتقدم ثم تطبق علينا العربات ويخرج من فوهات المدرعات الجنود المبرمجين بالمدافع ليضربوا بكل شئ.. الغازات المميتة التي لن أنسي رائحتها التي منعت التنفس أو حتي السعال ولم يمنع الماسك الطبي البسيط أو النظارة الشمسية أي شئ ولا كانت شرائح البصل التي هرول بها بعض المنقذين من الشباب إلي أنفي وأنا دائخة علي الأرض.. لاحقا آخر نهار يوم 28 يناير سنعرف ما لم نكن نعرفه قبل النزول من بيوتنا: الكوكاكولا للعيون والخل والبصل للأنف وكنت أحمل معي البصل فيما بعد وأمد المعلومة لغيري لأن هناك من كان يتصور أن الخل للعين !.
‎الغاز حتي عمق بطني ومعدتي كماء النار واستسلمت أخيرا في الكرة الثانية لنا من بعد كر وفر حتي وصلنا رغم الرصاص المطاطي والخرطوش الذي ثقب و( خرم ) أجساد ما يقرب من 11 شابا ورجلا عدا من سقط من الرجال الأكبر سناً ولم يفق أبدا وكان أولاده وأطفاله يرفضون بإصرار ورعب أن يتركه لإسعاف وزارة الصحة ولو أمامنا ( حدث هذا امام دار الأوبرا ) وكان المراهق الصغير يقفز لأعلي تشنجاً ورفضاً لأي مساعدة أو تدخل من المُسعِف رغم وجود عربة الإسعاف مفتوحة أمامنا ورغم سقوط ابيه أرضاً ربما بفعل الغاز الذي أهلكنا.. الرجل سقط دون أن يحرك ساكناً.. تماما كميت وأظنه مات فعلا وكان المُسعِف يقسم بالله أنه لن يؤذي المصاب / الميت بل سيعالجه في حضورنا.. وأنا كنت أقنع بعض من غطت وثقبت الخراطيش وجوههم خاصة من الطبقات الشعبية ألا يذهب للإسعاف وشاركني أصدقاؤه نفس النهي والحظر وتركوا زميلهم الشاب الشعبي الذي لم يستطع طبيب معنا مساعدته لأن الطبيب الشاب كان قد نزل كمتظاهر بلا أجهزة ولا سماعة حتي.. قام بتمديد الشاب علي رخامة أو مقعد حجري وقد صورته وكان كتلة مثقوبة لا يوجد سنتيمتر واحد سليم بها وتبين هذا أكثر بعد خلع قميصه وكان بلا فانلة.. ما زلت أندم لأني وقت نصحته أن يذهب لبيته لم أكن أعرف أن الخرطوش خاصة في أماكن معينة لو لم يتم استخراجه فالنتيجة تكون الموت.. أرتعد من إحساسي بالذنب لو كان ذلك الشاب قد مات.. كانت حالته شديدة السوء واصحابه يقولون له " ياللا يا سبع "..رأيت الجروح وصورت بعض الإصابات وغيره من الجرحي كان الشباب يحملهم ويجري بهم كالمشاهد التي تذكرني بحرب غزة. ما زالوا يمنعون العلاج والأدوية ( أصدقاء لأخي من خريجي الجامعة الأمريكية حاولوا التحايل في إدخال الأدوية للجرحي المعتصمين وتمت مصادرتها من المخبرين بينما حين نجح أحد اصحاب أخي في ابتكار حيلة جديدة لإدخال الأدوية أراد أن يحكيها لنا في إيميل أو موبايل فرفضت ليقيننا بأن كل شيء وقتها مراقب.. خفت أن تؤدي معرفة الطريقة إلي إيقاف إدخال المساعدات ) خاصة بعد فترة من قطع الإنترنت وهو ما كتبت عنه لصديقة أجنبية بوذية لم تكن صحفية ولصديق قديم غير عربي وقتها. وقت قطع الإنترنت لم يكن يمكننا شيء عبر أجهزة التكنولوجيا لكن حتي حين عادت الاتصالات لم يكن ممكنا لفترة سوي تلقي الرسائل وليس إرسالها.
‎كنا علمنا أنهم يداهمون عربات الإسعاف ويخطفوننا كما كان يحدث في غزة حيث اعتبر العالم ذلك جرائم ضد الإنسانية رغم كونها من جيش احتلال ضد مدنيين عزل من أعدائه.. الآن المصريون هم " أعداء " النظام القائم علي السفاحين والبلطجية الذين يحصدون أرواحنا ويطعنون في شرف ووطنية الأطهار في ميدان التحرير من خيرة الشباب الذين لديهم الخدم والحشم والطباخين في بيوتهم ورغم هذا كانوا يقومون بجمع القمامة وزجاجات الماء الفارغة ويضعونها في أكياس القمامة.. يصلي المسلمون وحولهم المسيحيون يحرسونهم ويعملون " كردونا " حولهم ولو لمسني بالخطأ أي رجل في الزحام المشابه لمكان الطواف حول الكعبة يرفع يده فورا ويعتذر بشدة وصدق وينادون البنات أن يقفن جانبا مع بعضهن البعض.. التلاحم والصبر والرقي والطيبة والإصرار وتوزيع ما يمكن من تمر أو بسكوت أو خبز أو ماء يملكه أي واحد علي أكبر عدد حتي أني كنت أقضي اليوم بأكمله بلا ماء ومن حولي ريقهم " ناشف" وأفواههم ملتصقة من شدة العطش والهتاف وحلقي يحترق بعد فقدان صوتي هتافاً وغضباً فتمنحني سيدة شديدة الغضب وأكبر مني سناً آخر ربع نقطة ماء لديها.. مجرد ربع نقطة أجهد في توصيلها لحلقي ، وإخوة وأصدقاء لشهداء دفنوهم سريعا وعادوا " للميدان ".. ضربونا بالعصي أمام عيني بينما يحاول شاب من طبقة راقية جدا مساعدة صديقة أو أخت له من نفس الطبقة بعدما سقطت أرضا أثناء ركضهم خلفنا.. الرصاص المطاطي اختلط مع الرصاص الحي منذ يوم 28 ذاك وربما قبله. كنت أسمع أصوات طلقات الرصاص الحي يأتي من جهة وزارة الداخلية يوم السبت 29 يناير وأنا في التحرير. الآن نسمع علي قناة " فرانس 24 " والبي بي سي العربية كيف يلقون بقطع أثاث ضخمة مع الحجارة من فوق الأبنية المحيطة بالميدان والتي كانت قد تدلت منها اللافتات التي كتبها خطاطون تدعو لإزالة النظام والتخلص من الفساد وإرثه .. سمعنا عن ذبح صحفية فرنسية في الميدان رغم سلمية المتظاهرين أمام كل العالم.. شاركت ثلاثة أيام كما قلت لك.. الجمعة والسبت والثلاثاء المليونية وسأشارك مرات أخري طالما في الجسد قلب ينبض ولدي صور شتي ولكن لأنني كنت أجري مع من يجري كان من الصعب أحيانا كثيرة أن ألتقط الصور المهمة فعلاً وطبعاً أنت شاهدت كيف يدهسون المتظاهرين بعربات الأمن المركزي.. عدنا يوم الجمعة 28 يناير بعدما فشلنا في الوصول للتحرير رغم أننا كنا وصلنا إلي منتصف جسر قصر النيل في العصر والشباب يمسك بما يستطيع من قنابل الغاز التي يرمونها علينا ليلقي بها إليهم مرة ثانية أو في النيل لكن حولي كان بعض الشباب يجري وراء أي شاب من بيننا يحاول تكسير أية حجارة من الرصيف أو من أصص الزرع الصغيرة في الدوران الصغير قبل بداية كوبري الجلاء بالقرب من شيراتون ليمنعوهم من إلقائها علي جنود الأمن المركزي حتي لا يقذفونا بها مرة تانية ، لأن الجنود كانوا يفعلون هذا فعلاً.. لما عدنا من محاولة الذهاب للتحرير كانوا واقفين لا يفعلون شيئا. بدأنا نكلمهم بكل اصواتنا المبحوحة ونصرخ تارة ونحاول التزام الهدوء والعثور علي أصواتنا المجروحة المخنوقة بالغاز تارة. بدا الضابط الذي من عمر المتظاهرين حولي مستسلما مقتنعا وبدوا ساكتين في عصر يوم 28 بعدما فتحوا علينا المياه ورصاص الخراطيش والمطاطي .. ربما كانت وصلتهم أنباء عن قرب نزول الجيش لأن هذه كانت الأخبار التي عرفناها مساء ذلك اليوم ، أي 28.. أن التحرير تم فتحه والسويس انتصرت وفي الإسكندرية كتيبة من الأمن المركزي رفضت ضرب المتظاهرين وانضمت إليهم. كان الجنود يقولون لي " حاتحاكم لو ما نفذتش" وأرد عليهم: أنت قد الذنب ده؟؟ !! وأنا عندي 50 سنة وأبويا دكتور يعني شبعانه ونازلة أدافع عن حقك ، ومعايا ناس بيساعدوني ما اعرفهمش صبيان حلاقين وناس شكلهم بيشموا ولسانهم تقيل وبيقولوا أنهم بيشموا ومعانا ولاد وبنات الجامعة الأمريكية ومراسلين أجانب كانوا بيتخنقوا من الغاز. وسألت الجنود: " أنتو بتاكلوا إيه وبتناموا إمتي وبتتعاملوا إزاي؟؟؟ كفاية جوع وفقر وذل بأه ". وأيضا كنت أقول لهم ردا علي المقولة المعتادة " ما ليش ذنب أنا عبد المأمور ".. كنت أقول: " أنت وأنا والمأمور عباد اللي خلقنا بس ومفيش إله غيره.. يعني أنت أسهل عليك تقتلني أنا البريئة بدل كام سنة سجن ليك؟ ربنا عنده محكمة ما فيهاش استئناف مش حتقدر تقوله أنا عبد المأمور ". نسيت أقول لك أني رأيت سيارة ظن البعض أول الأمر أن سائقها هو الضابط الذي أعطي الأمر بإلقاء قنابل الغاز علينا. السيارة ملاكي وليست شرطة مثلاً. كانت من النوع الذي يسمي 4 * 4 لاندروفر وعدا ذلك لم أتبين ماركتها لكن تدفق بعض الناس عليها وبينهم سيدة شعبية أمام الشيراتون بعد ما غرقونا بالغازات ، أتاح لي ولبعض الشباب تبين وجه الرجل. كان رجل الأعمال المعروف محمد أبو العينين. كان مرعوبا يبتسم بتشنج وخوف يريد العبور والأمن المركزي لا ينظر ناحيته والجنود علي يمينه مباشرة. ابتسم أبو العينين للمجموعة القليلة العدد من المتظاهرين ( عصر يوم 28 يناير ) كأنه يستعطفهم وكنا نقول للمتظاهرين ابعدوا عنه لكي يطمئن ، لكنه سرعان ما استدار عائدا من نفس الطريق وعكس اتجاه السير ليلوذ بحياته كما تصور هو.
‎آخر يوم 28 يناير شاهدت حمدين صباحي بالبالطو يجلس علي رصيف في آخر شارع التحرير بمنطقتنا الدقي.. كنت واقفة ومددت يدي بفرح بعد أن كنت بكيت كثيرا وأنا أشكر الله أن جعلني أعيش حتي أشهد هذا اليوم. حمدين أمسك بيدي وهو جالس بين يديه الإثنتين وقبلها بسرعة بضحكة منتعشة في عينيه.. كان كل الناس الغرباء عن بعضهم البعض وهو ما لاحظته في التحرير قبل التنحي وبعده مباشرة يتبادلون ضحكة العيون التي تم نسيانها وإماتتها من زمان. كان هناك شعب آخر كأنما ولد علي أرض مصر بين يوم وليلة. يضحكون من قلوبهم وعيونهم الرجال والنساء عيونهم تضحك بحب دون أن يعرفوا أسماء بعضهم البعض وبدون أن يسعوا حتي لمعرفة تلك الأسماء. كنا نعيش فرحاً حرمنا منه طوووووووويلاً.
‎أما صورة الطاغية اللي قلت عنه للأجانب.. صحفيين وسياح يومها أنه مومياء تحكم في 80 مليون حي صحوا واستيقظوا لكرامتهم.. صورته التي كانت بارتفاع 15 دور هي مبني جريدتي , جريدة الجمهورية , تمت إزالتها خضوعاً لغضب جماهير لأكثر من 30 عاما في الحقيقة وتم رشق زجاج باب المؤسسة التي مارس رؤساء التحرير المتعاقبين عليها عهر النطق بلسان الباطل. أقول لك سيسقط- لا- بل " سيصعد " شهداء كثر وأكثر مازالوا لكن والله الذي لا إله إلا هو.. سينصر الله اسمه.. والله اسمه الحق واسمه المنتقم. ستدور الدوائر. الناس يدعون أمامي في الميدان بعد كل صلاة هناك عليه ويقولون " حسبي الله ونعم الوكيل ". كنا نهتف "سلمية.. سلمية " وكتبها الشباب معي علي مدرعة الأمن المركزي أمام الشيراتون يوم 28 يناير. بينما المجرمون في هذه القوات كالأسود والنمور حين يتمكنون من فريسة أو غزالة.. تماما هم هكذا حين يطالون متظاهراً لم يسعفه الحظ بالإفلات منهم. كما قلت يبدو أن الأوامر اختلفت للجنود ووحدات الأمن المركزي عصر الجمعة 28 يناير عن أول ذلك النهار. الذين كانوا يضربوننا ونحن في الطريق إلي ميدان التحرير يومها وكدنا نسقط وندهس بعضنا البعض توقفوا عن ذلك حين عدنا من الكر والفر من كوبري قصر النيل. لكن وأنا علي الكوبري وأجري مع الجموع ببطء برضه كنت حاسقط علي الأرض اكتر من مرة وانخلع حذائي وأنا أستغيث حتي لا ندهس بعضنا وصوتي خافت من تحت الماسك.. سمعت فتاة بجانبي تسب " يا ولاد الكلب" وتجري. كانت من طبقة راقية وبدت كأنها أول مرة تنطق تلك الكلمات. امتدت يد لم أرصاحبها لتمسك بمعصمي بينما حذائي يخرج من قدمي. ظل ممسكا بيدي ليضمن أن لا أسقط حتي وصلنا لأول الكوبري مرة أخري يعني عند نهاية دار الأوبرا. الجرحي بنحاول نفتح لهم الكافيتيريا أو الكوفي شوب الذي هناك علي النيل وصاحب الكوفي شوب يرفض فتحه والجنود يهرولون خلفنا. الرواد بداخله أصروا علي أن يفتح وهو يقاوم ومن معه دخول أي أحد ولكن بالنهاية أدخل شاباً ينزف من أذنه ووجهه وساقه بفعل رصاص الخراطيش والمطاط. نريد إدخال المزيد وتأتي فتاة داخل الكوفي شوب ب" شاش" من حقيبتها ونسوة عجائز بالكافيتيريا يتفرجن علي ما يبدو لهن فيلم رعب لم يتوقع أحد مشاهدته. تستخرج واحدة " الكلينكس" من حقيبتها والشاب النازف يخرج ورقة فئة مائتي جنيه ليأتي له صاحب الكافيتيريا بزجاجة ماء. صاحب الكافيتيريا يرفض دخول أي جرحي آخرين ويستعين برجاله " الأشداء" جسمانياً مثله ليمنعونا ويبقي الباب محكما بالقفل بعد إخراج الشاب الذي ينزف. لم أر وجه الشاب الذي أنقذني من السقوط حين أمسك معصمي لكن بمجرد وصولنا للمنطقة أمام الكافيتيريا كانت فتاة من طبقة راقية جدا ً قد سقطت أرضاً. لحظتها لمتها وأنا أعلم أن هذا غصب عنها لأن عدم تعودها علي الجري وسط هكذا ظروف ، وكلنا طبعا مثلها ، تسبب في انهيال المجرمين من الأمن بالضرب علي شاب أرجح أنه كان الذي ساعدني ولم أر وجهه لكن بدا كل منهما ، هي والشاب آية في الجمال والملاحة والرقي.. وحين حاول أن يساعدها لتنهض انهالوا عليه بالهراوات أمام عيني وكان بيني وبينه خطوتين للوراء لا أكثر والعسكر يرفعون الهراوات وأنا أردت الرجوع إليه بلحظة تردد.. ربما هو فعلاً من ساعدني ، لكن خوفي جعلني أركض للأمام مع من كان يفر ،حيث سنجلس كلنا علي رصيف الشارع أمام متحف محمود مختار ثم نركض كلما رجعوا إلينا.
‎حين استولي الشعب علي عربتين أو مدرعتين للأمن المركزي أمام الشيراتون ومدخل كوبري الجلاء الصغير المجاور صعد الناس أعلي المدرعتين وهم يحملون علم مصر يلوحون به وبأنفاسهم الحرة لأيام جديدة كانوا واثقين كل الثقة واليقين أنها آتية.
‎في التحرير بعدما وصلنا وأصبح الميدان مفتوحاً فيما بعد رأيت شاباً يحمل لافتة كتب عليها " مبارك يتحدي الملل". كان الفنانون في خيمة.. مجرد مشمع بلاستيك من أكياس القمامة السوداء في الحقيقة.. كانوا يقدمون إلينا التمر الجاف أو بعض الساندويشات من الخبز البلدي بالجبنة البيضاء لمن يشعر بالجوع ويقولون " كنتاكي.. كنتاكي " سخرية من ادعاء الحزب الوطني أن المتظاهرين مدفوع لهم من جهات أجنبية ويأخذون مقابلاً من وجبات المطعم الشهير للتظاهر ضد الحكم. الطريف أن هذا الاتهام للشعب جاء بعدما اكتشف ثوار التحرير ما صرح به بعض أصدقاء أخي الذين تمكنوا من بعض المندسين علي ظهور الجمال والخيول في الموقعة الدموية الشرسة. قال إخوة محمد بدر صديق أخي والذين قابلت أحدهم مع الأب أن من أمسكوا بهم لم يكونوا كلهم بلطجية أو شرطة كما أظهرت البطاقات بل بحسب عائلة بدر- كان بعضهم عمال في شركات تم صرف 40 جنيه لهم ووجبة وأعطوهم اسلحة بيضاء وياللا انزلوا اهتفوا لمبارك. والله ليموت المجرم. سيموت المجرمون ، والله سوف يُهزم وُيهزمون.. والله سوف نحاكمهم ونقتص منهم والله غالب علي أمره وإنا لمنتصرون.
‎غادة
‎ 2 فبراير 2011
‎ الأمل و الألم
‎معتز
‎هل يجب أن أعتب عليك أم أقلق فقط؟
‎من الصعب أن أحس بأي شئ سوي الغضب الجارف والغيظ الذي سيفجرني من بوادر الحرب الأهلية التي بدأها الخائن الذي استحل دماء المصريين وطبعا أنا شاركت في الجمعة الأولي ( 28 يناير ) حيث تم ضربنا بكل شئ وسقطت بتأثير الغاز أكثر من مرة وكنت قد تلوت الشهادتين قبل خروجي يومها من بيتنا بدون معرفة جواد الذي كان يسأل ماما وتكذب هي عليه بطلب مني لطمأنته. تركت بعض أرقام التليفونات لأمي فقالت لي " إيه يعني بتودعيني؟".
‎لم أقم بالصلاة في مسجد مصطفي محمود يومها وإنما ظللت أدعو ربي قبل المسيرة أن يغفر لي ذنوبي وكنت قبلها بيوم علي سلم نقابتنا مع المحتجين الزملاء ولأول مرة نري مواطنين شعبيين ذلك اليوم- علي سلم النقابة ينضمون إلينا رغم الكردون الأمني البشع وكنا نصرخ " سيبه.. سيبه " أو " حرية.. حرية.. حرية " ليترك الأمن أحدنا أو إحدانا بعدما أمسك به أو بها , أو ليترك من تريد من المواطنات أن تدخل. قلة قليلة تم السماح لها بالدخول. كان ضابط أمن الدولة " يقزقز" اللب ضاحكا و" يعزم" علي زميله ويضحكان وهما ينظران إلينا كإننا حيوانات في أقفاص بحديقة حيوانات أو في فقرة بالسيرك.. والحناجر تشتم مبارك وعز أكتر منه.. و" الحزب الواطي.. اللاديمقراطي ". اندست واحدة بيننا كنت سبق ورأيتها حين كنا نتضامن مع الزملاء المعتصمين بالنقابة من " الدستور" الأصلية وكانت يومها تدعي حين سألناها ، أنها من جريدة " 24 ساعة " (بتاعة المدعو سمير رجب الذي كان لا يكتب إلا ليسجد لحسني مبارك وخلق مثل مبارك كتائب من المنافقين الحرامية داخل المؤسسة.. وهوالذي كما تعلم قام برفتي أو رفدي فور حصولي علي الماجستير بإمتياز من إنجلترا وكان ينكل بكل شريف كما منعني من الكتابة بالاسم وهو ما كان رئيسي في صفحة الأدب قد بلغني به في وقت من الأوقات ). تلك البنت الغير مريحة ذات الوجه الجبسي كانت تحاول الالتصاق بي وأنا أتحدث إلي غيرها فقط لتسمع ما أقول ولا تكف عن الإستجواب وأهم حاجة عندها الأسماء ولاحظت أن محمد عبد القدوس الذي كان سبق وأعطاني رقم موبايله من قبل وأدرت ندوات لحرية الرأي معه بالنقابة يتململ في تأكيد رقم موبايله لي أمامها حينما طلبت ذلك بينما هي لا تريد الإجابة علي أي شئ وحتي اسمها حين سألتها بلطف ذات مرة أصيبت بحالة عصبية وقالت اسما سريعا جدا وتركتني حتي أني نسيت الاسم.
‎كانت تلك المدسوسة قبل الثورة قد ظهرت فجأة علي سلم النقابة بيننا ولم يتحقق أحد من إدعائها أنها في جريدة 24 ساعة لكن كانت تتعمد نشر وإشاعة أشياء محبطة تهدم بها عزيمتنا مثل القول أن من يعبر النقابة من الناس أثناء هتافنا يعتقد أننا نهتف لجمال مبارك ثم يمشي. تقول هذا وتضحك وتمضي. كان هذا يوم التضامن مع أسرة جريدة الدستور بعد الإطاحة بأغلب الشرفاء فيها وبرئيس تحريرها إبراهيم عيسي. لم تفتح فمها بكلمة أو تهتف أبدا بل تدون أشياء. ويوم الخميس 27 يناير كانت البنات يغطين وجوههن منها لما بدأت تقوم بتصويرهن والسلم شبه " فاضي" قبل مجئ الناس وانضمام المزيد من الزملاء أيضاً.. كما اظهرت أنا بالكلام المباشر بصوت مسموع لتلك المدسوسة أننا نعرف الجواسيس المدسوسين بيننا بتوع الوطني وحذرتُ الزميلة الجميلة الناشطة نور الهدي زكي منها أيضا ً ولأن الفتاة تلك كانت جاسوسة فعلاً كانت تفر من كل مكان أكون فيه أو تبتعد عني وهي تسمعني أتكلم بصوت عالي عنها للآخرين علي السلم وحتي داخل النقابة.. تبتعد ولا تتصدي أو تواجه لأن المثل يقول بوضوح " يكاد المريب يقول خذوني " . لم أستغرب. لكنها حاولت تدفع إلينا ببعض الشباب من الزملاء ليسألونا متي ننوي أن تكون مظاهرات "الجمعة" ( الذي كان 28 يناير) ولم يكن هؤلاء انتبهوا لها ولا قلنا لهم تحذيرا. تسأل عن طريق واحد طيب لا أعرف اسمه: من أي مسجد؟. قلنا " كل المساجد ".
‎يوم 28 كنا وقفنا كلنا قبل " صينية " ( دائرة ) المنطقة المقابلة لقسم شرطة الدقي وفندق شيراتون القاهرة.. الجموع هادرة والشعور تجاه الشرطة عدائي جدا حتي أن ضابطا وهو يقوم بحركة ودية مهذبة بالسماح لي بالتحرك ونحن أمام الساحة الأمامية لمسجد مصطفي محمود.. نظرت إليه وأنا أرفض وبتكشيرة وغضب هائل بداخلي.. أقصد ده وقت تحرك جموعنا بعد انتهاء صلاة الجمعة في المسجد اللي كانت أول مرة أسمع فيها خطبة لها معني. كانت عن العدل.
‎في الدائرة أمام قسم شرطة الدقي وقف الطرفان.. الشعب والشرطة. المدججون بالسلاح والعزل. المواجهة التاريخية الأزلية تتكرر. أتذكر أني يومها بلا إدعاء لبطولة قد تكون زائفة.. تقدمت وحدي تماما إلي منطقة الدائرة تلك يعني خرجت من حيز المجاميع ربما لأني شعرت أن وقفتنا أو حالة الشلل والتربص المتبادل دي حتطول.. كنت أرتدي نظارتي الشمسية لكن هيهات؟ بدأ إلقاء قنابل غاز عند قدمي. لم استطع الحركة وأنا أتعرض لما لا أعرفه للمرة الأولي في حياتي.. المجاميع كانت لسه واقفة في الخلف تبعد عني بمسافة. فجأة وجدت شاباً مراهقا لا أعرفه يمسك بيدي. كان يرتدي " تي شيرت أبيض " وشعره منكوش وعلي عينيه نظارة نظر... ليس طويلا ويمكنه أن يكون ابني... أخذني من يدي بسرعة إلي رصيف فندق الشيراتون حيث تكوم عدد ممن أصابهم الغاز مبكرا وظل يعطيني البصل الذي لم أكن أفهم أول الأمر ماذا أفعل به وبجانبي بعض المصابين من الغاز في حالة صعبة.. الولد المراهق من شدة حماسه وحبه لبلدنا جذب إيدي اليمين وقام بتقبيلها بسرعة وبفرح وهو بيقول: "النهارده حضرتك عملتي حاجة عظيمة قوي لمصر " !
‎رأيت رامي لكح يوم 28 يحاول التقاط أنفاسه أمام نهاية دار الأوبرا قبل كوبري قصر النيل بعدما أنزل الماسك مثلي.. مرهقا من الغاز مثلما شعرت وأنا أقع أمام دار الأوبرا من الغاز. لم أكن قادرة حتي علي القئ وسعالي بسبب الغاز وهو لا إرادي بالإضافة لما يحدث للعينين والأنف.. السعال أو الكحة المختنقة المستمرة تجعلك تستنشق المزيد من الغاز فلا هواء أبدا بل " مية نار".. هكذا تشعر بالغاز.. تخرج من جوفك لأعلي وليس من الخارج. كانت التاكسيات البيضاء التي يوقفها الناس لأخذ من يسقط جريحاً ترفض وتفر مستديرة في نفس الطريق الذي أتت منه وهو عكس اتجاه سيرها وكانت السيارات الملاكي التي تقف تأخذ من يمكن أخذه من الجرحي للمستشفيات وعلمنا أن الناس ما زالت ترفض برعب مستشفيات الحكومة فالفقراء لا أمل أمامهم لو جُرحوا بعدما حدث من خطف لهم من معهد ناصر وليست هذه أقاويل بل تأكدت حين نشرتها جريدة الشروق المصرية.
‎حين ساعدني شاب لم أره بينما كنت أسقط للغاز للمرة الثانية الأشد والأكثر عنفا يوم 28 يناير.. حين ساعدني للدخول إلي حرم دار الأوبرا حيث كان الأمن بداخله يقفزون داخل سيارتهم وأياديهم علي أنوفهم من الغاز.. لم يكن ممكنا أن " أفوت " بين حديد قضبان السور.. كان الشاب يدفع ويحاول رجرجة السور بيديه مع وجود قفل علي تلك البوابة.. لم يكن ممكنا القفز علي السور لأنه ينتهي بصورة أسياخ قد تدميك وتجرحك.. لم أكن أري أي شيء ولحظتها فعلا وفقط كانت لحظة عدم قدرتي علي التنفس ( ده يوم 28 يناير جمعة الغضب ).. كنت أقرب ما أكون للموت كما أحسست فلا شهيق ولا قدرة علي الزفير أو التخلص مما كان يتسرب داخل رئتي.. المهم أني رأيت والحمد لله كنت أحاول أن أفتح عيني المصابة بالتهاب من الغاز ولو بسرعة للرؤية أن في حديد السور توجد منطقة منثنية تسمح لو تحركت بشكل جانبي فقط أن أدخل منها لمنطقة دار الأوبرا كي أستريح من الغاز. فعلت وتمكنت من الدخول جانبيا.. دخلت إلي ما يبدو مثل " كوخ " لكنه مبني صغير ما زال في حالته الأسمنتية أو ربما بالطوب الأحمر فهناك مبانٍ كثيرة لم تكتمل.. وبلا باب علي منطقة تركيب الباب.... كان هناك شاب صغير يجلس علي كرسي. جلست أنا أيضا.. تبادل الكلام معي. عرفت أنه صبي حلاق وقال لصاحب المحل: " انا واخد بكره اجازة عشان نازل الميدان ".. ومعه مشيت حيث كان علينا الخروج بطريقة جانبية لجسمي علي الأقل من بوابة أخري لدرا الأوبرا قبل الالتحاق بالجماهير مرة أخري في نفس اليوم.
‎رأيت أيضاً الفنان عمرو واكد أكثر من مرة في الميدان وكانوا اعتقلوا شقيقه ثم أفرجوا عنه. وكان خالد النبوي برضه أمامي في مسيرة يوم 28 يناير قبل ما يبدأوا بتوع الوطني إياهم والمأجورين يتظاهروا أمام ذلك مسجد.
‎تمكنا فقط من بلوغ منتصف كوبري قصر النيل يوم الجمعة 28 يناير وكانوا يقومون بخداعنا واستدراجنا إلي كمائن لنظن أنهم يتراجعون فنتقدم ثم تطبق علينا العربات ويخرج من فوهات المدرعات الجنود المبرمجين بالمدافع ليضربوا بكل شئ.. الغازات المميتة التي لن أنسي رائحتها التي منعت التنفس أو حتي السعال ولم يمنع الماسك الطبي البسيط أو النظارة الشمسية أي شئ ولا كانت شرائح البصل التي هرول بها بعض المنقذين من الشباب إلي أنفي وأنا دائخة علي الأرض.. لاحقا آخر نهار يوم 28 يناير سنعرف ما لم نكن نعرفه قبل النزول من بيوتنا: الكوكاكولا للعيون والخل والبصل للأنف وكنت أحمل معي البصل فيما بعد وأمد المعلومة لغيري لأن هناك من كان يتصور أن الخل للعين !.
‎الغاز حتي عمق بطني ومعدتي كماء النار واستسلمت أخيرا في الكرة الثانية لنا من بعد كر وفر حتي وصلنا رغم الرصاص المطاطي والخرطوش الذي ثقب و( خرم ) أجساد ما يقرب من 11 شابا ورجلا عدا من سقط من الرجال الأكبر سناً ولم يفق أبدا وكان أولاده وأطفاله يرفضون بإصرار ورعب أن يتركه لإسعاف وزارة الصحة ولو أمامنا ( حدث هذا امام دار الأوبرا ) وكان المراهق الصغير يقفز لأعلي تشنجاً ورفضاً لأي مساعدة أو تدخل من المُسعِف رغم وجود عربة الإسعاف مفتوحة أمامنا ورغم سقوط ابيه أرضاً ربما بفعل الغاز الذي أهلكنا.. الرجل سقط دون أن يحرك ساكناً.. تماما كميت وأظنه مات فعلا وكان المُسعِف يقسم بالله أنه لن يؤذي المصاب / الميت بل سيعالجه في حضورنا.. وأنا كنت أقنع بعض من غطت وثقبت الخراطيش وجوههم خاصة من الطبقات الشعبية ألا يذهب للإسعاف وشاركني أصدقاؤه نفس النهي والحظر وتركوا زميلهم الشاب الشعبي الذي لم يستطع طبيب معنا مساعدته لأن الطبيب الشاب كان قد نزل كمتظاهر بلا أجهزة ولا سماعة حتي.. قام بتمديد الشاب علي رخامة أو مقعد حجري وقد صورته وكان كتلة مثقوبة لا يوجد سنتيمتر واحد سليم بها وتبين هذا أكثر بعد خلع قميصه وكان بلا فانلة.. ما زلت أندم لأني وقت نصحته أن يذهب لبيته لم أكن أعرف أن الخرطوش خاصة في أماكن معينة لو لم يتم استخراجه فالنتيجة تكون الموت.. أرتعد من إحساسي بالذنب لو كان ذلك الشاب قد مات.. كانت حالته شديدة السوء واصحابه يقولون له " ياللا يا سبع "..رأيت الجروح وصورت بعض الإصابات وغيره من الجرحي كان الشباب يحملهم ويجري بهم كالمشاهد التي تذكرني بحرب غزة. ما زالوا يمنعون العلاج والأدوية ( أصدقاء لأخي من خريجي الجامعة الأمريكية حاولوا التحايل في إدخال الأدوية للجرحي المعتصمين وتمت مصادرتها من المخبرين بينما حين نجح أحد اصحاب أخي في ابتكار حيلة جديدة لإدخال الأدوية أراد أن يحكيها لنا في إيميل أو موبايل فرفضت ليقيننا بأن كل شيء وقتها مراقب.. خفت أن تؤدي معرفة الطريقة إلي إيقاف إدخال المساعدات ) خاصة بعد فترة من قطع الإنترنت وهو ما كتبت عنه لصديقة أجنبية بوذية لم تكن صحفية ولصديق قديم غير عربي وقتها. وقت قطع الإنترنت لم يكن يمكننا شيء عبر أجهزة التكنولوجيا لكن حتي حين عادت الاتصالات لم يكن ممكنا لفترة سوي تلقي الرسائل وليس إرسالها.
‎كنا علمنا أنهم يداهمون عربات الإسعاف ويخطفوننا كما كان يحدث في غزة حيث اعتبر العالم ذلك جرائم ضد الإنسانية رغم كونها من جيش احتلال ضد مدنيين عزل من أعدائه.. الآن المصريون هم " أعداء " النظام القائم علي السفاحين والبلطجية الذين يحصدون أرواحنا ويطعنون في شرف ووطنية الأطهار في ميدان التحرير من خيرة الشباب الذين لديهم الخدم والحشم والطباخين في بيوتهم ورغم هذا كانوا يقومون بجمع القمامة وزجاجات الماء الفارغة ويضعونها في أكياس القمامة.. يصلي المسلمون وحولهم المسيحيون يحرسونهم ويعملون " كردونا " حولهم ولو لمسني بالخطأ أي رجل في الزحام المشابه لمكان الطواف حول الكعبة يرفع يده فورا ويعتذر بشدة وصدق وينادون البنات أن يقفن جانبا مع بعضهن البعض.. التلاحم والصبر والرقي والطيبة والإصرار وتوزيع ما يمكن من تمر أو بسكوت أو خبز أو ماء يملكه أي واحد علي أكبر عدد حتي أني كنت أقضي اليوم بأكمله بلا ماء ومن حولي ريقهم " ناشف" وأفواههم ملتصقة من شدة العطش والهتاف وحلقي يحترق بعد فقدان صوتي هتافاً وغضباً فتمنحني سيدة شديدة الغضب وأكبر مني سناً آخر ربع نقطة ماء لديها.. مجرد ربع نقطة أجهد في توصيلها لحلقي ، وإخوة وأصدقاء لشهداء دفنوهم سريعا وعادوا " للميدان ".. ضربونا بالعصي أمام عيني بينما يحاول شاب من طبقة راقية جدا مساعدة صديقة أو أخت له من نفس الطبقة بعدما سقطت أرضا أثناء ركضهم خلفنا.. الرصاص المطاطي اختلط مع الرصاص الحي منذ يوم 28 ذاك وربما قبله. كنت أسمع أصوات طلقات الرصاص الحي يأتي من جهة وزارة الداخلية يوم السبت 29 يناير وأنا في التحرير. الآن نسمع علي قناة " فرانس 24 " والبي بي سي العربية كيف يلقون بقطع أثاث ضخمة مع الحجارة من فوق الأبنية المحيطة بالميدان والتي كانت قد تدلت منها اللافتات التي كتبها خطاطون تدعو لإزالة النظام والتخلص من الفساد وإرثه .. سمعنا عن ذبح صحفية فرنسية في الميدان رغم سلمية المتظاهرين أمام كل العالم.. شاركت ثلاثة أيام كما قلت لك.. الجمعة والسبت والثلاثاء المليونية وسأشارك مرات أخري طالما في الجسد قلب ينبض ولدي صور شتي ولكن لأنني كنت أجري مع من يجري كان من الصعب أحيانا كثيرة أن ألتقط الصور المهمة فعلاً وطبعاً أنت شاهدت كيف يدهسون المتظاهرين بعربات الأمن المركزي.. عدنا يوم الجمعة 28 يناير بعدما فشلنا في الوصول للتحرير رغم أننا كنا وصلنا إلي منتصف جسر قصر النيل في العصر والشباب يمسك بما يستطيع من قنابل الغاز التي يرمونها علينا ليلقي بها إليهم مرة ثانية أو في النيل لكن حولي كان بعض الشباب يجري وراء أي شاب من بيننا يحاول تكسير أية حجارة من الرصيف أو من أصص الزرع الصغيرة في الدوران الصغير قبل بداية كوبري الجلاء بالقرب من شيراتون ليمنعوهم من إلقائها علي جنود الأمن المركزي حتي لا يقذفونا بها مرة تانية ، لأن الجنود كانوا يفعلون هذا فعلاً.. لما عدنا من محاولة الذهاب للتحرير كانوا واقفين لا يفعلون شيئا. بدأنا نكلمهم بكل اصواتنا المبحوحة ونصرخ تارة ونحاول التزام الهدوء والعثور علي أصواتنا المجروحة المخنوقة بالغاز تارة. بدا الضابط الذي من عمر المتظاهرين حولي مستسلما مقتنعا وبدوا ساكتين في عصر يوم 28 بعدما فتحوا علينا المياه ورصاص الخراطيش والمطاطي .. ربما كانت وصلتهم أنباء عن قرب نزول الجيش لأن هذه كانت الأخبار التي عرفناها مساء ذلك اليوم ، أي 28.. أن التحرير تم فتحه والسويس انتصرت وفي الإسكندرية كتيبة من الأمن المركزي رفضت ضرب المتظاهرين وانضمت إليهم. كان الجنود يقولون لي " حاتحاكم لو ما نفذتش" وأرد عليهم: أنت قد الذنب ده؟؟ !! وأنا عندي 50 سنة وأبويا دكتور يعني شبعانه ونازلة أدافع عن حقك ، ومعايا ناس بيساعدوني ما اعرفهمش صبيان حلاقين وناس شكلهم بيشموا ولسانهم تقيل وبيقولوا أنهم بيشموا ومعانا ولاد وبنات الجامعة الأمريكية ومراسلين أجانب كانوا بيتخنقوا من الغاز. وسألت الجنود: " أنتو بتاكلوا إيه وبتناموا إمتي وبتتعاملوا إزاي؟؟؟ كفاية جوع وفقر وذل بأه ". وأيضا كنت أقول لهم ردا علي المقولة المعتادة " ما ليش ذنب أنا عبد المأمور ".. كنت أقول: " أنت وأنا والمأمور عباد اللي خلقنا بس ومفيش إله غيره.. يعني أنت أسهل عليك تقتلني أنا البريئة بدل كام سنة سجن ليك؟ ربنا عنده محكمة ما فيهاش استئناف مش حتقدر تقوله أنا عبد المأمور ". نسيت أقول لك أني رأيت سيارة ظن البعض أول الأمر أن سائقها هو الضابط الذي أعطي الأمر بإلقاء قنابل الغاز علينا. السيارة ملاكي وليست شرطة مثلاً. كانت من النوع الذي يسمي 4 * 4 لاندروفر وعدا ذلك لم أتبين ماركتها لكن تدفق بعض الناس عليها وبينهم سيدة شعبية أمام الشيراتون بعد ما غرقونا بالغازات ، أتاح لي ولبعض الشباب تبين وجه الرجل. كان رجل الأعمال المعروف محمد أبو العينين. كان مرعوبا يبتسم بتشنج وخوف يريد العبور والأمن المركزي لا ينظر ناحيته والجنود علي يمينه مباشرة. ابتسم أبو العينين للمجموعة القليلة العدد من المتظاهرين ( عصر يوم 28 يناير ) كأنه يستعطفهم وكنا نقول للمتظاهرين ابعدوا عنه لكي يطمئن ، لكنه سرعان ما استدار عائدا من نفس الطريق وعكس اتجاه السير ليلوذ بحياته كما تصور هو.
‎آخر يوم 28 يناير شاهدت حمدين صباحي بالبالطو يجلس علي رصيف في آخر شارع التحرير بمنطقتنا الدقي.. كنت واقفة ومددت يدي بفرح بعد أن كنت بكيت كثيرا وأنا أشكر الله أن جعلني أعيش حتي أشهد هذا اليوم. حمدين أمسك بيدي وهو جالس بين يديه الإثنتين وقبلها بسرعة بضحكة منتعشة في عينيه.. كان كل الناس الغرباء عن بعضهم البعض وهو ما لاحظته في التحرير قبل التنحي وبعده مباشرة يتبادلون ضحكة العيون التي تم نسيانها وإماتتها من زمان. كان هناك شعب آخر كأنما ولد علي أرض مصر بين يوم وليلة. يضحكون من قلوبهم وعيونهم الرجال والنساء عيونهم تضحك بحب دون أن يعرفوا أسماء بعضهم البعض وبدون أن يسعوا حتي لمعرفة تلك الأسماء. كنا نعيش فرحاً حرمنا منه طوووووووويلاً.
‎أما صورة الطاغية اللي قلت عنه للأجانب.. صحفيين وسياح يومها أنه مومياء تحكم في 80 مليون حي صحوا واستيقظوا لكرامتهم.. صورته التي كانت بارتفاع 15 دور هي مبني جريدتي , جريدة الجمهورية , تمت إزالتها خضوعاً لغضب جماهير لأكثر من 30 عاما في الحقيقة وتم رشق زجاج باب المؤسسة التي مارس رؤساء التحرير المتعاقبين عليها عهر النطق بلسان الباطل. أقول لك سيسقط- لا- بل " سيصعد " شهداء كثر وأكثر مازالوا لكن والله الذي لا إله إلا هو.. سينصر الله اسمه.. والله اسمه الحق واسمه المنتقم. ستدور الدوائر. الناس يدعون أمامي في الميدان بعد كل صلاة هناك عليه ويقولون " حسبي الله ونعم الوكيل ". كنا نهتف "سلمية.. سلمية " وكتبها الشباب معي علي مدرعة الأمن المركزي أمام الشيراتون يوم 28 يناير. بينما المجرمون في هذه القوات كالأسود والنمور حين يتمكنون من فريسة أو غزالة.. تماما هم هكذا حين يطالون متظاهراً لم يسعفه الحظ بالإفلات منهم. كما قلت يبدو أن الأوامر اختلفت للجنود ووحدات الأمن المركزي عصر الجمعة 28 يناير عن أول ذلك النهار. الذين كانوا يضربوننا ونحن في الطريق إلي ميدان التحرير يومها وكدنا نسقط وندهس بعضنا البعض توقفوا عن ذلك حين عدنا من الكر والفر من كوبري قصر النيل. لكن وأنا علي الكوبري وأجري مع الجموع ببطء برضه كنت حاسقط علي الأرض اكتر من مرة وانخلع حذائي وأنا أستغيث حتي لا ندهس بعضنا وصوتي خافت من تحت الماسك.. سمعت فتاة بجانبي تسب " يا ولاد الكلب" وتجري. كانت من طبقة راقية وبدت كأنها أول مرة تنطق تلك الكلمات. امتدت يد لم أرصاحبها لتمسك بمعصمي بينما حذائي يخرج من قدمي. ظل ممسكا بيدي ليضمن أن لا أسقط حتي وصلنا لأول الكوبري مرة أخري يعني عند نهاية دار الأوبرا. الجرحي بنحاول نفتح لهم الكافيتيريا أو الكوفي شوب الذي هناك علي النيل وصاحب الكوفي شوب يرفض فتحه والجنود يهرولون خلفنا. الرواد بداخله أصروا علي أن يفتح وهو يقاوم ومن معه دخول أي أحد ولكن بالنهاية أدخل شاباً ينزف من أذنه ووجهه وساقه بفعل رصاص الخراطيش والمطاط. نريد إدخال المزيد وتأتي فتاة داخل الكوفي شوب ب" شاش" من حقيبتها ونسوة عجائز بالكافيتيريا يتفرجن علي ما يبدو لهن فيلم رعب لم يتوقع أحد مشاهدته. تستخرج واحدة " الكلينكس" من حقيبتها والشاب النازف يخرج ورقة فئة مائتي جنيه ليأتي له صاحب الكافيتيريا بزجاجة ماء. صاحب الكافيتيريا يرفض دخول أي جرحي آخرين ويستعين برجاله " الأشداء" جسمانياً مثله ليمنعونا ويبقي الباب محكما بالقفل بعد إخراج الشاب الذي ينزف. لم أر وجه الشاب الذي أنقذني من السقوط حين أمسك معصمي لكن بمجرد وصولنا للمنطقة أمام الكافيتيريا كانت فتاة من طبقة راقية جدا ً قد سقطت أرضاً. لحظتها لمتها وأنا أعلم أن هذا غصب عنها لأن عدم تعودها علي الجري وسط هكذا ظروف ، وكلنا طبعا مثلها ، تسبب في انهيال المجرمين من الأمن بالضرب علي شاب أرجح أنه كان الذي ساعدني ولم أر وجهه لكن بدا كل منهما ، هي والشاب آية في الجمال والملاحة والرقي.. وحين حاول أن يساعدها لتنهض انهالوا عليه بالهراوات أمام عيني وكان بيني وبينه خطوتين للوراء لا أكثر والعسكر يرفعون الهراوات وأنا أردت الرجوع إليه بلحظة تردد.. ربما هو فعلاً من ساعدني ، لكن خوفي جعلني أركض للأمام مع من كان يفر ،حيث سنجلس كلنا علي رصيف الشارع أمام متحف محمود مختار ثم نركض كلما رجعوا إلينا.
‎حين استولي الشعب علي عربتين أو مدرعتين للأمن المركزي أمام الشيراتون ومدخل كوبري الجلاء الصغير المجاور صعد الناس أعلي المدرعتين وهم يحملون علم مصر يلوحون به وبأنفاسهم الحرة لأيام جديدة كانوا واثقين كل الثقة واليقين أنها آتية.
‎في التحرير بعدما وصلنا وأصبح الميدان مفتوحاً فيما بعد رأيت شاباً يحمل لافتة كتب عليها " مبارك يتحدي الملل". كان الفنانون في خيمة.. مجرد مشمع بلاستيك من أكياس القمامة السوداء في الحقيقة.. كانوا يقدمون إلينا التمر الجاف أو بعض الساندويشات من الخبز البلدي بالجبنة البيضاء لمن يشعر بالجوع ويقولون " كنتاكي.. كنتاكي " سخرية من ادعاء الحزب الوطني أن المتظاهرين مدفوع لهم من جهات أجنبية ويأخذون مقابلاً من وجبات المطعم الشهير للتظاهر ضد الحكم. الطريف أن هذا الاتهام للشعب جاء بعدما اكتشف ثوار التحرير ما صرح به بعض أصدقاء أخي الذين تمكنوا من بعض المندسين علي ظهور الجمال والخيول في الموقعة الدموية الشرسة. قال إخوة محمد بدر صديق أخي والذين قابلت أحدهم مع الأب أن من أمسكوا بهم لم يكونوا كلهم بلطجية أو شرطة كما أظهرت البطاقات بل بحسب عائلة بدر- كان بعضهم عمال في شركات تم صرف 40 جنيه لهم ووجبة وأعطوهم اسلحة بيضاء وياللا انزلوا اهتفوا لمبارك. والله ليموت المجرم. سيموت المجرمون ، والله سوف يُهزم وُيهزمون.. والله سوف نحاكمهم ونقتص منهم والله غالب علي أمره وإنا لمنتصرون.
‎غادة
‎13 فبراير 2011
‎المتاريس
‎أمجد العزيز
‎للتو قرأتها.
‎لو تشوف يوم التنحي! كنت في البيت وأول لما شفت بيان رسمي في التليفزيون ذ مش فاكرة رقم كام ذ تركت الصالة . كنت في يأس أن يتنحي من نفسه وبدأت أشعر أن القادة العسكريين يشعرون بالحرج من إجباره علي ذلك .
‎فجأة صرخ أخي ! " أيوه .. أيوه . خلاص .... خلاص ".
‎قفزت إلي الصالة في لحظة وأنا أبكي و أنظر للتليفزيون . ثم احتضنني أخي بقوة وانفعال واتجهنا للنافذة . فتحها وظل يهتف ويهلل بالنصر وإن مبارك خلاص ... ال .. خلاص . الناس في الشارع كانت ينظرون إلي مصدر الصوت .. بيتنا في الطابق الثالث ويستفسرون بسعادة .
‎نزلنا نفس يوم التنحي قاصدين التحرير أنا وأخي وزوجته . تركنا أولاده مع ماما التي كانت تريد وتتمني النزول من أول يوم للثورة وكنا نمنعها . كمية النور في المكان تجعل العيون تشعر كما لو كان أحد الكواكب ينفجر أو يولد . لم نستطع الوصول للتحرير نفسه بل لأقرب نقطة منه فقط . شاهدنا شبابا يحمل علم مصر ويحركه بروعة كأنها لحظة حب ينفجر في أرواح الجميع فجأة . كان بعض الشباب يصعد علي الأسدين البرونزعند كوبري قصر النيل .. بلا خوف من السقوط وهم يلوحون بالعلم .. لا نشعر بأي برد يوم 11 فبراير . نضحك كلنا وننظر في عيون بعضنا البعض دون ذرة تفكير أو تحسب لأي خاطر اجتماعي... الرجال والنساء .. كل الغرباء والغريبات عائلة واحدة تحتفل بنفس البهجة.
‎" ارفع راسك فوق إنت مصري ! ارفع راسك فوق إنت مصري " . غنيناها معهم .. هذه النعمة لم نعرفها من عقود . الفرح كان تصميم الشعب علي إعادة كتابة تاريخه عبر الاعتصام .. من أجل " عيش . حرية . عدالة اجتماعية " . أثناء الاعتصام قبل التنحي
‎ لم أكن أتعاطي الإنترنت إلا نادرا لأنني يومياً تقريبا هناك مع الناس أو من صاروا يصنفون كمتظاهرين وكلما ذهبت بموبايلي المتواضع وليس بكاميرا خاصة بعدما صارت رديفاً لقتلك.. أصور المزيد من بوسترات لوجوه الشهداء والشهيدات والأطفال الشهداء.. أوقاتا كنت أنفجر في البكاء من الأعداد الكثيرة والأسماء الجديدة في كل مرة للشهداء أو لأن الوجوه مشوهة وبلا أسماء حتي. كنت أقابل أهالي الشهداء وأخواتهم والآباء والأعمام وأصدقائهم يحملون صورهم أو يجلسون أمامها. أخي المتزوج الأب شارك قبل التنحي أكثر من مرة وشارك وزوجته في التنظيف بعد التنحي. كل من يملك شيئا هناك كان يتقاسمه ومرة أعطتني سيدة آخر ربع قطرة ماء من زجاجة ماء لم تطفئ عطشي حيث كنت أحيانا أظل بلا ماء من الصباح حتي التاسعة مساء حين أعود لأنام في سريري الدافئ والناس ينامون علي الأرصفة وشوارع الميدان التي بدأت رائحة البول تفوح منها.. وكنا نحلم بمكان فارغ عليها لنجلس , من شدة التعب وأري الفنانين والمعاقين علي كراسي متحركة والأطفال الرضع بين أيدي أمهاتهن ولأول مرة لا أشعر بالغضب والرفض تجاه المنتقبات والملتحين حيث كان بعضهن وبعضهم هم من يقومون أو يقمن بتهدئة غضبي ويتحملن.. السيدات .. تعبيري النادم عن موقفي القديم السابق الرافض لهن والمنكمش منهن فترد الواحدة بهدوء كلنا إخوات. بل إن واحدا من الملتحين يلبس جلبابا ومتزوج من إثنتين هو من أنقذني من الوقوع علي الأرض وسط العجينة البشرية المليونية بينما أحاول عبور الميدان من آخره الذي كنت بلغته.. رجوعا إلي أوله مرة أخري لأجلب بطانية من لجنة التنظيم لمواطن مع أسرته جاء من دمنهور فضاع مني ذلك المواطن في الزحام الذي كيوم الحشر... كدت اسقط وكل من حولي أطول مني ولا يمكن سماع صوتي من شدة وارتفاع الهتافات. ده قبل التنحي ولكني تذكرت مكان كومة البلاستيك الرفيع الذي من جهتين علي ناصية مبني وزارة الخارجية القديم لأنك لا تستطيع تسمية " الدروة" التي كانت مفتوحة ويمكن العصف بها من أقل نسمة هواء حيث احتمت تلك الأسرة بها علي الأرض كغيرها.. لا تستطيع تسميتها خيمة وأغلب الناس كانوا هكذا. الطريف أن الرجل السلفي الذي أنقذني وكنت من عنف العجينة البشرية الملتحمة أوقاتا لا أري سوي يدي التي يمسكها ولا أراه وأستميت في التمسك بتلك اليد خشية السقوط أرضا.. وأوقاتا كان يدفعنا الزحام إلي الانعجان سويا بحيث أنه لمسني دون قصد بحكم الكتلة الواحدة التي كناها كلنا.. نصحني بعدما عرف أني غير متزوجة بالرجوع للبيت مبكرا كل يوم من الميدان والطريف أني لما نجحت بفضله في الخروج حية وبسلام من الميدان الذي انسحب منه الهواء ذلك اليوم قدمت يدي إليه للمصافحة والشكر فإذا به يقول موضحا دون أن يمد يده " ما باسلمش علي ستات ". لم يقلل هذا من امتناني ومحبتي لما فعله.
‎كنت أشتري بعض البطاطين والمشمع البلاستيك في النهار ليتقي المتظاهرون البرد به.. هذا كان بكميات المشمع- وأخي ساهم معي وزوجته وأمي.. الرجل اللي اشتريت منه البطاطين بعد بدء الاعتصامات لإجبار مبارك علي التنحي كان له شبه كشك وليس محلاً... كان هذا في شارع الجمهورية بوسط البلد ولما سألني من نفسه ملاحظاً الكميات: " هي للتبرع؟" وأجبت بنعم قدم خصماً دون أن أطلب منه كمساهمة منه.. وأيضاً اشتريت كميات من الطواقي الصوف وبعض المخدات والصابون وجلبت مرتبة إسفنجية وسجاجيد صلاة من بيتنا لتوزيعها لكن بربك يا أمجد أنا أحكي لك كصديق فقط وغيري كان يتبرع بكل شئ وماهو أغلي.. الناس استشهدت من كل الطبقات ولا أحكي لك هذا ليكون مادة تباهي أو موضوع قصيدة ولا هو موضوع أصلاً.. مجرد شئ ارويه لصديق. كانت المنتقبات يغنين معنا بينما نغني كلنا ترنيمة قبطية خلف أحد المطربين أو المنشدين الأقباط.. لا أذكر منها سوي الدعاء الجميل "بارك بلادي.. بارك بلادي " نقولها وننظر إلي السماء ونقول أيضا " الله أكبر/ هلل وكبر وقول يا مصر / النصرة تكبر".
‎الطبيب الشاب عمرو أحمد نبيل شقيق زوجة صديق أخي والذي كان يشارك في مداواة الجرحي وإسعاف من يمكن إسعافه سواء بالميدان أو في مستشفي القصر العيني أفاد بأن كل الجثث التي عاينها كانت إصاباتها في مقتل ، إما الرأس أو القلب.
‎ سمعت بجواري في الميدان راجل مش ملتحي بيتكلم في محموله. كان بيقول: " أيوه يا محمد أنا هربت عشان أجي هنا." لما أنهي حديثه لاحظ أني أنظر إليه بدون خوف وأكيد بتعاطف. قال لي بتأثر " يا مدام أنت ما تعرفيش يعني إيه تُعتقلي 4 سنين ". رديت عليه: " مصر كلها كانت معتقلة ". كان الموقف ده قبل التنحي اللي حصل من يومين. أما المشمع البلاستيك فقد نزلت لتسليمه ظهراً قبل التنحي بعدما قدمته خادمتنا لأحد الترزية لتقسيمه إلي أمتار بأحجام معينة. كانت الأمطار قد بدأت وخفت وكنت أبكي لأمي خوفا من أن يمرض المتظاهرون أو ينصرف بعضهم فقالت لي مطمئنة وقتها: "مين عارف؟ المطر خير "..
‎لفت نظري كل مرة كنت أنزل للميدان وجود " بؤر " لم اكن أري من بداخلها إلا لو حمله بعض الشباب.. لكن الحلقات البشرية المتعاظمة حول المركز ورفع الموبايلات إلي أعلي للتسجيل والشعر الذي كنت أسمعه حين أقترب من البؤرة كم كان يطمئنني ويغضبني.. كيف لكل هذه المواهب المجهولة المدفونة لمن لا نعرفهم.. لكل هذا الشعب الفذ.. أن يحكمه واحد مثل مبارك والحزب الوطني كل هذه السنوات؟
‎ أطعمني شاب صغير مراهق علي نفقته علبة كشري ذات يوم ونحن علي الرصيف بالميدان قبل التنحي. كان من الشرابية وحكي عن أن بعض عناصر الوطني كانت توقع بين شباب الأحياء الشعبية لإثارة حرب أهلية علي ما يبدو وقال لي أنهم لولا أنه ورفاقه يعرفون أسماء العديد من شباب المناطق الشعبية المجاورة أو يسمعون بما يحدث داخلها لانطلت عليهم الخدعة بل كانوا يحكون لهم أنهم من الأفضل لو ذهبوا لكباريه أو خمارة ( حسب كلام الشاب الصغير ) ولا يذهبوا لذلك الميدان !!!!.
‎ يوم أطعمني المراهق الشعبي الصغير كان اليوم الوحيد الذي أكلت فيه في الميدان وكان معي ما يربو علي المئة جنيه صباح ذلك اليوم أنفقتها كما يعلم الله وبقي معي جنيهان لم يكفيا زجاجة ماء صغيرة وكيس بسكوت وواحد بسكوت"بيمبو" فإذا بالمبلغ النكتة لا يكفي طبعا سوي لزجاجة المياه الصغيرة التي شربت منها " بق" واحد قبل ذلك بساعة ثم أعطيتها للشاب الذي اطعمني.. شرب ثم أعطاني فشربت وعدت أعطيها له منحة لا ترد ليستفيد أيضاً ويملأها وهو ما فعله.
‎رأيت راجل بسيط بدا كناساً يجاوركل البنات والشباب الذين ينظفون.. كان رقيق الحال وهو يجرجر كيس قمامة أسود عملاق ( قبل التنحي ) ويقول مطالباً بالقمامة: " مبارك زبالة.. زبالة مبارك ". يا للضحكة الصحية غير الخائفة التي منحنا إياها وسط ركام الحزن. كذلك رأيت شابا وسط الزحام يجر كلبين من مقودهما. علي ظهر واحد يمكنك أن تقرأ ورقة عليها اسم مبارك وعلي ظهر الكلب الثاني ورقة عليها اسم زوجته. الناس كانت تضحك.
‎سمعت في يوم وأنا في التحرير قبل التنحي راجل قريب مني بيبحث عن مكان نظيف وطاهر للصلاة وللحق كانت رائحة البول هائلة لعدم وجود حمامات ومراحيض. تحت بوستر عملاق للشهيد مصطفي الصاوي كان مربوطا بين أعمدة الكهرباء والشجر في الميدان ناحية باب اللوق.. البوستر الذي أبكاني مرة بابتسامة صاحبه مفرطة البراءة والذي شاهدت لاحقاً فيلماً توثيقيا عنه كان فوق رأس الرجل مرتفعا. سمعت من يرد علي الرجل الذي يريد الصلاة وتقلقه رائحة البول في منطقة شهدت أكبر عدد من شهداء ثورتنا. الشاب اللي رد عليه قال له: ده أطهر مكان تصلي فيه.
‎هناك رجعت أسمع تاني أغاني عبد الحليم الوطنية " صورة، صورة ، صورة ، كلنا كده عايزين صورة " التي كانت في أذني من ركام الستينات وذكريات طفولتي البعيدة الحلوة التي عادت لها الطراوة والدفا معا ونحن نعيد معا.. كل من يحفظ تلك الأغاني وهي تنطلق من الإستيريوهات ومكبرات الصوت العملاقة بالميدان.. نغني.. ننظر في وجوه بعضنا البعض بفرحة ممتلئة جديدة نستغربها وكانت مسروقة منا لأعمار..حتي الأجيال الجديدة لم تكن تحفظ النشيد الوطني ونحن نستعيده معهم ونستعيد بلدنا من سنوات البغي والظلم والقهر والفساد والذل وكل صور الانحطاط وفحش العدوان علي كل معني جميل أو شئ نبيل. كنا وزميلات لي بجريدتي الجمهورية نتعرض للتشكك من جانب الفتيات اللواتي تقمن بتفتيش السيدات في اللجان الشعبية عند مداخل الميدان. أقدم بطاقتي الصحفية فتري البنت المشرفة اسم الجريدة فتريد منعي من دخول الميدان.. أي والله ومرة سألتني إحداهن عند مدخل الميدان " حتقولي الحقيقة؟".. كنت في نظرهن مذنبة بسبب ارتكابات ومقالات لرؤساء تحرير لطالما منعوني عن الكتابة مثل مانشيت " شهيد البانجو " لرئيس التحرير محمد علي إبراهيم قبل الثورة.
‎كم بكيت يوم ما نشيت الجريدة التي أعمل بها.. مانشيت »شهيد البانجو« بغيظ وانا كنت وحدي في توقيت مبكر في مكتب الأدب بالجريدة. دفعت بالعدد إلي سلة المهملات اسفل المكتب وأنا أدعو الله.
‎ .. أتذكر أني مرة قابلت صدفة أم الشهيد خالد سعيد في الميدان وسلمت عليها وقبلتها ودون أن تعرفني حكيت لها أني كتبت عن ابنها قبل الثورة. رأيت دهشة جميلة خاطفة علي وجهها وكانت تسألني فين ولكن الزحام حال بيني وبينها.
‎نسيت أقول أن ما أحسسته كانت زميلاتي تحكينه لي أيضا.. كنا ننزل التحرير ورغم الجوع والعطش والإعياء نعود بيوتنا ونحن شكلنا أصغر سناً !.. لم أكن لأصدق لولا أن رأيت ضحكتي المنسية تعود وقالت زميلتي فاطمة يوسف بجريدة الجمهورية: " ده علاج نفسي. احنا نتعالج نفسيا والله ".. كانت فاطمة تنزل مع بناتها وكانت خالتي الجدة المسنة مريضة السكر والتي تحقن نفسها بالإنسولين عدة مرات في اليوم تنزل في ميادين الإسماعيلية.
‎في يوم سرت في التحرير إشاعة غير صحيحة عن تنحي مبارك قبل تنحيه.. بدأت أحضن الشباب المراهق الصغير ويحضنوني ويقفزون بطفولة وأحضن البنات.. ثم عرفنا أن الخبر مغلوط.
‎ كان العلم حولي أمتارا وكيلومترات من البهجة الملتمعة تحته رؤوس من وضعوه أعلي رؤوسهم كما هو مكانه فعلا.. وكل من مجموعات أو مجاميع الشباب تهتف بشعار ثم يتغير ونحن نردد خلفهم " احنا شباب الإنترنت، احنا شباب الواد والبت " " دلعو يا دلعو.. ومبارك شعبه خلعه / ومبارك شعبه ذله ".. قيلت حتي قبل التنحي أو بوادره و" أمن الدولة يا أمن الدولة.. أمن الدولة كلاب الدولة.. فين الأمن وفين الدولة " وهذه الأخيرة كنا لسنوات نهتف بها علي سلم نقابتنا.. ومؤخراً " يا شهيد نام وارتاح واحنا نواصل الكفاح.. يا شهيد نام واتهني واستنانا علي باب الجنة..حسني في نار وأنت في جنة ". وأيضاً " عايز حقي. عايز حقي. مبارك سرقني. مبارك دبحني ". رفعنا إيدينا أنا وأخي متعانقة الكفوف لأعلي " إيد واحدة.. إيد واحدة ". بكيت بانهيار من كثرة وجوه الشهداء.. وجوه جديدة كل مرة وقبل التنحي كنت أريد أن أقتل ذلك الرئيس الذي لم نختره ويستحل أموالنا ودماءنا. يهرع الناس ناحيتي لإعطائي بعض المناديل لأجفف دموعي وهم يسألون إذا ما كنت فقدت شهيداً أو تعرضت لإصابة وكنت أوضح أن حزني علي كل شهيد والثار ثارنا كلنا ولن نترك ثارنا كما قلت لإحدي المراسلات الأجنبيات وهي تسألني.
‎ البعض حمل لافتات عليها عبارات تعبر عن هذا الشعب العظيم وطرافته " امشي بقي كفاية تناحة يا تنح " أو " ارحل مراتي وحشتني " أو " ارحل عايز أقيد بنتي في دفتر المواليد " أو " ارحل بقي عايز اروح الحمام " "ارحل بقي إيدي وجعتني " بينما البعض كان يحمل صور شهدائه أو أسمائهم أو لافتة قالت " مرتبي = نص مرتب جزمة وزير " وبعض المدرسات أتين مع أطفالهن أو مع بعض التلاميذ وكان الأطفال يرسمون بالألوان المائية علي اللافتات أو علي الأرض مع الخطاطين عبارات عملاقة من نوع "ارحل يا ظالم" وأيضا صورا أرضية عملاقة لمصر ورمز السلام غصن الزيتون أو علي جداريات متقنة عمودية ويوقع عليها الناس بأسمائهم... شفت هناك تفكيك الجريمة المنظمة اللي تواصلت علي مدي عصور.. مش بس التلاتين سنة بتوع الكلب الراحل أو اللي باتمني محاكمته وإعدامه كما صرنا نهتف مع كل شهيد جديد. قبّلت يد أب أحد الشهداء.. رجل عجوز من كفر الشيخ يرتدي جلبابا لم يكتب اسم ابنه علي اليافطة بيده واكتفي باسم أو صفة " أبو الشهيد " وناقشته في أهمية وضع أو كتابة اسم ابنه لنقوم بالتصوير ثم نضع هذا في مواقع أو علي الفيسبوك. رد العجوز في لحظة وهو يسر لي باسم الشهيد: اسمه محمد إبراهيم الجندي". عندما أصررت عليه بأن يضع الاسم علي اللافتة قال بهدوء: " أنا عارف اللي قتله وحاخد تاره ". قبلت يده وطبطبت علي ذراعه وأنا أدعو له بالصبر وانصرفت.
‎آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه يا أمجد.. جوايا كتير قوي.
‎ ولسه من 3 أيام شفت غريق بالنيل أمام الشيراتون هنا وفكرت لما لا يكون مقتولا تم رميه في النيل خاصة مع الإجرام الذي تكشف والسجون التي ما زال يتم اقتحامها وتهريب من فيها من المجرمين مثلما حدث بسجن المرج أمس.. الأذناب وفلول النظام المجرم مازالت مندسة ومختبئة بيننا تتحين الفرص وتقوم بتخليص " ثاراتها" مع الشعب المنتصر وقابلت بالمترو منذ لحظات شابة ( رضوي ) حكت لي حيثيات استشهاد أستاذ تصوير بكلية التربية الفنية هو الشهيد أحمد بسيوني الأب لطفلين وكانت مراته حاملاً وكنت التقطت صورة لبوستر عليه وجه الشهيد من أيام .
‎أحمد بسيوني هو الشهيد الذي كان يصور بكاميرته كمحترف مشهد قتل أحد القناصة لمواطن. فلما رأي القناص أن الشهيد بسيوني شاهده وصوره انتبه. تحكي " رضوي " التطبيقية التي تم تعيينها منذ ما يقرب من الشهر أن أحمد بسيوني قال لمن حوله " حاجيبه " واتجه بكاميرته إلي القناص بسلاحه.
‎"واجه قاتله وشافه. وقف قصاده ". كانت كلمات رضوي التي ليست قريبة الشهيد. أطلق عليه القناص رصاصة استقرت قرب القلب بحسب رضوي وكان أن جري الشباب ليساعدوه فنهض قائلاً " مفيش حاجه " وهو ينزف ورأي الشباب حوله القناص يعطي أمراً باللاسلكي فإذا بعربة أو مدرعة شرطة تأتي عليه علي الشهيد فوراً وتدهسه لتكمل وتضمن قتله وقد جري الشباب من حوله. سألت " رضوي": " هل استطاع أحد إنقاذ الكاميرا بما فيها من صور؟ ". قالت: " لا أعرف ".
‎ وصديق شهيد آخر هو إسلام بكير الذي ما زالت خطيبته شبه ذاهلة علي سريره ولا تصدق بل تنتظر عودته وحكي لي صديقه بالميدان كيف كان الشهيد إذا تخاصما لا يصبر لليوم التالي علي ذلك بل يذهب نفس الليلة ليصالحه وكيف أصيب الشهيد إسلام برصاصة مطاطية لكنه نزل الميدان اليوم التالي ليردوه قتيلا بما يقرب من 11 رصاصة كل منها في مقتل كدأب القناصة المحترفين....الحكايات لا تنتهي.
‎قابلت أصدقاء الشهيد محمد السعيد وقمت بتصوير لافتة كرتون بسيطة يحملها شقيق الشهيد" هيثم " الذي كان سيتزوج قريباً. اسم الشهيد علي جزء من علبة كرتونية مهترئة.
‎حول علم مصر الممتد طويلاً علي الأرض ولا أحد يدوس أو يدهس أو يطأ بقدمه عليه رغم شدة الزحام تجمع بعض الملتحين وأعضاء الجماعة السلفية وبجوارهم صبي أو فتي بدأ مراهقته. كان شكله يبدو ، لو شاهدته في ظروف أخري ، كمتشرد أو طفل شوارع. إنه " عماد " شقيق الشهيد " عمر أحمد سليمان". كتب عماد اسم شقيقه علي العلم بقلم فلوماستر أسود مع وعد الثأر له. "عماد " كان من الممكن أن يكون في الجانب الآخر الذي يتم تجنيده ورشوته بوجبة وبعض الجنيهات للهتاف ضد من يطلبون حقوقه هو وأمثاله لكن فطرته وشعوره بالظلم كان طبيعيا. حكي لي عماد أن شقيقه الشهيد " عمر" هو الذي نزل به للمظاهرات ولم يكن عماد يريد النزول. اتجه " عمر " الشهيد يوم 28 يناير ناحية مبني وزارة الداخلية في الشارع المتفرع من ميدان التحرير الكائنة به الوزارة. استشهد " عمر " بطلق ناري من أحد قناصة وزارة الداخلية في جبينه بين العينين تماماً كما أشار شقيقه عماد إلي رأسه وهو يحدثني. يقول عماد " حد حيرجعلي أخويا؟ ! ". عماد ، الذي تكلم إلي وسائل الإعلام الأجنبية عبر ترجمتي ، ظل مقيماً في الميدان بل أنه عاد إليه بعد دفن شقيقه.
‎عرفت من صديق الشهيد " أمير " ( قرأت اسم أمير لاحقاً في جريدة الأهرام بين الشهداء. ربما يكون هو أمير محمد عبده ) أنهم ظلوا يبحثون عنه 4 أيام ثم وجدوه في ثلاجة القصر العيني. قمت بتعزية شابة مصرية لا ترتدي الأسود في استشهاد أخيها , في ميدان التحرير بعدما قرأت اللافتة التي تحملها المكلومة.
‎قابلت صديق الشهيد المحامي " محمد علي عيد ". كان الشهيد لا يعمل وعمره 30 سنة وكانت تلك المرة التي نزل واستشهد فيها - بحسب كلام صديقه هي المرة الأولي له في مظاهرة.
‎أيضاً قمت بتصوير صور وبوسترات العديد جداً من الشهداء والشهيدات بالموبايل عدا الصور التي التقطتها والأمن المركزي يهجم علينا بالغازات المسيلة للدموع والرصاص المطاطي والخرطوش الذي ملأ أجسام الشباب أمامي كالخرز وسمعنا أن الغازات كانت ككل شئ في مصر ، منتهية الصلاحية ، وسمعنا أن هناك رصاصاً انشطارياً ربما يكون بعض ما رأيته يوم 28 يناير هو كذلك وأنا لا أعرف في " أنواع " الرصاص لكن عرفنا حكاية الرصاص الحي سريعاً بينما كنا نوالي النزول للميدان. فمثلا يوم 29 يناير في الميدان وبجوار شاب ثقيل اللسان قال لي أنه ترك بيته إلي الميدان تاركاً عائلته تظن أنه اختفي في مكان ما ليمارس تعاطي المخدرات.. كان يعاملني بشكل أحسست معه بالأذي من شدة ما تعود أن يعامل بي طبقتي من احترام يتحول في ظروف أخري لمهانة.. لم يكن يهين نفسه الآن لكن المعاملة كلها.. خاصة وقد كان بالجوار رجل عجوز قال أن مهنته المحاماة أو كانت المحاماة وسمح لي إن أردت أن أسند جسمي علي موتوسيكله الخاص .. هذه المعاملة التي ذكرتني بقبح ما ثرنا ضده.. الطبقية وعدم تكافؤ الفرص ، المحسوبية والفساد والبطالة.. كلها لم يخترقها سوي تساؤل متشكك من الرجل المحامي العجوز حين سمعت صوت رصاص أو ما بدا كأعيرة نارية.. صوت عنيف جدا قادم من شارع محمد محمود فلما سألته أجاب (الرجل المحامي): " إيه صوت الرصاص الحي.. مش عارفاه؟؟!".. كان هذا بعدما عرفا أني أعمل بجريدة الجمهورية.. نبرة الشك ونظرة عين الرجل المحامي كانت جارحة متهِمة.
‎محافظة الجيزة قامت سريعاً بطلاء العديد من الأسوار المعدنية في شارع التحرير بالدقي حتي قبل التنحي والتي كنت قد صورت عليها تعبيرات تنادي بسقوط النظام أو تصف حسني مبارك وشلته ب " الحراميه ".
‎أحد الأجانب من السياح كان في طريقي وأنا ذاهبة إلي ميدان التحريرصباح السبت 29 يناير وحدثني مشيراً إلي سيدة شعبية بدينة تدير مجموعة من أطفال الشوارع نصف عرايا ، أحدهم قدمه مجروحة ملوثة تماما وقال لي السائح " إن الطفل يحتاج للعلاج ". بدأ السائح الشاب يبكي وأنا أحكي له ما حدث لنا اليوم السابق وهو الجمعة 28 يناير في نفس المكان. قال لي السائح:" أنا اشعر بالأسف والشفقة عليكم ". قلت له " تمنَ لنا أن ننتصر. نحن لطالما اشفقنا علي أنفسنا ولكن ليس بعد الآن. تعاطف معنا فقط ". ظل السائح يدعو لنا بالنصر والتوفيق.
‎ كانت عربات الأمن المركزي بجوار السيدة والأطفال الذين ذكرتهم . كانت السيدة تأمرهم ب " شفط " البنزين بخرطوم بدائي من مدرعة الأمن المركزي في جراكن أمام قسم شرطة الدقي. قمت بالتحدث إليها مستفسرة وأجابت ببجاحة أنها تريد إشعال النار في القسم لتحرير بعض أقاربها بداخله. لم أصدقها فقد كانت تبدو كمن تريد بيع البنزين. اقتربت من ضابط شاب بالأمن المركزي علي بعد مترين من السيدة التي تفعل هذا وتقوم بتفريغ البنزين من مدرعة زملائهم وقلت له: " لو سمحت المفروض أن أنتو أعداءنا لكن عايزة اقولك علي حاجة شفتها ". أجاب: " آه وأنا بأه المفروض أحس بإيه وأنتي بتقولي " أعداءنا "؟!.
‎ده كان يوم 29 يناير وفاكراه كويس. يوم سبت يومها شفت الممثلة جيهان فاضل في الدقي في سيارتها. قلت للضابط الشاب " اعذرني بس أنا وقعت من الغاز إمبارح هنا وأنا صحفية. عايزة أحكيلك علي الست المشبوهة اللي شكلها قواده أو مخيفة وهي مجندة أطفال شوارع يسحبولها بنزين من المدرعة دي " وأشرت بيدي إلي ما كنت أحكيه. قلت له " أنا باقولك عن كلامها أنها عايزة تحرق القسم ( قسم شرطة الدقي ) عشان يبقي فيه حد عرف ". شكرني واتجهت إلي ميدان التحرير مشياً طبعاً.
‎لعلك رأيت في الفضائيات المسجد الذي تم تحويله لمستشفي ميداني فواصل المجرمون ضربه بالقنابل المسيلة للدموع والغازات إياها التي أسقطونا بها يوم 28 يناير حين سقطت بالفعل نتيجة الغاز فخرج إمام المسجد- المستشفي يرجوهم أن يحترموا حرمة المكان وخاصة أن هناك جثث بالداخل لم يتم إخراجها منه بعد.. يعني لو في حرب مع إسرائيل لا نصدق أنها كانت ستفعل بنا ما هو أكثر أو أجرم !!!
‎سامحني لا أستطيع التجاوب مع أي شئ آخر أو اية حالة أخري ولفترة
‎حماك الله وأولادك الذين من المحتمل جدا أن أكون رايتهم ورأوني دون أن نعرف سوي أننا جميعا لم نعد نحتمل الظلم والذل والفساد
‎محبتي واحترامي بل كل الإعزاز يا أمجد
‎غادة
‎13 فبراير 2011
‎المتاريس
‎أمجد العزيز
‎للتو قرأتها.
‎لو تشوف يوم التنحي! كنت في البيت وأول لما شفت بيان رسمي في التليفزيون ذ مش فاكرة رقم كام ذ تركت الصالة . كنت في يأس أن يتنحي من نفسه وبدأت أشعر أن القادة العسكريين يشعرون بالحرج من إجباره علي ذلك .
‎فجأة صرخ أخي ! " أيوه .. أيوه . خلاص .... خلاص ".
‎قفزت إلي الصالة في لحظة وأنا أبكي و أنظر للتليفزيون . ثم احتضنني أخي بقوة وانفعال واتجهنا للنافذة . فتحها وظل يهتف ويهلل بالنصر وإن مبارك خلاص ... ال .. خلاص . الناس في الشارع كانت ينظرون إلي مصدر الصوت .. بيتنا في الطابق الثالث ويستفسرون بسعادة .
‎نزلنا نفس يوم التنحي قاصدين التحرير أنا وأخي وزوجته . تركنا أولاده مع ماما التي كانت تريد وتتمني النزول من أول يوم للثورة وكنا نمنعها . كمية النور في المكان تجعل العيون تشعر كما لو كان أحد الكواكب ينفجر أو يولد . لم نستطع الوصول للتحرير نفسه بل لأقرب نقطة منه فقط . شاهدنا شبابا يحمل علم مصر ويحركه بروعة كأنها لحظة حب ينفجر في أرواح الجميع فجأة . كان بعض الشباب يصعد علي الأسدين البرونزعند كوبري قصر النيل .. بلا خوف من السقوط وهم يلوحون بالعلم .. لا نشعر بأي برد يوم 11 فبراير . نضحك كلنا وننظر في عيون بعضنا البعض دون ذرة تفكير أو تحسب لأي خاطر اجتماعي... الرجال والنساء .. كل الغرباء والغريبات عائلة واحدة تحتفل بنفس البهجة.
‎" ارفع راسك فوق إنت مصري ! ارفع راسك فوق إنت مصري " . غنيناها معهم .. هذه النعمة لم نعرفها من عقود . الفرح كان تصميم الشعب علي إعادة كتابة تاريخه عبر الاعتصام .. من أجل " عيش . حرية . عدالة اجتماعية " . أثناء الاعتصام قبل التنحي
‎ لم أكن أتعاطي الإنترنت إلا نادرا لأنني يومياً تقريبا هناك مع الناس أو من صاروا يصنفون كمتظاهرين وكلما ذهبت بموبايلي المتواضع وليس بكاميرا خاصة بعدما صارت رديفاً لقتلك.. أصور المزيد من بوسترات لوجوه الشهداء والشهيدات والأطفال الشهداء.. أوقاتا كنت أنفجر في البكاء من الأعداد الكثيرة والأسماء الجديدة في كل مرة للشهداء أو لأن الوجوه مشوهة وبلا أسماء حتي. كنت أقابل أهالي الشهداء وأخواتهم والآباء والأعمام وأصدقائهم يحملون صورهم أو يجلسون أمامها. أخي المتزوج الأب شارك قبل التنحي أكثر من مرة وشارك وزوجته في التنظيف بعد التنحي. كل من يملك شيئا هناك كان يتقاسمه ومرة أعطتني سيدة آخر ربع قطرة ماء من زجاجة ماء لم تطفئ عطشي حيث كنت أحيانا أظل بلا ماء من الصباح حتي التاسعة مساء حين أعود لأنام في سريري الدافئ والناس ينامون علي الأرصفة وشوارع الميدان التي بدأت رائحة البول تفوح منها.. وكنا نحلم بمكان فارغ عليها لنجلس , من شدة التعب وأري الفنانين والمعاقين علي كراسي متحركة والأطفال الرضع بين أيدي أمهاتهن ولأول مرة لا أشعر بالغضب والرفض تجاه المنتقبات والملتحين حيث كان بعضهن وبعضهم هم من يقومون أو يقمن بتهدئة غضبي ويتحملن.. السيدات .. تعبيري النادم عن موقفي القديم السابق الرافض لهن والمنكمش منهن فترد الواحدة بهدوء كلنا إخوات. بل إن واحدا من الملتحين يلبس جلبابا ومتزوج من إثنتين هو من أنقذني من الوقوع علي الأرض وسط العجينة البشرية المليونية بينما أحاول عبور الميدان من آخره الذي كنت بلغته.. رجوعا إلي أوله مرة أخري لأجلب بطانية من لجنة التنظيم لمواطن مع أسرته جاء من دمنهور فضاع مني ذلك المواطن في الزحام الذي كيوم الحشر... كدت اسقط وكل من حولي أطول مني ولا يمكن سماع صوتي من شدة وارتفاع الهتافات. ده قبل التنحي ولكني تذكرت مكان كومة البلاستيك الرفيع الذي من جهتين علي ناصية مبني وزارة الخارجية القديم لأنك لا تستطيع تسمية " الدروة" التي كانت مفتوحة ويمكن العصف بها من أقل نسمة هواء حيث احتمت تلك الأسرة بها علي الأرض كغيرها.. لا تستطيع تسميتها خيمة وأغلب الناس كانوا هكذا. الطريف أن الرجل السلفي الذي أنقذني وكنت من عنف العجينة البشرية الملتحمة أوقاتا لا أري سوي يدي التي يمسكها ولا أراه وأستميت في التمسك بتلك اليد خشية السقوط أرضا.. وأوقاتا كان يدفعنا الزحام إلي الانعجان سويا بحيث أنه لمسني دون قصد بحكم الكتلة الواحدة التي كناها كلنا.. نصحني بعدما عرف أني غير متزوجة بالرجوع للبيت مبكرا كل يوم من الميدان والطريف أني لما نجحت بفضله في الخروج حية وبسلام من الميدان الذي انسحب منه الهواء ذلك اليوم قدمت يدي إليه للمصافحة والشكر فإذا به يقول موضحا دون أن يمد يده " ما باسلمش علي ستات ". لم يقلل هذا من امتناني ومحبتي لما فعله.
‎كنت أشتري بعض البطاطين والمشمع البلاستيك في النهار ليتقي المتظاهرون البرد به.. هذا كان بكميات المشمع- وأخي ساهم معي وزوجته وأمي.. الرجل اللي اشتريت منه البطاطين بعد بدء الاعتصامات لإجبار مبارك علي التنحي كان له شبه كشك وليس محلاً... كان هذا في شارع الجمهورية بوسط البلد ولما سألني من نفسه ملاحظاً الكميات: " هي للتبرع؟" وأجبت بنعم قدم خصماً دون أن أطلب منه كمساهمة منه.. وأيضاً اشتريت كميات من الطواقي الصوف وبعض المخدات والصابون وجلبت مرتبة إسفنجية وسجاجيد صلاة من بيتنا لتوزيعها لكن بربك يا أمجد أنا أحكي لك كصديق فقط وغيري كان يتبرع بكل شئ وماهو أغلي.. الناس استشهدت من كل الطبقات ولا أحكي لك هذا ليكون مادة تباهي أو موضوع قصيدة ولا هو موضوع أصلاً.. مجرد شئ ارويه لصديق. كانت المنتقبات يغنين معنا بينما نغني كلنا ترنيمة قبطية خلف أحد المطربين أو المنشدين الأقباط.. لا أذكر منها سوي الدعاء الجميل "بارك بلادي.. بارك بلادي " نقولها وننظر إلي السماء ونقول أيضا " الله أكبر/ هلل وكبر وقول يا مصر / النصرة تكبر".
‎الطبيب الشاب عمرو أحمد نبيل شقيق زوجة صديق أخي والذي كان يشارك في مداواة الجرحي وإسعاف من يمكن إسعافه سواء بالميدان أو في مستشفي القصر العيني أفاد بأن كل الجثث التي عاينها كانت إصاباتها في مقتل ، إما الرأس أو القلب.
‎ سمعت بجواري في الميدان راجل مش ملتحي بيتكلم في محموله. كان بيقول: " أيوه يا محمد أنا هربت عشان أجي هنا." لما أنهي حديثه لاحظ أني أنظر إليه بدون خوف وأكيد بتعاطف. قال لي بتأثر " يا مدام أنت ما تعرفيش يعني إيه تُعتقلي 4 سنين ". رديت عليه: " مصر كلها كانت معتقلة ". كان الموقف ده قبل التنحي اللي حصل من يومين. أما المشمع البلاستيك فقد نزلت لتسليمه ظهراً قبل التنحي بعدما قدمته خادمتنا لأحد الترزية لتقسيمه إلي أمتار بأحجام معينة. كانت الأمطار قد بدأت وخفت وكنت أبكي لأمي خوفا من أن يمرض المتظاهرون أو ينصرف بعضهم فقالت لي مطمئنة وقتها: "مين عارف؟ المطر خير "..
‎لفت نظري كل مرة كنت أنزل للميدان وجود " بؤر " لم اكن أري من بداخلها إلا لو حمله بعض الشباب.. لكن الحلقات البشرية المتعاظمة حول المركز ورفع الموبايلات إلي أعلي للتسجيل والشعر الذي كنت أسمعه حين أقترب من البؤرة كم كان يطمئنني ويغضبني.. كيف لكل هذه المواهب المجهولة المدفونة لمن لا نعرفهم.. لكل هذا الشعب الفذ.. أن يحكمه واحد مثل مبارك والحزب الوطني كل هذه السنوات؟
‎ أطعمني شاب صغير مراهق علي نفقته علبة كشري ذات يوم ونحن علي الرصيف بالميدان قبل التنحي. كان من الشرابية وحكي عن أن بعض عناصر الوطني كانت توقع بين شباب الأحياء الشعبية لإثارة حرب أهلية علي ما يبدو وقال لي أنهم لولا أنه ورفاقه يعرفون أسماء العديد من شباب المناطق الشعبية المجاورة أو يسمعون بما يحدث داخلها لانطلت عليهم الخدعة بل كانوا يحكون لهم أنهم من الأفضل لو ذهبوا لكباريه أو خمارة ( حسب كلام الشاب الصغير ) ولا يذهبوا لذلك الميدان !!!!.
‎ يوم أطعمني المراهق الشعبي الصغير كان اليوم الوحيد الذي أكلت فيه في الميدان وكان معي ما يربو علي المئة جنيه صباح ذلك اليوم أنفقتها كما يعلم الله وبقي معي جنيهان لم يكفيا زجاجة ماء صغيرة وكيس بسكوت وواحد بسكوت"بيمبو" فإذا بالمبلغ النكتة لا يكفي طبعا سوي لزجاجة المياه الصغيرة التي شربت منها " بق" واحد قبل ذلك بساعة ثم أعطيتها للشاب الذي اطعمني.. شرب ثم أعطاني فشربت وعدت أعطيها له منحة لا ترد ليستفيد أيضاً ويملأها وهو ما فعله.
‎رأيت راجل بسيط بدا كناساً يجاوركل البنات والشباب الذين ينظفون.. كان رقيق الحال وهو يجرجر كيس قمامة أسود عملاق ( قبل التنحي ) ويقول مطالباً بالقمامة: " مبارك زبالة.. زبالة مبارك ". يا للضحكة الصحية غير الخائفة التي منحنا إياها وسط ركام الحزن. كذلك رأيت شابا وسط الزحام يجر كلبين من مقودهما. علي ظهر واحد يمكنك أن تقرأ ورقة عليها اسم مبارك وعلي ظهر الكلب الثاني ورقة عليها اسم زوجته. الناس كانت تضحك.
‎سمعت في يوم وأنا في التحرير قبل التنحي راجل قريب مني بيبحث عن مكان نظيف وطاهر للصلاة وللحق كانت رائحة البول هائلة لعدم وجود حمامات ومراحيض. تحت بوستر عملاق للشهيد مصطفي الصاوي كان مربوطا بين أعمدة الكهرباء والشجر في الميدان ناحية باب اللوق.. البوستر الذي أبكاني مرة بابتسامة صاحبه مفرطة البراءة والذي شاهدت لاحقاً فيلماً توثيقيا عنه كان فوق رأس الرجل مرتفعا. سمعت من يرد علي الرجل الذي يريد الصلاة وتقلقه رائحة البول في منطقة شهدت أكبر عدد من شهداء ثورتنا. الشاب اللي رد عليه قال له: ده أطهر مكان تصلي فيه.
‎هناك رجعت أسمع تاني أغاني عبد الحليم الوطنية " صورة، صورة ، صورة ، كلنا كده عايزين صورة " التي كانت في أذني من ركام الستينات وذكريات طفولتي البعيدة الحلوة التي عادت لها الطراوة والدفا معا ونحن نعيد معا.. كل من يحفظ تلك الأغاني وهي تنطلق من الإستيريوهات ومكبرات الصوت العملاقة بالميدان.. نغني.. ننظر في وجوه بعضنا البعض بفرحة ممتلئة جديدة نستغربها وكانت مسروقة منا لأعمار..حتي الأجيال الجديدة لم تكن تحفظ النشيد الوطني ونحن نستعيده معهم ونستعيد بلدنا من سنوات البغي والظلم والقهر والفساد والذل وكل صور الانحطاط وفحش العدوان علي كل معني جميل أو شئ نبيل. كنا وزميلات لي بجريدتي الجمهورية نتعرض للتشكك من جانب الفتيات اللواتي تقمن بتفتيش السيدات في اللجان الشعبية عند مداخل الميدان. أقدم بطاقتي الصحفية فتري البنت المشرفة اسم الجريدة فتريد منعي من دخول الميدان.. أي والله ومرة سألتني إحداهن عند مدخل الميدان " حتقولي الحقيقة؟".. كنت في نظرهن مذنبة بسبب ارتكابات ومقالات لرؤساء تحرير لطالما منعوني عن الكتابة مثل مانشيت " شهيد البانجو " لرئيس التحرير محمد علي إبراهيم قبل الثورة.
‎كم بكيت يوم ما نشيت الجريدة التي أعمل بها.. مانشيت »شهيد البانجو« بغيظ وانا كنت وحدي في توقيت مبكر في مكتب الأدب بالجريدة. دفعت بالعدد إلي سلة المهملات اسفل المكتب وأنا أدعو الله.
‎ .. أتذكر أني مرة قابلت صدفة أم الشهيد خالد سعيد في الميدان وسلمت عليها وقبلتها ودون أن تعرفني حكيت لها أني كتبت عن ابنها قبل الثورة. رأيت دهشة جميلة خاطفة علي وجهها وكانت تسألني فين ولكن الزحام حال بيني وبينها.
‎نسيت أقول أن ما أحسسته كانت زميلاتي تحكينه لي أيضا.. كنا ننزل التحرير ورغم الجوع والعطش والإعياء نعود بيوتنا ونحن شكلنا أصغر سناً !.. لم أكن لأصدق لولا أن رأيت ضحكتي المنسية تعود وقالت زميلتي فاطمة يوسف بجريدة الجمهورية: " ده علاج نفسي. احنا نتعالج نفسيا والله ".. كانت فاطمة تنزل مع بناتها وكانت خالتي الجدة المسنة مريضة السكر والتي تحقن نفسها بالإنسولين عدة مرات في اليوم تنزل في ميادين الإسماعيلية.
‎في يوم سرت في التحرير إشاعة غير صحيحة عن تنحي مبارك قبل تنحيه.. بدأت أحضن الشباب المراهق الصغير ويحضنوني ويقفزون بطفولة وأحضن البنات.. ثم عرفنا أن الخبر مغلوط.
‎ كان العلم حولي أمتارا وكيلومترات من البهجة الملتمعة تحته رؤوس من وضعوه أعلي رؤوسهم كما هو مكانه فعلا.. وكل من مجموعات أو مجاميع الشباب تهتف بشعار ثم يتغير ونحن نردد خلفهم " احنا شباب الإنترنت، احنا شباب الواد والبت " " دلعو يا دلعو.. ومبارك شعبه خلعه / ومبارك شعبه ذله ".. قيلت حتي قبل التنحي أو بوادره و" أمن الدولة يا أمن الدولة.. أمن الدولة كلاب الدولة.. فين الأمن وفين الدولة " وهذه الأخيرة كنا لسنوات نهتف بها علي سلم نقابتنا.. ومؤخراً " يا شهيد نام وارتاح واحنا نواصل الكفاح.. يا شهيد نام واتهني واستنانا علي باب الجنة..حسني في نار وأنت في جنة ". وأيضاً " عايز حقي. عايز حقي. مبارك سرقني. مبارك دبحني ". رفعنا إيدينا أنا وأخي متعانقة الكفوف لأعلي " إيد واحدة.. إيد واحدة ". بكيت بانهيار من كثرة وجوه الشهداء.. وجوه جديدة كل مرة وقبل التنحي كنت أريد أن أقتل ذلك الرئيس الذي لم نختره ويستحل أموالنا ودماءنا. يهرع الناس ناحيتي لإعطائي بعض المناديل لأجفف دموعي وهم يسألون إذا ما كنت فقدت شهيداً أو تعرضت لإصابة وكنت أوضح أن حزني علي كل شهيد والثار ثارنا كلنا ولن نترك ثارنا كما قلت لإحدي المراسلات الأجنبيات وهي تسألني.
‎ البعض حمل لافتات عليها عبارات تعبر عن هذا الشعب العظيم وطرافته " امشي بقي كفاية تناحة يا تنح " أو " ارحل مراتي وحشتني " أو " ارحل عايز أقيد بنتي في دفتر المواليد " أو " ارحل بقي عايز اروح الحمام " "ارحل بقي إيدي وجعتني " بينما البعض كان يحمل صور شهدائه أو أسمائهم أو لافتة قالت " مرتبي = نص مرتب جزمة وزير " وبعض المدرسات أتين مع أطفالهن أو مع بعض التلاميذ وكان الأطفال يرسمون بالألوان المائية علي اللافتات أو علي الأرض مع الخطاطين عبارات عملاقة من نوع "ارحل يا ظالم" وأيضا صورا أرضية عملاقة لمصر ورمز السلام غصن الزيتون أو علي جداريات متقنة عمودية ويوقع عليها الناس بأسمائهم... شفت هناك تفكيك الجريمة المنظمة اللي تواصلت علي مدي عصور.. مش بس التلاتين سنة بتوع الكلب الراحل أو اللي باتمني محاكمته وإعدامه كما صرنا نهتف مع كل شهيد جديد. قبّلت يد أب أحد الشهداء.. رجل عجوز من كفر الشيخ يرتدي جلبابا لم يكتب اسم ابنه علي اليافطة بيده واكتفي باسم أو صفة " أبو الشهيد " وناقشته في أهمية وضع أو كتابة اسم ابنه لنقوم بالتصوير ثم نضع هذا في مواقع أو علي الفيسبوك. رد العجوز في لحظة وهو يسر لي باسم الشهيد: اسمه محمد إبراهيم الجندي". عندما أصررت عليه بأن يضع الاسم علي اللافتة قال بهدوء: " أنا عارف اللي قتله وحاخد تاره ". قبلت يده وطبطبت علي ذراعه وأنا أدعو له بالصبر وانصرفت.
‎آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه يا أمجد.. جوايا كتير قوي.
‎ ولسه من 3 أيام شفت غريق بالنيل أمام الشيراتون هنا وفكرت لما لا يكون مقتولا تم رميه في النيل خاصة مع الإجرام الذي تكشف والسجون التي ما زال يتم اقتحامها وتهريب من فيها من المجرمين مثلما حدث بسجن المرج أمس.. الأذناب وفلول النظام المجرم مازالت مندسة ومختبئة بيننا تتحين الفرص وتقوم بتخليص " ثاراتها" مع الشعب المنتصر وقابلت بالمترو منذ لحظات شابة ( رضوي ) حكت لي حيثيات استشهاد أستاذ تصوير بكلية التربية الفنية هو الشهيد أحمد بسيوني الأب لطفلين وكانت مراته حاملاً وكنت التقطت صورة لبوستر عليه وجه الشهيد من أيام .
‎أحمد بسيوني هو الشهيد الذي كان يصور بكاميرته كمحترف مشهد قتل أحد القناصة لمواطن. فلما رأي القناص أن الشهيد بسيوني شاهده وصوره انتبه. تحكي " رضوي " التطبيقية التي تم تعيينها منذ ما يقرب من الشهر أن أحمد بسيوني قال لمن حوله " حاجيبه " واتجه بكاميرته إلي القناص بسلاحه.
‎"واجه قاتله وشافه. وقف قصاده ". كانت كلمات رضوي التي ليست قريبة الشهيد. أطلق عليه القناص رصاصة استقرت قرب القلب بحسب رضوي وكان أن جري الشباب ليساعدوه فنهض قائلاً " مفيش حاجه " وهو ينزف ورأي الشباب حوله القناص يعطي أمراً باللاسلكي فإذا بعربة أو مدرعة شرطة تأتي عليه علي الشهيد فوراً وتدهسه لتكمل وتضمن قتله وقد جري الشباب من حوله. سألت " رضوي": " هل استطاع أحد إنقاذ الكاميرا بما فيها من صور؟ ". قالت: " لا أعرف ".
‎ وصديق شهيد آخر هو إسلام بكير الذي ما زالت خطيبته شبه ذاهلة علي سريره ولا تصدق بل تنتظر عودته وحكي لي صديقه بالميدان كيف كان الشهيد إذا تخاصما لا يصبر لليوم التالي علي ذلك بل يذهب نفس الليلة ليصالحه وكيف أصيب الشهيد إسلام برصاصة مطاطية لكنه نزل الميدان اليوم التالي ليردوه قتيلا بما يقرب من 11 رصاصة كل منها في مقتل كدأب القناصة المحترفين....الحكايات لا تنتهي.
‎قابلت أصدقاء الشهيد محمد السعيد وقمت بتصوير لافتة كرتون بسيطة يحملها شقيق الشهيد" هيثم " الذي كان سيتزوج قريباً. اسم الشهيد علي جزء من علبة كرتونية مهترئة.
‎حول علم مصر الممتد طويلاً علي الأرض ولا أحد يدوس أو يدهس أو يطأ بقدمه عليه رغم شدة الزحام تجمع بعض الملتحين وأعضاء الجماعة السلفية وبجوارهم صبي أو فتي بدأ مراهقته. كان شكله يبدو ، لو شاهدته في ظروف أخري ، كمتشرد أو طفل شوارع. إنه " عماد " شقيق الشهيد " عمر أحمد سليمان". كتب عماد اسم شقيقه علي العلم بقلم فلوماستر أسود مع وعد الثأر له. "عماد " كان من الممكن أن يكون في الجانب الآخر الذي يتم تجنيده ورشوته بوجبة وبعض الجنيهات للهتاف ضد من يطلبون حقوقه هو وأمثاله لكن فطرته وشعوره بالظلم كان طبيعيا. حكي لي عماد أن شقيقه الشهيد " عمر" هو الذي نزل به للمظاهرات ولم يكن عماد يريد النزول. اتجه " عمر " الشهيد يوم 28 يناير ناحية مبني وزارة الداخلية في الشارع المتفرع من ميدان التحرير الكائنة به الوزارة. استشهد " عمر " بطلق ناري من أحد قناصة وزارة الداخلية في جبينه بين العينين تماماً كما أشار شقيقه عماد إلي رأسه وهو يحدثني. يقول عماد " حد حيرجعلي أخويا؟ ! ". عماد ، الذي تكلم إلي وسائل الإعلام الأجنبية عبر ترجمتي ، ظل مقيماً في الميدان بل أنه عاد إليه بعد دفن شقيقه.
‎عرفت من صديق الشهيد " أمير " ( قرأت اسم أمير لاحقاً في جريدة الأهرام بين الشهداء. ربما يكون هو أمير محمد عبده ) أنهم ظلوا يبحثون عنه 4 أيام ثم وجدوه في ثلاجة القصر العيني. قمت بتعزية شابة مصرية لا ترتدي الأسود في استشهاد أخيها , في ميدان التحرير بعدما قرأت اللافتة التي تحملها المكلومة.
‎قابلت صديق الشهيد المحامي " محمد علي عيد ". كان الشهيد لا يعمل وعمره 30 سنة وكانت تلك المرة التي نزل واستشهد فيها - بحسب كلام صديقه هي المرة الأولي له في مظاهرة.
‎أيضاً قمت بتصوير صور وبوسترات العديد جداً من الشهداء والشهيدات بالموبايل عدا الصور التي التقطتها والأمن المركزي يهجم علينا بالغازات المسيلة للدموع والرصاص المطاطي والخرطوش الذي ملأ أجسام الشباب أمامي كالخرز وسمعنا أن الغازات كانت ككل شئ في مصر ، منتهية الصلاحية ، وسمعنا أن هناك رصاصاً انشطارياً ربما يكون بعض ما رأيته يوم 28 يناير هو كذلك وأنا لا أعرف في " أنواع " الرصاص لكن عرفنا حكاية الرصاص الحي سريعاً بينما كنا نوالي النزول للميدان. فمثلا يوم 29 يناير في الميدان وبجوار شاب ثقيل اللسان قال لي أنه ترك بيته إلي الميدان تاركاً عائلته تظن أنه اختفي في مكان ما ليمارس تعاطي المخدرات.. كان يعاملني بشكل أحسست معه بالأذي من شدة ما تعود أن يعامل بي طبقتي من احترام يتحول في ظروف أخري لمهانة.. لم يكن يهين نفسه الآن لكن المعاملة كلها.. خاصة وقد كان بالجوار رجل عجوز قال أن مهنته المحاماة أو كانت المحاماة وسمح لي إن أردت أن أسند جسمي علي موتوسيكله الخاص .. هذه المعاملة التي ذكرتني بقبح ما ثرنا ضده.. الطبقية وعدم تكافؤ الفرص ، المحسوبية والفساد والبطالة.. كلها لم يخترقها سوي تساؤل متشكك من الرجل المحامي العجوز حين سمعت صوت رصاص أو ما بدا كأعيرة نارية.. صوت عنيف جدا قادم من شارع محمد محمود فلما سألته أجاب (الرجل المحامي): " إيه صوت الرصاص الحي.. مش عارفاه؟؟!".. كان هذا بعدما عرفا أني أعمل بجريدة الجمهورية.. نبرة الشك ونظرة عين الرجل المحامي كانت جارحة متهِمة.
‎محافظة الجيزة قامت سريعاً بطلاء العديد من الأسوار المعدنية في شارع التحرير بالدقي حتي قبل التنحي والتي كنت قد صورت عليها تعبيرات تنادي بسقوط النظام أو تصف حسني مبارك وشلته ب " الحراميه ".
‎أحد الأجانب من السياح كان في طريقي وأنا ذاهبة إلي ميدان التحريرصباح السبت 29 يناير وحدثني مشيراً إلي سيدة شعبية بدينة تدير مجموعة من أطفال الشوارع نصف عرايا ، أحدهم قدمه مجروحة ملوثة تماما وقال لي السائح " إن الطفل يحتاج للعلاج ". بدأ السائح الشاب يبكي وأنا أحكي له ما حدث لنا اليوم السابق وهو الجمعة 28 يناير في نفس المكان. قال لي السائح:" أنا اشعر بالأسف والشفقة عليكم ". قلت له " تمنَ لنا أن ننتصر. نحن لطالما اشفقنا علي أنفسنا ولكن ليس بعد الآن. تعاطف معنا فقط ". ظل السائح يدعو لنا بالنصر والتوفيق.
‎ كانت عربات الأمن المركزي بجوار السيدة والأطفال الذين ذكرتهم . كانت السيدة تأمرهم ب " شفط " البنزين بخرطوم بدائي من مدرعة الأمن المركزي في جراكن أمام قسم شرطة الدقي. قمت بالتحدث إليها مستفسرة وأجابت ببجاحة أنها تريد إشعال النار في القسم لتحرير بعض أقاربها بداخله. لم أصدقها فقد كانت تبدو كمن تريد بيع البنزين. اقتربت من ضابط شاب بالأمن المركزي علي بعد مترين من السيدة التي تفعل هذا وتقوم بتفريغ البنزين من مدرعة زملائهم وقلت له: " لو سمحت المفروض أن أنتو أعداءنا لكن عايزة اقولك علي حاجة شفتها ". أجاب: " آه وأنا بأه المفروض أحس بإيه وأنتي بتقولي " أعداءنا "؟!.
‎ده كان يوم 29 يناير وفاكراه كويس. يوم سبت يومها شفت الممثلة جيهان فاضل في الدقي في سيارتها. قلت للضابط الشاب " اعذرني بس أنا وقعت من الغاز إمبارح هنا وأنا صحفية. عايزة أحكيلك علي الست المشبوهة اللي شكلها قواده أو مخيفة وهي مجندة أطفال شوارع يسحبولها بنزين من المدرعة دي " وأشرت بيدي إلي ما كنت أحكيه. قلت له " أنا باقولك عن كلامها أنها عايزة تحرق القسم ( قسم شرطة الدقي ) عشان يبقي فيه حد عرف ". شكرني واتجهت إلي ميدان التحرير مشياً طبعاً.
‎لعلك رأيت في الفضائيات المسجد الذي تم تحويله لمستشفي ميداني فواصل المجرمون ضربه بالقنابل المسيلة للدموع والغازات إياها التي أسقطونا بها يوم 28 يناير حين سقطت بالفعل نتيجة الغاز فخرج إمام المسجد- المستشفي يرجوهم أن يحترموا حرمة المكان وخاصة أن هناك جثث بالداخل لم يتم إخراجها منه بعد.. يعني لو في حرب مع إسرائيل لا نصدق أنها كانت ستفعل بنا ما هو أكثر أو أجرم !!!
‎سامحني لا أستطيع التجاوب مع أي شئ آخر أو اية حالة أخري ولفترة
‎حماك الله وأولادك الذين من المحتمل جدا أن أكون رايتهم ورأوني دون أن نعرف سوي أننا جميعا لم نعد نحتمل الظلم والذل والفساد
‎محبتي واحترامي بل كل الإعزاز يا أمجد
‎غادة
‎ 18 فبراير 2011
‎ كلما أتذكر بشاعة ما
‎حبيبتي دينا
‎أكتب لك في عجالة. كما تعلمين أن فاروق ابن أسامة كان مقيماً في التحرير. كنت أطمئن من ميرفت علي فاروق وقلبي مليان رعب. الحمد لله.. عارفه يا دينا أني كنت قدمت أشعار لشاعرين قبل ثورتنا في مجلة " أدب ونقد " أحدهما من حركة" شباب من أجل العدالة والحرية" وهو أحمد دومه وآخر ليس في أي تنظيم أو حركة لسه يادوب متخرج طازه وكان قد حكي لي ذات أمسية أي أحمد سلامة أنه يقول لدومه وأصحابه " احنا شباب في الشكل لكن عواجيز ". لم أستغرب فهو رأي أو شعور لطالما سمعته من شباب بلدي جيل ورا جيل. لم يكن في تلك الأمسية اللي حضرت لهم فيها قبل الثورة بشهور أحد من المثقفين وإنما فقط هذين الشابين أو الأحمدين وأصحابهم وحبيباتهم من الجامعة في مركز الدراسات الإشتراكية بوسط البلد . كانت المرة الثانية التي أسمع فيها شعر أحمد دومه والأولي لسماعي شعر أحمد سلامة وكنت أعرف أن دومه معتقل هذه المرة في أحداث ثورة 25 يناير وتأكدت من هذا لما ذكرت أهداف سويف الكاتبة اسمه علي البي بي سي العربية . كان تعارفي به علي سلم نقابة الصحفيين جاء منذ انفجار أزمة جريدة الدستور الأصلية وتضامني مع المتضامنين ( لم أشاهد أحدا يتضامن في ذلك الوقت من الصحف القومية المنحطة ) ويومها سلمت علي د.سكينة فؤاد وجورج إسحق الخ. المهم أن سؤالي عن أحمد دومه جعلني أعرف أنه بعد انتهاء المظاهرات الحمد لله كان حيا وأفرج عنه لكن حتي أحمد سلامة الذي لم يكن في أي تنظيم قال لي أنه اعتقلوه هو ومجموعة لا بأس بها من مركز "هشام مبارك " وقاموا بربط يديه جامد جدا بالبلاستيك إياه وهات يا شتايم وإذلال وضرب حتي أنه بكي وصرخ يقول لهم ارحموني مش قادر لأني عرفت منه في المكالمة أن عنده ضغط وأيضا عنده مرض اسمه " متلازمة بهجت " بهجت سيندروم.. ويزيد أعراضه في الشتا فإذا بهم يهددونه بأن يقتلوه بالرصاص وكانوا من الشرطة العسكرية.. بعد ضرب البلطجية.
‎ المهم ظل أحمد سلامه في المعتقل لثلاثة أيام لأنه بلا جريمة وليس عضوا في أي حاجة. جعلوهم يناموا علي الأرض تحت السماء المكشوفة بلا غطاء ليل مع نهار ولا دواء للضغط أو غيره بالطبع وساءت حالته كما حكي لي تليفونيا ، وكان أن طلب منهم قتله!. وجد أحمد سلامه معه في المعتقل- والكلام له ما زال- طفلين في عمر15 سنة أحدهما قال له أن البلطجية بتوع السلطة أو الحزب الوطني أعطوه 150جنيه ومطواة أو سكين لينزل مظاهرات التأييد لمبارك فنزل واعترف أنه هتف والأبشع أنه اعترف بقتله لطفل آخر عنده 13 سنة .
‎شاهدت في ميدان التحريرأكثر من مرة السجين السابق الصحفي مجدي أحمد حسين الذي هرب من السجن وكان يتجول وسطنا بالتحرير. ذهبت إليه أهنئه بالحرية ومعتذرة عن جريدتي الوصمة بسياساتها التي تدعو للاحتقار من فرط النفاق للسلطة السابقة. قلت للأستاذ مجدي أحمد حسين:" مبروك الحرية. أنا من جرنان مشبوه الجمهورية لكن كانوا رفدوني مرة ". أجاب الرجل بابتسامة عصبية لكن فرحة لم تغادره وهو في الميدان " دلوقت هما إن شاء الله اللي حيترفدوا ". كان ده قبل التنحي فاكرة كويس.
‎ طول ما أنا ماشية في ميدان التحرير قبل التنحي باخبط في أهالي وأصدقاء وإخوات وأعمام وأبناء شهداء.. تار في كل بيت مصري عدا المختفين والمخطوفين وكان فيه كلام منسوب للمذيع طارق علام في بداية الثورة- وعلام أصلا ضابط شرطة- أن بجوار مديرية أمن الجيزة حدثت من ستين إلي سبعين حالة اغتصاب ، لا نعلم هل هذا لترويع الناس لكي لا ينزلوا الشارع أم حقيقة وهو أمر محتمل جدا بسبب فتح السجون الذي لم ينفذه أو قاومه الشهيد النظيف الوحيد في الداخلية اللواء محمد البطران. وكان الإخوان هم من قالوا هذا عن أن الرجل شريف ورفض تنفيذ الجريمة فقتله البلطجية المؤتمرين بأمر الحبيب العادلي ولذا كانت بوسترات الشهيد اللواء في سجن الفيوم موجودة بجوار بوسترات الشهداء في الميدان الذي كلما ذهبت إليه رأيت المزيد من أسماء الشهداء و صورهم حتي أني انفجرت مرة في عميد أو رتبة كبيرة في الجيش قبل تنحي المجرم الحرامي والشباب يرصون بوسترات صور الشهداء والشهيدات علي الرصيف أمامه وبعضها يتم رفعه بالحبال وربطها علي الأعمدة.. صرخت: " حررررام !!!! كل الدم ده كان ممكن يتوفر".. وظللت أصرخ " أنتو كان ممكن في يوم واحد تروحوا تجيبوه.. أنتو جيش بتدافعوا عن الشعب ولا عن واحد؟" , وأنا أمام الرجل الرتبة كبير السن الجالس علي كرسي بلاستيك أمام مبني وزارة الخارجية القديم.. لكن كانت حالتي هيستيرية وحزني عميق وقلت لأحد جنود جيشنا قبل التنحي مرة وأنا أخرج من الميدان " حرام " فرد مؤكداً كلامي بنفس كلمتي " حرام " ونهض مبتعداً بسرعة.
‎ كما قلت لك أنا ذهبت 7 أيام للتحرير شاملة يوم الجمعة 28 يناير قبل تدخل الجيش.
‎عندما كنت أعود البيت لا أشعر بالجوع حتي أن تمارا زوجة أخي قالت لي بعد تنحي المجرم أني خسيت وفقدت وزن . لم أكن أشعر بهذا ولا كنت أنام جيدا بل بالمهدئ لأيام لكن ملابس لي كنت لا أنجح في إغلاقها تمكنت من ذلك بعدها فصدقتها.
‎لاحقا تعرفت علي باسم شرف وكان يحكي لي كيف مات بعض أصحابه علي يده في الميادين.
‎الأهوال لا حصر لها ولا أستطيع تذكر كل شئ. لكن أتذكر جيدا في محطة مترو الدقي بعد التنحي وجدنا الشعب العظيم وشبابه الأنبل وضع أو ألضق ورقاً ( واضح أنه تم إعداده علي أجهزة الكمبيوتر في بيوت الناس ) عليها هبارة: " خلاص بقي ما دام بلدنا رجعت لنا.. ننضفها " للحث علي النظافة وعدم إلقاء مخلفات وفي الخارج علي الأرض بدأت أري سلال مهملات بلاستيكية تم ربطها بأسلاك بطريقة بدائية علي أعمدة الإنارة وبداخلها أكياس بلاستيك... هي التي اختفت بعد ذك للأسف. الناس كانت مفعمة بروح جديدة حتي أن رجلا يعمل في محل فرعي بشارع طلعت حرب صار يقول لي:" الأول كنت بافكر أهاجر عشان ولادي وعشان الفرص...دلوقت لأ ".
‎ما قد أتذكره كما تقترحين- سأحاول تدوينه ولو في شكل رسائل قد تصلح كيوميات أو مقالة لا أدري أين قد أنشرها. لم يكن هذا هدفي أصلا ً لكن أخي والشاعر أمجد ريان يقولان أنها مسئوليتي وواجبي لولا أني لا أشعر أن معي مادة تستحق وكلها حكايات عن ناس وشهود عيان أو أقارب شهداء. الصور الفظيعة الكثيرة علي موبايلي ليست انفرادا بل علي موبايلات غيري من المواطنين أراهم ونحن نتزاحم علي البوستر أو اللافتة لتصويرها.
‎كيف أنت وطنط وياسر وزوجته وأولاده؟. كيف كانت كندا مبدئياً؟ هل تزحزحت حالتك النفسية قليلاً عما كانت عليه من قلق ورهبة واكتئاب؟ ما شعورك تجاه مصر الآن؟
‎احنا فرحانين جدا أن طنط هدي كانت عنكم ومعاكم أثناء الثورة. طبعا كنا مستحيل نتركها وحدها في بيتها بس أكيد قلبكم كان حيفضل يترعش لغاية ما الأمور تهدأ.
‎لما يسمح وقتك ويكون لك مزاج حيسعدني كلمة مكتوبة منك
‎كل المحبة والشوق
‎آه بالحق فيه موقع علي الفيسبوك اسمه »طريق النجاة« فيه شهادات حية لشهود عيان اتبترت أطراف لهم وكانوا المجرمين بيقتلوا الناس أمامهم واستعدوا هم أنفسهم للموت أو بالأحري لأن يتم قتلهم.. الموقع فظيع يؤدي للامتلاء والرعب الحزين وعلي اليوتيوب كذلك يوجد فيديو لمرتضي منصور من التليفزيون المصري مع عضو الوطني المذيع تامر أمين حيث بادر الأول إلي التعريض بالبنات في ميدان التحرير وما " تفعلنه مع الرجال والشباب" وأنهن يسعين للتحرش الجنسي الخ. هذا موجود إذا كتبت " مرتضي منصور يهاجم المتظاهرين بميدان التحرير". نريد في كل مؤسسة وبنك ومصنع ثورة عايزين ثورة 25 يناير داخلية كمان.. من الجذور لازم نقلع الفساد قلع. لأنه غوووووويط وعميق قوي ومستتب بحكم عفونة السنين المتراكمة ومساعدة الفاسدين والحرامية أهل الظلم لبعض.
‎كل حبي وقبلاتي للبيبهات أولاد ياسر عايزين صور !! اتفقنا؟
‎غادة نبيل
‎كنا نحلم بالثورة.
‎الثورات حلم حين تحققه الشعوب تتعلم الفرح. حين تثور أنت تدافع عن حقك في الأمل وهذا الدفاع يعني أنك حي وتريد الحياة بشروط و معانٍ تعرف أنك تستحقها وتحددها.
‎لست وحدي من تستطيع الكتابة عن ثورة 25 يناير 2011. كل من شارك بها ونزل سواء عاد حياً لبيته أو لم يعد يستطيع أن يصف الوهج الذي يشبه الحب لأول مرة.. الذي يتوه منا بقية العمر.. وتعيده لنا الثورات بصدقها وطزاجتها. هي التي تجعلنا نتعرف علي غرباء يصبحون كالأهل أكثر من بعض الأهل.. وهي مادة الفرح الخام الذي يشبه عالم الطفولة الذي كان بلا دماء ، بلا فهم حين أحببنا العالم لأننا اعتقدناه طيباً.
‎حتماً كثير من الشهداء صاروا شهداء لأنهم صدقوا هذا.. أن طفولتهم تعود إليهم وتمتد ولن يُصوب أحد ( حقاً ) رصاصه إلي صدورهم.
‎كنت كتبت " الذين ينظرون للبحر " مقالة عن مقتل الشهيد خالد سعيد وتم نشرها في جريدة الدستور الورقية أيام حكم مبارك ومقالة أخري بعدها لكن هذه الثانية تم نشرها في الدستور الإليكترونية بعد بيع جريدة الدستور وكان عنوانها " الذين يقفون بيننا وبين حب الوطن " عن تشكيل نفسية البلطجي في نظام مبارك البائد وفيها تكلمت عن وجوب التخلص من وزير الداخلية الحبيب العادلي ومن نظام تطل علينا بعض رموزه السياسية في أشخاص مثل هشام طلعت مصطفي كما تضامنتُ مع زملاء جريدة الدستور الأصلية وقتها فيما تعرضت له جريدتهم بما رأيناه " مؤامرة " من الحكم عليها لموقفها شديد المعارضة. كذلك وقفنا نؤيد حق الصحفيات والمحاميات اللواتي تم التحرش بهن من قبل أمن الدولة علي سلم نقابتنا من أعوام.
‎علي مدي سنوات وقفنا- الصحفيون خاصة علي سلم نقابتهم للمطالبة بإقالة حبيب العادلي و التصدي لجهاز أمن الدولة.. شاركنا في وقفات داعمة لغزة والعراق بسبب الاحتلال أمام مجمع التحرير. كنا نشاهد ضباط الأمن وهم يقومون ب " تصويرنا " ونحن نقوم بتصويرهم أثناء تصويرهم لنا بدورهم في محاكاة ساخرة لم يصدق أحد إلي ما قبل اندلاع الثورة بأيام بأنها ستتحول إلي واقع لا نكف فيه عن تصوير كل ما نراه بعد ذلك طيلة أيام " التعارف " والحب بين ملايين المصريين ما قبل تنحي مبارك.
‎كان هناك من " الزملاء " من يحضر أوقاتا.. إلي وقفاتنا علي سلم النقابة قبل أعوام من وقوع الثورة لسؤالي مباشرة: " وأنت هنا كمشاركة ولا لتغطية الحدث؟" بسخرية وخبث واضحين.. فأرد: زي ما تحسبها ".. فيعاود التعليق: " بس أنا حابلغ الريس " قاصدا ب " الريس " رئيس تحرير الجريدة وقتها سمير رجب والذي كان يرأس جريدة " مايو " الجريدة الناطقة باسم الحزب الوطني الحاكم والتي كان مقرها بكل اسف جريدتنا أيضاً أي بجريدة الجمهورية.
‎ما أكتبه هنا لم يحدث بقصد أن يكون يوميات.. لم يكن بي قدرة ولا تركيز علي تدوين أي شيء أثناء مشاركتي في الثورة التي أراها تمتد لسنوات.. كنت قد شاركت في وقفة نقابة الصحفيين يوم 27 يناير ثم مسيرة الجماهير التي حاولت الوصول إلي ميدان التحرير يوم الجمعة 28 يناير 2011 و ما تلا ذلك من أيام سبعة نزلتها لميدان التحرير وأنا أصرخ مع الصارخين والصارخات: " اِرحل "
‎أصل هذه " اليوميات " هو خطابات ( إيميلات ) إليكترونية متبادلة بيني وبين بعض الأقارب ، وبيني وبين شاعر صديق كان قد بدأ مراسلتي وقتها و هو الشاعر المصري أمجد ريان. كانت ابنة الخالة خارج البلاد في قارة أخري وكان ابن الخال الشهيد في مسقط رأسه بورسعيد كما كان الشاعر أمجد ريان في مصر لكن ثلاثتهم لم يتمكنوا من النزول والمشاركة في أحداث ثورة 25 يناير 2011 لظروف تخص كل منهم ليس أقلها الظروف الصحية.أولاد الشاعر أمجد نزلوا وشاركوا حتي أني كتبت له: " ربما أكون قابلتهم أو قابلوني دون أن نعرف بعضنا البعض ". كما أن بعض " اليوميات " طويلة أكثر من غيرها لكونها تضم عددا من الإيميلات التي استبقيت أو نشرت هنا منها ما أرسلته أنا كرد علي الرسالة ثم رد علي الرد وهكذا. وقد يبدو من بعضها كما في مستهل رسالة للشاعر أمجد ريان أني أِشير إلي قراءة شيء ما.. كان أمجد يرسل لي شعراً جديداً كان يكتبه تلك الفترة ويطلب رأيي المتواضع فيه وكان هذا يضطرني للإجابة رغم أني كنت أوضح أن مزاجي وحالتي النفسية والبدنية معاكسة تماما للشعر وحدها. لكني احتفظت بعناوين بعض تلك الرسائل الإليكترونية مثل " الأمل والألم " ، و" بافكر آخد الجنسية التونسية " ( يلاحظ أن تاريخ الرسالة المذكورة بهذا العنوان كان قبل اندلاع شرارة ثورة يناير 2011 بيوم ) و" المتاريس " والتي أظنها تحولت لقصيدة لدي أمجد حيث كتب يعلق علي ذكري للمتاريس ال " نوفي " الجديدة كما وصفتها له
‎لهؤلاء الثلاثة: معتز فاروق السيد ابن خالي شهيد حرب أكتوبر 1973 ولابنة خالتي المهاجرة دينا القاضي ، وللشاعر أمجد ريان تدين هذه المراسلات " الجبرية " التي كانت تطالبني بسرد ما حدث حين نزلنا للثورة ضد حكم مبارك ونظراً لحق كل طرف في خصوصيته قام أخي باستبعاد رسائلهم والاحتفاظ بإجاباتي عليهم ما جعل الحصيلة تبدو كيوميات لمشاركتي المتواضعة التي أفخر بها في ثورة 25 يناير منذ ما قبل نزول الجيش المصري لميدان التحرير وميادين مصر.
‎ 24 يناير 2011
‎ بافكر آخد الجنسية التونسية
‎معتز الغالي
‎أحبك وأحب مصر بلدي وأحب كل حاجة جديرة بالحب والاحترام.. الخير والحق والجمال
‎امتي مصر تبقي " تونس"؟ الكل بيسأل بدل ما ينزلوا الشارع !
‎باحلم بأن وطني يرجع لي. النهارده شفت تاني كلب الحراسة الوولف الكبير ده وعارفه اسمه بالإنجليزي ( جيرمان شيبرد ) رجعوه تاني (حجمه أقرب للأسد) لمحطة مترو السادات ده غير عربات الأمن المركزي المصفوفة في مربع منطقة أحزاب وسط البلد بميدان طلعت حرب من أيام ولعلها من أسبوع لدرجة أني رحت سألت الضابط في محطة مترو السادات ( ميدان التحرير فوق الأرض) : " لو سمحت عندي سؤال. الكلب ده بيفكرني بكلاب استعملوها الأمريكان في العراق لتخويف وإرعاب المسجونين زي كل الفضائيات والمجلات السياسية ما كشفت لنا وقتها أنا فاكره الصور ".. قام الضابط الوسيم المعجب بنفسه أول حاجه قالها " حضرتك بتشتغلي إيه؟" فما قلتش وكررت مش مهم ".. مواطنة مصرية" وفهم مهنتي وظل يدافع عن منطق البطش (بدون الاعتراف بيه) مدللا بأن " الطبنجة بتاعته حسب استخدامها , وإن الكلب حيوان أليف في البيوت وليه ما ارحش أسلم عليه ( علي الكلب) اللي نص ارتفاع جسمه يغطي أغلب جسمي وأنا واقفه.
‎ سألته بعد ما ادعي أن الكلب عشان " شم المتفجرات": " يعني لو فيه مظاهرة هنا بكره وشاورت بإيدي علي المساحة أمامنا في المترو.. لو فيه مظاهرة مش حيهاجم أو يُستخدم في الهجوم علينا؟ " وطبعا كنت عارفة أني حاسمع الكذب اللي اتدربوا علي النطق بل التفكير بيه حتي بينهم وبين نفسهم. في الآخر شكرته بأدب علي صبره مع أني ما اخدتش من وقته دقيقة (كان علي وجهه ابتسامة مدهوشة) ومشيت بحزني لأني كنت شفت قبل كده هذا الكلب (كلب السادات زي ما أسميته) في نفس المكان من شهور وذكرته لماما وبعض زملائي في "أدب ونقد" وعارفه زي ما كل الناس عارفه انهم نزلوه تاني في هذه المحطة الرئيسية للترويع والترهيب.. يعني التلويح باستخدامه للردع ووأد الفعل قبل البدء.
‎قلت لذلك الضابط :" بس هو بقه (فمه) مكشوف مش متغطي " ولم يجد إجابة رغم أن الكلب ده كان في وقت من الأوقات لفترة لم تتجاوز نصف يوم بكمامة من الأسلاك الحديدية سرعان ما خلعوه عشان نصدق إمكاناته وقدراته العدوانية.
‎ودلوقت بنسمع عن التنسيق بين السلطة الفلسطينية والإسرائيليين ضد حماس ولصالح تصفيتها وإلغاء قضية اللاجئين وتقريبا التآمر علي أهل غزة.. ومع أني مش متحمسة لحماس أو للإسلاميين في أي مكان بأتعجب باشمئزاز وحزن من عدد الخونة المتصاعد في كل الجنسيات وخصوصا في نسبتهم العالية ضمن حكام العالم العربي
‎.. وإمتي يا مصر وإزاي حتنضفي
‎تعبت وأتعبتك
‎بسلام وحب وإخلاص أتركك
‎غادة
‎ 26 يناير 2011
‎أمجد العزيز
‎النهارده ظهرا كانت محطة مترو السادات هادية لكن الاحتشاد الأمني سواء بيونيفورم أو بدونه من الشرطة إياها سواء فوق الأرض أو تحتها كتييييير جدا حتي أني رأيت متاريس جديدة " نوفي " ألوانها جديدة وهي لسه بورقها في التحرير وأمام النادي الدبلوماسي وفي ميدان طلعت حرب بشكل مستفز.
‎ سألت الضباط والجنود وأنا بادفع بايدي متراس منهم: لمين ده.. لنا؟ احنا مصريين زيكو.. وفي شارع فرعي سألت واحد مجند بيستريح داخل عربة الأمن المركزي: " لمين كل ده احنا كلنا مصريين ليه؟" أجابني بابتسامة طيبة ويد مرفوعة بعجز لأعلي " احنا ما لناش ذنب " قلت له عارفه بس أنتو بتموتوا واحنا بنموت عارفه ما لكوش ذنب ".
‎ في طريق عودتي للبيت شفت طفل فقير ب " شبشب" وملابس تدل علي أنه ابن بواب أو حد بسيط واقف قدام كشك يشتري بسكوت.. كان صغير قوي بس كان بيقول للشاب صاحب الكشك: كان فيه مظاهرات هنا في التحرير إمبارح." كان يتكلم عما عرفنا لاحقاً أنه كان الثورة .... حبيته وفرحت بلا حدود من أن طفولته حصلت علي هذه الهدية.. علي فعل بِكر صحيح وتصحيح .. فجّر همة في وشوش الناس اللي مش حاسه فيها نفس العتامة والإنسداد زي الأول. تخيل.. مش حتصدق أني من شهرين كنت باقدم 2 شعرا في عدد من أدب ونقد- واحد منهم من " شباب من أجل العدالة والحرية" وكان عنوان المساحة اللي وضعت فيها شعرهم " أوان الثورة " وده كان قبل ثورة تونس بشهر أو أكتر وغيرته لعنوان " دعوا ملايين الزهور تتفتح " بس والله حلمت ليلة تدفق الناس في التحرير أني في منطقة مواجهة للمصل واللقاح وبادعي الناس للثورة وباتكلم مع الجنود وبعدين رفعت إيديا للسما ( في الحلم ) ادعي ربنا ينصر الحق والعدل وتحصل ثورة بيضا !! ".
‎ لم أكن اشتركت في يوم 25 يناير أو عرفت تفاصيل ما حدث فيه التي عرفناها لاحقاً مثل كل المصريين.أنا طبعا ياما نزلت وشاركت في مظاهرات أو اعتصامات بس المرة دي متفائلة وحاسة الناس كمان كده.. اليأس مش أسمنتي تماما زي ما قبل تونس ولكن كم كنا نتمني أن الملايين تنزل الشارع عشان كل الحسابات تتقلب وأهي أمريكا وإنجلترا وألمانيا وفرنسا بل حتي رؤساء تحرير الصحف القومية مانشيتاتهم وكلامهم اتغير.. حتي أمثال جهاد عوده من الحزب الوطني بيتكلم بلهجة شبه خائفة في التليفزيون.
‎دلوقت السعادة اللي كنا نسيناها هي أني باشوف شباب ماسكين علم مصر.. بس مش عشان الكورة أو لعب المنتخب مع فرقة أجنبية لكن عشان مصر يعني عشان نفسهم...
‎سامحني مش قادرة أتحرر نفسياً من استحواذ الحالة دي عليا لأنها حالة مفرحة وفيها أمل ولو بعد حين.. عشان كده متشبثة بالإحساس ده وعطشانه له زي كل المصريين والمظلومين اللي زهقوا وتعبوا.
‎لا بد أن تكون بخير لأنني أريدك كذلك ولأن لسه فيه حاجات صح وجميلة في الحياة
‎غادة
‎ 2 فبراير 2011
‎ الأمل و الألم
‎معتز
‎هل يجب أن أعتب عليك أم أقلق فقط؟
‎من الصعب أن أحس بأي شئ سوي الغضب الجارف والغيظ الذي سيفجرني من بوادر الحرب الأهلية التي بدأها الخائن الذي استحل دماء المصريين وطبعا أنا شاركت في الجمعة الأولي ( 28 يناير ) حيث تم ضربنا بكل شئ وسقطت بتأثير الغاز أكثر من مرة وكنت قد تلوت الشهادتين قبل خروجي يومها من بيتنا بدون معرفة جواد الذي كان يسأل ماما وتكذب هي عليه بطلب مني لطمأنته. تركت بعض أرقام التليفونات لأمي فقالت لي " إيه يعني بتودعيني؟".
‎لم أقم بالصلاة في مسجد مصطفي محمود يومها وإنما ظللت أدعو ربي قبل المسيرة أن يغفر لي ذنوبي وكنت قبلها بيوم علي سلم نقابتنا مع المحتجين الزملاء ولأول مرة نري مواطنين شعبيين ذلك اليوم- علي سلم النقابة ينضمون إلينا رغم الكردون الأمني البشع وكنا نصرخ " سيبه.. سيبه " أو " حرية.. حرية.. حرية " ليترك الأمن أحدنا أو إحدانا بعدما أمسك به أو بها , أو ليترك من تريد من المواطنات أن تدخل. قلة قليلة تم السماح لها بالدخول. كان ضابط أمن الدولة " يقزقز" اللب ضاحكا و" يعزم" علي زميله ويضحكان وهما ينظران إلينا كإننا حيوانات في أقفاص بحديقة حيوانات أو في فقرة بالسيرك.. والحناجر تشتم مبارك وعز أكتر منه.. و" الحزب الواطي.. اللاديمقراطي ". اندست واحدة بيننا كنت سبق ورأيتها حين كنا نتضامن مع الزملاء المعتصمين بالنقابة من " الدستور" الأصلية وكانت يومها تدعي حين سألناها ، أنها من جريدة " 24 ساعة " (بتاعة المدعو سمير رجب الذي كان لا يكتب إلا ليسجد لحسني مبارك وخلق مثل مبارك كتائب من المنافقين الحرامية داخل المؤسسة.. وهوالذي كما تعلم قام برفتي أو رفدي فور حصولي علي الماجستير بإمتياز من إنجلترا وكان ينكل بكل شريف كما منعني من الكتابة بالاسم وهو ما كان رئيسي في صفحة الأدب قد بلغني به في وقت من الأوقات ). تلك البنت الغير مريحة ذات الوجه الجبسي كانت تحاول الالتصاق بي وأنا أتحدث إلي غيرها فقط لتسمع ما أقول ولا تكف عن الإستجواب وأهم حاجة عندها الأسماء ولاحظت أن محمد عبد القدوس الذي كان سبق وأعطاني رقم موبايله من قبل وأدرت ندوات لحرية الرأي معه بالنقابة يتململ في تأكيد رقم موبايله لي أمامها حينما طلبت ذلك بينما هي لا تريد الإجابة علي أي شئ وحتي اسمها حين سألتها بلطف ذات مرة أصيبت بحالة عصبية وقالت اسما سريعا جدا وتركتني حتي أني نسيت الاسم.
‎كانت تلك المدسوسة قبل الثورة قد ظهرت فجأة علي سلم النقابة بيننا ولم يتحقق أحد من إدعائها أنها في جريدة 24 ساعة لكن كانت تتعمد نشر وإشاعة أشياء محبطة تهدم بها عزيمتنا مثل القول أن من يعبر النقابة من الناس أثناء هتافنا يعتقد أننا نهتف لجمال مبارك ثم يمشي. تقول هذا وتضحك وتمضي. كان هذا يوم التضامن مع أسرة جريدة الدستور بعد الإطاحة بأغلب الشرفاء فيها وبرئيس تحريرها إبراهيم عيسي. لم تفتح فمها بكلمة أو تهتف أبدا بل تدون أشياء. ويوم الخميس 27 يناير كانت البنات يغطين وجوههن منها لما بدأت تقوم بتصويرهن والسلم شبه " فاضي" قبل مجئ الناس وانضمام المزيد من الزملاء أيضاً.. كما اظهرت أنا بالكلام المباشر بصوت مسموع لتلك المدسوسة أننا نعرف الجواسيس المدسوسين بيننا بتوع الوطني وحذرتُ الزميلة الجميلة الناشطة نور الهدي زكي منها أيضا ً ولأن الفتاة تلك كانت جاسوسة فعلاً كانت تفر من كل مكان أكون فيه أو تبتعد عني وهي تسمعني أتكلم بصوت عالي عنها للآخرين علي السلم وحتي داخل النقابة.. تبتعد ولا تتصدي أو تواجه لأن المثل يقول بوضوح " يكاد المريب يقول خذوني " . لم أستغرب. لكنها حاولت تدفع إلينا ببعض الشباب من الزملاء ليسألونا متي ننوي أن تكون مظاهرات "الجمعة" ( الذي كان 28 يناير) ولم يكن هؤلاء انتبهوا لها ولا قلنا لهم تحذيرا. تسأل عن طريق واحد طيب لا أعرف اسمه: من أي مسجد؟. قلنا " كل المساجد ".
‎يوم 28 كنا وقفنا كلنا قبل " صينية " ( دائرة ) المنطقة المقابلة لقسم شرطة الدقي وفندق شيراتون القاهرة.. الجموع هادرة والشعور تجاه الشرطة عدائي جدا حتي أن ضابطا وهو يقوم بحركة ودية مهذبة بالسماح لي بالتحرك ونحن أمام الساحة الأمامية لمسجد مصطفي محمود.. نظرت إليه وأنا أرفض وبتكشيرة وغضب هائل بداخلي.. أقصد ده وقت تحرك جموعنا بعد انتهاء صلاة الجمعة في المسجد اللي كانت أول مرة أسمع فيها خطبة لها معني. كانت عن العدل.
‎في الدائرة أمام قسم شرطة الدقي وقف الطرفان.. الشعب والشرطة. المدججون بالسلاح والعزل. المواجهة التاريخية الأزلية تتكرر. أتذكر أني يومها بلا إدعاء لبطولة قد تكون زائفة.. تقدمت وحدي تماما إلي منطقة الدائرة تلك يعني خرجت من حيز المجاميع ربما لأني شعرت أن وقفتنا أو حالة الشلل والتربص المتبادل دي حتطول.. كنت أرتدي نظارتي الشمسية لكن هيهات؟ بدأ إلقاء قنابل غاز عند قدمي. لم استطع الحركة وأنا أتعرض لما لا أعرفه للمرة الأولي في حياتي.. المجاميع كانت لسه واقفة في الخلف تبعد عني بمسافة. فجأة وجدت شاباً مراهقا لا أعرفه يمسك بيدي. كان يرتدي " تي شيرت أبيض " وشعره منكوش وعلي عينيه نظارة نظر... ليس طويلا ويمكنه أن يكون ابني... أخذني من يدي بسرعة إلي رصيف فندق الشيراتون حيث تكوم عدد ممن أصابهم الغاز مبكرا وظل يعطيني البصل الذي لم أكن أفهم أول الأمر ماذا أفعل به وبجانبي بعض المصابين من الغاز في حالة صعبة.. الولد المراهق من شدة حماسه وحبه لبلدنا جذب إيدي اليمين وقام بتقبيلها بسرعة وبفرح وهو بيقول: "النهارده حضرتك عملتي حاجة عظيمة قوي لمصر " !
‎رأيت رامي لكح يوم 28 يحاول التقاط أنفاسه أمام نهاية دار الأوبرا قبل كوبري قصر النيل بعدما أنزل الماسك مثلي.. مرهقا من الغاز مثلما شعرت وأنا أقع أمام دار الأوبرا من الغاز. لم أكن قادرة حتي علي القئ وسعالي بسبب الغاز وهو لا إرادي بالإضافة لما يحدث للعينين والأنف.. السعال أو الكحة المختنقة المستمرة تجعلك تستنشق المزيد من الغاز فلا هواء أبدا بل " مية نار".. هكذا تشعر بالغاز.. تخرج من جوفك لأعلي وليس من الخارج. كانت التاكسيات البيضاء التي يوقفها الناس لأخذ من يسقط جريحاً ترفض وتفر مستديرة في نفس الطريق الذي أتت منه وهو عكس اتجاه سيرها وكانت السيارات الملاكي التي تقف تأخذ من يمكن أخذه من الجرحي للمستشفيات وعلمنا أن الناس ما زالت ترفض برعب مستشفيات الحكومة فالفقراء لا أمل أمامهم لو جُرحوا بعدما حدث من خطف لهم من معهد ناصر وليست هذه أقاويل بل تأكدت حين نشرتها جريدة الشروق المصرية.
‎حين ساعدني شاب لم أره بينما كنت أسقط للغاز للمرة الثانية الأشد والأكثر عنفا يوم 28 يناير.. حين ساعدني للدخول إلي حرم دار الأوبرا حيث كان الأمن بداخله يقفزون داخل سيارتهم وأياديهم علي أنوفهم من الغاز.. لم يكن ممكنا أن " أفوت " بين حديد قضبان السور.. كان الشاب يدفع ويحاول رجرجة السور بيديه مع وجود قفل علي تلك البوابة.. لم يكن ممكنا القفز علي السور لأنه ينتهي بصورة أسياخ قد تدميك وتجرحك.. لم أكن أري أي شيء ولحظتها فعلا وفقط كانت لحظة عدم قدرتي علي التنفس ( ده يوم 28 يناير جمعة الغضب ).. كنت أقرب ما أكون للموت كما أحسست فلا شهيق ولا قدرة علي الزفير أو التخلص مما كان يتسرب داخل رئتي.. المهم أني رأيت والحمد لله كنت أحاول أن أفتح عيني المصابة بالتهاب من الغاز ولو بسرعة للرؤية أن في حديد السور توجد منطقة منثنية تسمح لو تحركت بشكل جانبي فقط أن أدخل منها لمنطقة دار الأوبرا كي أستريح من الغاز. فعلت وتمكنت من الدخول جانبيا.. دخلت إلي ما يبدو مثل " كوخ " لكنه مبني صغير ما زال في حالته الأسمنتية أو ربما بالطوب الأحمر فهناك مبانٍ كثيرة لم تكتمل.. وبلا باب علي منطقة تركيب الباب.... كان هناك شاب صغير يجلس علي كرسي. جلست أنا أيضا.. تبادل الكلام معي. عرفت أنه صبي حلاق وقال لصاحب المحل: " انا واخد بكره اجازة عشان نازل الميدان ".. ومعه مشيت حيث كان علينا الخروج بطريقة جانبية لجسمي علي الأقل من بوابة أخري لدرا الأوبرا قبل الالتحاق بالجماهير مرة أخري في نفس اليوم.
‎رأيت أيضاً الفنان عمرو واكد أكثر من مرة في الميدان وكانوا اعتقلوا شقيقه ثم أفرجوا عنه. وكان خالد النبوي برضه أمامي في مسيرة يوم 28 يناير قبل ما يبدأوا بتوع الوطني إياهم والمأجورين يتظاهروا أمام ذلك مسجد.
‎تمكنا فقط من بلوغ منتصف كوبري قصر النيل يوم الجمعة 28 يناير وكانوا يقومون بخداعنا واستدراجنا إلي كمائن لنظن أنهم يتراجعون فنتقدم ثم تطبق علينا العربات ويخرج من فوهات المدرعات الجنود المبرمجين بالمدافع ليضربوا بكل شئ.. الغازات المميتة التي لن أنسي رائحتها التي منعت التنفس أو حتي السعال ولم يمنع الماسك الطبي البسيط أو النظارة الشمسية أي شئ ولا كانت شرائح البصل التي هرول بها بعض المنقذين من الشباب إلي أنفي وأنا دائخة علي الأرض.. لاحقا آخر نهار يوم 28 يناير سنعرف ما لم نكن نعرفه قبل النزول من بيوتنا: الكوكاكولا للعيون والخل والبصل للأنف وكنت أحمل معي البصل فيما بعد وأمد المعلومة لغيري لأن هناك من كان يتصور أن الخل للعين !.
‎الغاز حتي عمق بطني ومعدتي كماء النار واستسلمت أخيرا في الكرة الثانية لنا من بعد كر وفر حتي وصلنا رغم الرصاص المطاطي والخرطوش الذي ثقب و( خرم ) أجساد ما يقرب من 11 شابا ورجلا عدا من سقط من الرجال الأكبر سناً ولم يفق أبدا وكان أولاده وأطفاله يرفضون بإصرار ورعب أن يتركه لإسعاف وزارة الصحة ولو أمامنا ( حدث هذا امام دار الأوبرا ) وكان المراهق الصغير يقفز لأعلي تشنجاً ورفضاً لأي مساعدة أو تدخل من المُسعِف رغم وجود عربة الإسعاف مفتوحة أمامنا ورغم سقوط ابيه أرضاً ربما بفعل الغاز الذي أهلكنا.. الرجل سقط دون أن يحرك ساكناً.. تماما كميت وأظنه مات فعلا وكان المُسعِف يقسم بالله أنه لن يؤذي المصاب / الميت بل سيعالجه في حضورنا.. وأنا كنت أقنع بعض من غطت وثقبت الخراطيش وجوههم خاصة من الطبقات الشعبية ألا يذهب للإسعاف وشاركني أصدقاؤه نفس النهي والحظر وتركوا زميلهم الشاب الشعبي الذي لم يستطع طبيب معنا مساعدته لأن الطبيب الشاب كان قد نزل كمتظاهر بلا أجهزة ولا سماعة حتي.. قام بتمديد الشاب علي رخامة أو مقعد حجري وقد صورته وكان كتلة مثقوبة لا يوجد سنتيمتر واحد سليم بها وتبين هذا أكثر بعد خلع قميصه وكان بلا فانلة.. ما زلت أندم لأني وقت نصحته أن يذهب لبيته لم أكن أعرف أن الخرطوش خاصة في أماكن معينة لو لم يتم استخراجه فالنتيجة تكون الموت.. أرتعد من إحساسي بالذنب لو كان ذلك الشاب قد مات.. كانت حالته شديدة السوء واصحابه يقولون له " ياللا يا سبع "..رأيت الجروح وصورت بعض الإصابات وغيره من الجرحي كان الشباب يحملهم ويجري بهم كالمشاهد التي تذكرني بحرب غزة. ما زالوا يمنعون العلاج والأدوية ( أصدقاء لأخي من خريجي الجامعة الأمريكية حاولوا التحايل في إدخال الأدوية للجرحي المعتصمين وتمت مصادرتها من المخبرين بينما حين نجح أحد اصحاب أخي في ابتكار حيلة جديدة لإدخال الأدوية أراد أن يحكيها لنا في إيميل أو موبايل فرفضت ليقيننا بأن كل شيء وقتها مراقب.. خفت أن تؤدي معرفة الطريقة إلي إيقاف إدخال المساعدات ) خاصة بعد فترة من قطع الإنترنت وهو ما كتبت عنه لصديقة أجنبية بوذية لم تكن صحفية ولصديق قديم غير عربي وقتها. وقت قطع الإنترنت لم يكن يمكننا شيء عبر أجهزة التكنولوجيا لكن حتي حين عادت الاتصالات لم يكن ممكنا لفترة سوي تلقي الرسائل وليس إرسالها.
‎كنا علمنا أنهم يداهمون عربات الإسعاف ويخطفوننا كما كان يحدث في غزة حيث اعتبر العالم ذلك جرائم ضد الإنسانية رغم كونها من جيش احتلال ضد مدنيين عزل من أعدائه.. الآن المصريون هم " أعداء " النظام القائم علي السفاحين والبلطجية الذين يحصدون أرواحنا ويطعنون في شرف ووطنية الأطهار في ميدان التحرير من خيرة الشباب الذين لديهم الخدم والحشم والطباخين في بيوتهم ورغم هذا كانوا يقومون بجمع القمامة وزجاجات الماء الفارغة ويضعونها في أكياس القمامة.. يصلي المسلمون وحولهم المسيحيون يحرسونهم ويعملون " كردونا " حولهم ولو لمسني بالخطأ أي رجل في الزحام المشابه لمكان الطواف حول الكعبة يرفع يده فورا ويعتذر بشدة وصدق وينادون البنات أن يقفن جانبا مع بعضهن البعض.. التلاحم والصبر والرقي والطيبة والإصرار وتوزيع ما يمكن من تمر أو بسكوت أو خبز أو ماء يملكه أي واحد علي أكبر عدد حتي أني كنت أقضي اليوم بأكمله بلا ماء ومن حولي ريقهم " ناشف" وأفواههم ملتصقة من شدة العطش والهتاف وحلقي يحترق بعد فقدان صوتي هتافاً وغضباً فتمنحني سيدة شديدة الغضب وأكبر مني سناً آخر ربع نقطة ماء لديها.. مجرد ربع نقطة أجهد في توصيلها لحلقي ، وإخوة وأصدقاء لشهداء دفنوهم سريعا وعادوا " للميدان ".. ضربونا بالعصي أمام عيني بينما يحاول شاب من طبقة راقية جدا مساعدة صديقة أو أخت له من نفس الطبقة بعدما سقطت أرضا أثناء ركضهم خلفنا.. الرصاص المطاطي اختلط مع الرصاص الحي منذ يوم 28 ذاك وربما قبله. كنت أسمع أصوات طلقات الرصاص الحي يأتي من جهة وزارة الداخلية يوم السبت 29 يناير وأنا في التحرير. الآن نسمع علي قناة " فرانس 24 " والبي بي سي العربية كيف يلقون بقطع أثاث ضخمة مع الحجارة من فوق الأبنية المحيطة بالميدان والتي كانت قد تدلت منها اللافتات التي كتبها خطاطون تدعو لإزالة النظام والتخلص من الفساد وإرثه .. سمعنا عن ذبح صحفية فرنسية في الميدان رغم سلمية المتظاهرين أمام كل العالم.. شاركت ثلاثة أيام كما قلت لك.. الجمعة والسبت والثلاثاء المليونية وسأشارك مرات أخري طالما في الجسد قلب ينبض ولدي صور شتي ولكن لأنني كنت أجري مع من يجري كان من الصعب أحيانا كثيرة أن ألتقط الصور المهمة فعلاً وطبعاً أنت شاهدت كيف يدهسون المتظاهرين بعربات الأمن المركزي.. عدنا يوم الجمعة 28 يناير بعدما فشلنا في الوصول للتحرير رغم أننا كنا وصلنا إلي منتصف جسر قصر النيل في العصر والشباب يمسك بما يستطيع من قنابل الغاز التي يرمونها علينا ليلقي بها إليهم مرة ثانية أو في النيل لكن حولي كان بعض الشباب يجري وراء أي شاب من بيننا يحاول تكسير أية حجارة من الرصيف أو من أصص الزرع الصغيرة في الدوران الصغير قبل بداية كوبري الجلاء بالقرب من شيراتون ليمنعوهم من إلقائها علي جنود الأمن المركزي حتي لا يقذفونا بها مرة تانية ، لأن الجنود كانوا يفعلون هذا فعلاً.. لما عدنا من محاولة الذهاب للتحرير كانوا واقفين لا يفعلون شيئا. بدأنا نكلمهم بكل اصواتنا المبحوحة ونصرخ تارة ونحاول التزام الهدوء والعثور علي أصواتنا المجروحة المخنوقة بالغاز تارة. بدا الضابط الذي من عمر المتظاهرين حولي مستسلما مقتنعا وبدوا ساكتين في عصر يوم 28 بعدما فتحوا علينا المياه ورصاص الخراطيش والمطاطي .. ربما كانت وصلتهم أنباء عن قرب نزول الجيش لأن هذه كانت الأخبار التي عرفناها مساء ذلك اليوم ، أي 28.. أن التحرير تم فتحه والسويس انتصرت وفي الإسكندرية كتيبة من الأمن المركزي رفضت ضرب المتظاهرين وانضمت إليهم. كان الجنود يقولون لي " حاتحاكم لو ما نفذتش" وأرد عليهم: أنت قد الذنب ده؟؟ !! وأنا عندي 50 سنة وأبويا دكتور يعني شبعانه ونازلة أدافع عن حقك ، ومعايا ناس بيساعدوني ما اعرفهمش صبيان حلاقين وناس شكلهم بيشموا ولسانهم تقيل وبيقولوا أنهم بيشموا ومعانا ولاد وبنات الجامعة الأمريكية ومراسلين أجانب كانوا بيتخنقوا من الغاز. وسألت الجنود: " أنتو بتاكلوا إيه وبتناموا إمتي وبتتعاملوا إزاي؟؟؟ كفاية جوع وفقر وذل بأه ". وأيضا كنت أقول لهم ردا علي المقولة المعتادة " ما ليش ذنب أنا عبد المأمور ".. كنت أقول: " أنت وأنا والمأمور عباد اللي خلقنا بس ومفيش إله غيره.. يعني أنت أسهل عليك تقتلني أنا البريئة بدل كام سنة سجن ليك؟ ربنا عنده محكمة ما فيهاش استئناف مش حتقدر تقوله أنا عبد المأمور ". نسيت أقول لك أني رأيت سيارة ظن البعض أول الأمر أن سائقها هو الضابط الذي أعطي الأمر بإلقاء قنابل الغاز علينا. السيارة ملاكي وليست شرطة مثلاً. كانت من النوع الذي يسمي 4 * 4 لاندروفر وعدا ذلك لم أتبين ماركتها لكن تدفق بعض الناس عليها وبينهم سيدة شعبية أمام الشيراتون بعد ما غرقونا بالغازات ، أتاح لي ولبعض الشباب تبين وجه الرجل. كان رجل الأعمال المعروف محمد أبو العينين. كان مرعوبا يبتسم بتشنج وخوف يريد العبور والأمن المركزي لا ينظر ناحيته والجنود علي يمينه مباشرة. ابتسم أبو العينين للمجموعة القليلة العدد من المتظاهرين ( عصر يوم 28 يناير ) كأنه يستعطفهم وكنا نقول للمتظاهرين ابعدوا عنه لكي يطمئن ، لكنه سرعان ما استدار عائدا من نفس الطريق وعكس اتجاه السير ليلوذ بحياته كما تصور هو.
‎آخر يوم 28 يناير شاهدت حمدين صباحي بالبالطو يجلس علي رصيف في آخر شارع التحرير بمنطقتنا الدقي.. كنت واقفة ومددت يدي بفرح بعد أن كنت بكيت كثيرا وأنا أشكر الله أن جعلني أعيش حتي أشهد هذا اليوم. حمدين أمسك بيدي وهو جالس بين يديه الإثنتين وقبلها بسرعة بضحكة منتعشة في عينيه.. كان كل الناس الغرباء عن بعضهم البعض وهو ما لاحظته في التحرير قبل التنحي وبعده مباشرة يتبادلون ضحكة العيون التي تم نسيانها وإماتتها من زمان. كان هناك شعب آخر كأنما ولد علي أرض مصر بين يوم وليلة. يضحكون من قلوبهم وعيونهم الرجال والنساء عيونهم تضحك بحب دون أن يعرفوا أسماء بعضهم البعض وبدون أن يسعوا حتي لمعرفة تلك الأسماء. كنا نعيش فرحاً حرمنا منه طوووووووويلاً.
‎أما صورة الطاغية اللي قلت عنه للأجانب.. صحفيين وسياح يومها أنه مومياء تحكم في 80 مليون حي صحوا واستيقظوا لكرامتهم.. صورته التي كانت بارتفاع 15 دور هي مبني جريدتي , جريدة الجمهورية , تمت إزالتها خضوعاً لغضب جماهير لأكثر من 30 عاما في الحقيقة وتم رشق زجاج باب المؤسسة التي مارس رؤساء التحرير المتعاقبين عليها عهر النطق بلسان الباطل. أقول لك سيسقط- لا- بل " سيصعد " شهداء كثر وأكثر مازالوا لكن والله الذي لا إله إلا هو.. سينصر الله اسمه.. والله اسمه الحق واسمه المنتقم. ستدور الدوائر. الناس يدعون أمامي في الميدان بعد كل صلاة هناك عليه ويقولون " حسبي الله ونعم الوكيل ". كنا نهتف "سلمية.. سلمية " وكتبها الشباب معي علي مدرعة الأمن المركزي أمام الشيراتون يوم 28 يناير. بينما المجرمون في هذه القوات كالأسود والنمور حين يتمكنون من فريسة أو غزالة.. تماما هم هكذا حين يطالون متظاهراً لم يسعفه الحظ بالإفلات منهم. كما قلت يبدو أن الأوامر اختلفت للجنود ووحدات الأمن المركزي عصر الجمعة 28 يناير عن أول ذلك النهار. الذين كانوا يضربوننا ونحن في الطريق إلي ميدان التحرير يومها وكدنا نسقط وندهس بعضنا البعض توقفوا عن ذلك حين عدنا من الكر والفر من كوبري قصر النيل. لكن وأنا علي الكوبري وأجري مع الجموع ببطء برضه كنت حاسقط علي الأرض اكتر من مرة وانخلع حذائي وأنا أستغيث حتي لا ندهس بعضنا وصوتي خافت من تحت الماسك.. سمعت فتاة بجانبي تسب " يا ولاد الكلب" وتجري. كانت من طبقة راقية وبدت كأنها أول مرة تنطق تلك الكلمات. امتدت يد لم أرصاحبها لتمسك بمعصمي بينما حذائي يخرج من قدمي. ظل ممسكا بيدي ليضمن أن لا أسقط حتي وصلنا لأول الكوبري مرة أخري يعني عند نهاية دار الأوبرا. الجرحي بنحاول نفتح لهم الكافيتيريا أو الكوفي شوب الذي هناك علي النيل وصاحب الكوفي شوب يرفض فتحه والجنود يهرولون خلفنا. الرواد بداخله أصروا علي أن يفتح وهو يقاوم ومن معه دخول أي أحد ولكن بالنهاية أدخل شاباً ينزف من أذنه ووجهه وساقه بفعل رصاص الخراطيش والمطاط. نريد إدخال المزيد وتأتي فتاة داخل الكوفي شوب ب" شاش" من حقيبتها ونسوة عجائز بالكافيتيريا يتفرجن علي ما يبدو لهن فيلم رعب لم يتوقع أحد مشاهدته. تستخرج واحدة " الكلينكس" من حقيبتها والشاب النازف يخرج ورقة فئة مائتي جنيه ليأتي له صاحب الكافيتيريا بزجاجة ماء. صاحب الكافيتيريا يرفض دخول أي جرحي آخرين ويستعين برجاله " الأشداء" جسمانياً مثله ليمنعونا ويبقي الباب محكما بالقفل بعد إخراج الشاب الذي ينزف. لم أر وجه الشاب الذي أنقذني من السقوط حين أمسك معصمي لكن بمجرد وصولنا للمنطقة أمام الكافيتيريا كانت فتاة من طبقة راقية جدا ً قد سقطت أرضاً. لحظتها لمتها وأنا أعلم أن هذا غصب عنها لأن عدم تعودها علي الجري وسط هكذا ظروف ، وكلنا طبعا مثلها ، تسبب في انهيال المجرمين من الأمن بالضرب علي شاب أرجح أنه كان الذي ساعدني ولم أر وجهه لكن بدا كل منهما ، هي والشاب آية في الجمال والملاحة والرقي.. وحين حاول أن يساعدها لتنهض انهالوا عليه بالهراوات أمام عيني وكان بيني وبينه خطوتين للوراء لا أكثر والعسكر يرفعون الهراوات وأنا أردت الرجوع إليه بلحظة تردد.. ربما هو فعلاً من ساعدني ، لكن خوفي جعلني أركض للأمام مع من كان يفر ،حيث سنجلس كلنا علي رصيف الشارع أمام متحف محمود مختار ثم نركض كلما رجعوا إلينا.
‎حين استولي الشعب علي عربتين أو مدرعتين للأمن المركزي أمام الشيراتون ومدخل كوبري الجلاء الصغير المجاور صعد الناس أعلي المدرعتين وهم يحملون علم مصر يلوحون به وبأنفاسهم الحرة لأيام جديدة كانوا واثقين كل الثقة واليقين أنها آتية.
‎في التحرير بعدما وصلنا وأصبح الميدان مفتوحاً فيما بعد رأيت شاباً يحمل لافتة كتب عليها " مبارك يتحدي الملل". كان الفنانون في خيمة.. مجرد مشمع بلاستيك من أكياس القمامة السوداء في الحقيقة.. كانوا يقدمون إلينا التمر الجاف أو بعض الساندويشات من الخبز البلدي بالجبنة البيضاء لمن يشعر بالجوع ويقولون " كنتاكي.. كنتاكي " سخرية من ادعاء الحزب الوطني أن المتظاهرين مدفوع لهم من جهات أجنبية ويأخذون مقابلاً من وجبات المطعم الشهير للتظاهر ضد الحكم. الطريف أن هذا الاتهام للشعب جاء بعدما اكتشف ثوار التحرير ما صرح به بعض أصدقاء أخي الذين تمكنوا من بعض المندسين علي ظهور الجمال والخيول في الموقعة الدموية الشرسة. قال إخوة محمد بدر صديق أخي والذين قابلت أحدهم مع الأب أن من أمسكوا بهم لم يكونوا كلهم بلطجية أو شرطة كما أظهرت البطاقات بل بحسب عائلة بدر- كان بعضهم عمال في شركات تم صرف 40 جنيه لهم ووجبة وأعطوهم اسلحة بيضاء وياللا انزلوا اهتفوا لمبارك. والله ليموت المجرم. سيموت المجرمون ، والله سوف يُهزم وُيهزمون.. والله سوف نحاكمهم ونقتص منهم والله غالب علي أمره وإنا لمنتصرون.
‎غادة
‎ 2 فبراير 2011
‎ الأمل و الألم
‎معتز
‎هل يجب أن أعتب عليك أم أقلق فقط؟
‎من الصعب أن أحس بأي شئ سوي الغضب الجارف والغيظ الذي سيفجرني من بوادر الحرب الأهلية التي بدأها الخائن الذي استحل دماء المصريين وطبعا أنا شاركت في الجمعة الأولي ( 28 يناير ) حيث تم ضربنا بكل شئ وسقطت بتأثير الغاز أكثر من مرة وكنت قد تلوت الشهادتين قبل خروجي يومها من بيتنا بدون معرفة جواد الذي كان يسأل ماما وتكذب هي عليه بطلب مني لطمأنته. تركت بعض أرقام التليفونات لأمي فقالت لي " إيه يعني بتودعيني؟".
‎لم أقم بالصلاة في مسجد مصطفي محمود يومها وإنما ظللت أدعو ربي قبل المسيرة أن يغفر لي ذنوبي وكنت قبلها بيوم علي سلم نقابتنا مع المحتجين الزملاء ولأول مرة نري مواطنين شعبيين ذلك اليوم- علي سلم النقابة ينضمون إلينا رغم الكردون الأمني البشع وكنا نصرخ " سيبه.. سيبه " أو " حرية.. حرية.. حرية " ليترك الأمن أحدنا أو إحدانا بعدما أمسك به أو بها , أو ليترك من تريد من المواطنات أن تدخل. قلة قليلة تم السماح لها بالدخول. كان ضابط أمن الدولة " يقزقز" اللب ضاحكا و" يعزم" علي زميله ويضحكان وهما ينظران إلينا كإننا حيوانات في أقفاص بحديقة حيوانات أو في فقرة بالسيرك.. والحناجر تشتم مبارك وعز أكتر منه.. و" الحزب الواطي.. اللاديمقراطي ". اندست واحدة بيننا كنت سبق ورأيتها حين كنا نتضامن مع الزملاء المعتصمين بالنقابة من " الدستور" الأصلية وكانت يومها تدعي حين سألناها ، أنها من جريدة " 24 ساعة " (بتاعة المدعو سمير رجب الذي كان لا يكتب إلا ليسجد لحسني مبارك وخلق مثل مبارك كتائب من المنافقين الحرامية داخل المؤسسة.. وهوالذي كما تعلم قام برفتي أو رفدي فور حصولي علي الماجستير بإمتياز من إنجلترا وكان ينكل بكل شريف كما منعني من الكتابة بالاسم وهو ما كان رئيسي في صفحة الأدب قد بلغني به في وقت من الأوقات ). تلك البنت الغير مريحة ذات الوجه الجبسي كانت تحاول الالتصاق بي وأنا أتحدث إلي غيرها فقط لتسمع ما أقول ولا تكف عن الإستجواب وأهم حاجة عندها الأسماء ولاحظت أن محمد عبد القدوس الذي كان سبق وأعطاني رقم موبايله من قبل وأدرت ندوات لحرية الرأي معه بالنقابة يتململ في تأكيد رقم موبايله لي أمامها حينما طلبت ذلك بينما هي لا تريد الإجابة علي أي شئ وحتي اسمها حين سألتها بلطف ذات مرة أصيبت بحالة عصبية وقالت اسما سريعا جدا وتركتني حتي أني نسيت الاسم.
‎كانت تلك المدسوسة قبل الثورة قد ظهرت فجأة علي سلم النقابة بيننا ولم يتحقق أحد من إدعائها أنها في جريدة 24 ساعة لكن كانت تتعمد نشر وإشاعة أشياء محبطة تهدم بها عزيمتنا مثل القول أن من يعبر النقابة من الناس أثناء هتافنا يعتقد أننا نهتف لجمال مبارك ثم يمشي. تقول هذا وتضحك وتمضي. كان هذا يوم التضامن مع أسرة جريدة الدستور بعد الإطاحة بأغلب الشرفاء فيها وبرئيس تحريرها إبراهيم عيسي. لم تفتح فمها بكلمة أو تهتف أبدا بل تدون أشياء. ويوم الخميس 27 يناير كانت البنات يغطين وجوههن منها لما بدأت تقوم بتصويرهن والسلم شبه " فاضي" قبل مجئ الناس وانضمام المزيد من الزملاء أيضاً.. كما اظهرت أنا بالكلام المباشر بصوت مسموع لتلك المدسوسة أننا نعرف الجواسيس المدسوسين بيننا بتوع الوطني وحذرتُ الزميلة الجميلة الناشطة نور الهدي زكي منها أيضا ً ولأن الفتاة تلك كانت جاسوسة فعلاً كانت تفر من كل مكان أكون فيه أو تبتعد عني وهي تسمعني أتكلم بصوت عالي عنها للآخرين علي السلم وحتي داخل النقابة.. تبتعد ولا تتصدي أو تواجه لأن المثل يقول بوضوح " يكاد المريب يقول خذوني " . لم أستغرب. لكنها حاولت تدفع إلينا ببعض الشباب من الزملاء ليسألونا متي ننوي أن تكون مظاهرات "الجمعة" ( الذي كان 28 يناير) ولم يكن هؤلاء انتبهوا لها ولا قلنا لهم تحذيرا. تسأل عن طريق واحد طيب لا أعرف اسمه: من أي مسجد؟. قلنا " كل المساجد ".
‎يوم 28 كنا وقفنا كلنا قبل " صينية " ( دائرة ) المنطقة المقابلة لقسم شرطة الدقي وفندق شيراتون القاهرة.. الجموع هادرة والشعور تجاه الشرطة عدائي جدا حتي أن ضابطا وهو يقوم بحركة ودية مهذبة بالسماح لي بالتحرك ونحن أمام الساحة الأمامية لمسجد مصطفي محمود.. نظرت إليه وأنا أرفض وبتكشيرة وغضب هائل بداخلي.. أقصد ده وقت تحرك جموعنا بعد انتهاء صلاة الجمعة في المسجد اللي كانت أول مرة أسمع فيها خطبة لها معني. كانت عن العدل.
‎في الدائرة أمام قسم شرطة الدقي وقف الطرفان.. الشعب والشرطة. المدججون بالسلاح والعزل. المواجهة التاريخية الأزلية تتكرر. أتذكر أني يومها بلا إدعاء لبطولة قد تكون زائفة.. تقدمت وحدي تماما إلي منطقة الدائرة تلك يعني خرجت من حيز المجاميع ربما لأني شعرت أن وقفتنا أو حالة الشلل والتربص المتبادل دي حتطول.. كنت أرتدي نظارتي الشمسية لكن هيهات؟ بدأ إلقاء قنابل غاز عند قدمي. لم استطع الحركة وأنا أتعرض لما لا أعرفه للمرة الأولي في حياتي.. المجاميع كانت لسه واقفة في الخلف تبعد عني بمسافة. فجأة وجدت شاباً مراهقا لا أعرفه يمسك بيدي. كان يرتدي " تي شيرت أبيض " وشعره منكوش وعلي عينيه نظارة نظر... ليس طويلا ويمكنه أن يكون ابني... أخذني من يدي بسرعة إلي رصيف فندق الشيراتون حيث تكوم عدد ممن أصابهم الغاز مبكرا وظل يعطيني البصل الذي لم أكن أفهم أول الأمر ماذا أفعل به وبجانبي بعض المصابين من الغاز في حالة صعبة.. الولد المراهق من شدة حماسه وحبه لبلدنا جذب إيدي اليمين وقام بتقبيلها بسرعة وبفرح وهو بيقول: "النهارده حضرتك عملتي حاجة عظيمة قوي لمصر " !
‎رأيت رامي لكح يوم 28 يحاول التقاط أنفاسه أمام نهاية دار الأوبرا قبل كوبري قصر النيل بعدما أنزل الماسك مثلي.. مرهقا من الغاز مثلما شعرت وأنا أقع أمام دار الأوبرا من الغاز. لم أكن قادرة حتي علي القئ وسعالي بسبب الغاز وهو لا إرادي بالإضافة لما يحدث للعينين والأنف.. السعال أو الكحة المختنقة المستمرة تجعلك تستنشق المزيد من الغاز فلا هواء أبدا بل " مية نار".. هكذا تشعر بالغاز.. تخرج من جوفك لأعلي وليس من الخارج. كانت التاكسيات البيضاء التي يوقفها الناس لأخذ من يسقط جريحاً ترفض وتفر مستديرة في نفس الطريق الذي أتت منه وهو عكس اتجاه سيرها وكانت السيارات الملاكي التي تقف تأخذ من يمكن أخذه من الجرحي للمستشفيات وعلمنا أن الناس ما زالت ترفض برعب مستشفيات الحكومة فالفقراء لا أمل أمامهم لو جُرحوا بعدما حدث من خطف لهم من معهد ناصر وليست هذه أقاويل بل تأكدت حين نشرتها جريدة الشروق المصرية.
‎حين ساعدني شاب لم أره بينما كنت أسقط للغاز للمرة الثانية الأشد والأكثر عنفا يوم 28 يناير.. حين ساعدني للدخول إلي حرم دار الأوبرا حيث كان الأمن بداخله يقفزون داخل سيارتهم وأياديهم علي أنوفهم من الغاز.. لم يكن ممكنا أن " أفوت " بين حديد قضبان السور.. كان الشاب يدفع ويحاول رجرجة السور بيديه مع وجود قفل علي تلك البوابة.. لم يكن ممكنا القفز علي السور لأنه ينتهي بصورة أسياخ قد تدميك وتجرحك.. لم أكن أري أي شيء ولحظتها فعلا وفقط كانت لحظة عدم قدرتي علي التنفس ( ده يوم 28 يناير جمعة الغضب ).. كنت أقرب ما أكون للموت كما أحسست فلا شهيق ولا قدرة علي الزفير أو التخلص مما كان يتسرب داخل رئتي.. المهم أني رأيت والحمد لله كنت أحاول أن أفتح عيني المصابة بالتهاب من الغاز ولو بسرعة للرؤية أن في حديد السور توجد منطقة منثنية تسمح لو تحركت بشكل جانبي فقط أن أدخل منها لمنطقة دار الأوبرا كي أستريح من الغاز. فعلت وتمكنت من الدخول جانبيا.. دخلت إلي ما يبدو مثل " كوخ " لكنه مبني صغير ما زال في حالته الأسمنتية أو ربما بالطوب الأحمر فهناك مبانٍ كثيرة لم تكتمل.. وبلا باب علي منطقة تركيب الباب.... كان هناك شاب صغير يجلس علي كرسي. جلست أنا أيضا.. تبادل الكلام معي. عرفت أنه صبي حلاق وقال لصاحب المحل: " انا واخد بكره اجازة عشان نازل الميدان ".. ومعه مشيت حيث كان علينا الخروج بطريقة جانبية لجسمي علي الأقل من بوابة أخري لدرا الأوبرا قبل الالتحاق بالجماهير مرة أخري في نفس اليوم.
‎رأيت أيضاً الفنان عمرو واكد أكثر من مرة في الميدان وكانوا اعتقلوا شقيقه ثم أفرجوا عنه. وكان خالد النبوي برضه أمامي في مسيرة يوم 28 يناير قبل ما يبدأوا بتوع الوطني إياهم والمأجورين يتظاهروا أمام ذلك مسجد.
‎تمكنا فقط من بلوغ منتصف كوبري قصر النيل يوم الجمعة 28 يناير وكانوا يقومون بخداعنا واستدراجنا إلي كمائن لنظن أنهم يتراجعون فنتقدم ثم تطبق علينا العربات ويخرج من فوهات المدرعات الجنود المبرمجين بالمدافع ليضربوا بكل شئ.. الغازات المميتة التي لن أنسي رائحتها التي منعت التنفس أو حتي السعال ولم يمنع الماسك الطبي البسيط أو النظارة الشمسية أي شئ ولا كانت شرائح البصل التي هرول بها بعض المنقذين من الشباب إلي أنفي وأنا دائخة علي الأرض.. لاحقا آخر نهار يوم 28 يناير سنعرف ما لم نكن نعرفه قبل النزول من بيوتنا: الكوكاكولا للعيون والخل والبصل للأنف وكنت أحمل معي البصل فيما بعد وأمد المعلومة لغيري لأن هناك من كان يتصور أن الخل للعين !.
‎الغاز حتي عمق بطني ومعدتي كماء النار واستسلمت أخيرا في الكرة الثانية لنا من بعد كر وفر حتي وصلنا رغم الرصاص المطاطي والخرطوش الذي ثقب و( خرم ) أجساد ما يقرب من 11 شابا ورجلا عدا من سقط من الرجال الأكبر سناً ولم يفق أبدا وكان أولاده وأطفاله يرفضون بإصرار ورعب أن يتركه لإسعاف وزارة الصحة ولو أمامنا ( حدث هذا امام دار الأوبرا ) وكان المراهق الصغير يقفز لأعلي تشنجاً ورفضاً لأي مساعدة أو تدخل من المُسعِف رغم وجود عربة الإسعاف مفتوحة أمامنا ورغم سقوط ابيه أرضاً ربما بفعل الغاز الذي أهلكنا.. الرجل سقط دون أن يحرك ساكناً.. تماما كميت وأظنه مات فعلا وكان المُسعِف يقسم بالله أنه لن يؤذي المصاب / الميت بل سيعالجه في حضورنا.. وأنا كنت أقنع بعض من غطت وثقبت الخراطيش وجوههم خاصة من الطبقات الشعبية ألا يذهب للإسعاف وشاركني أصدقاؤه نفس النهي والحظر وتركوا زميلهم الشاب الشعبي الذي لم يستطع طبيب معنا مساعدته لأن الطبيب الشاب كان قد نزل كمتظاهر بلا أجهزة ولا سماعة حتي.. قام بتمديد الشاب علي رخامة أو مقعد حجري وقد صورته وكان كتلة مثقوبة لا يوجد سنتيمتر واحد سليم بها وتبين هذا أكثر بعد خلع قميصه وكان بلا فانلة.. ما زلت أندم لأني وقت نصحته أن يذهب لبيته لم أكن أعرف أن الخرطوش خاصة في أماكن معينة لو لم يتم استخراجه فالنتيجة تكون الموت.. أرتعد من إحساسي بالذنب لو كان ذلك الشاب قد مات.. كانت حالته شديدة السوء واصحابه يقولون له " ياللا يا سبع "..رأيت الجروح وصورت بعض الإصابات وغيره من الجرحي كان الشباب يحملهم ويجري بهم كالمشاهد التي تذكرني بحرب غزة. ما زالوا يمنعون العلاج والأدوية ( أصدقاء لأخي من خريجي الجامعة الأمريكية حاولوا التحايل في إدخال الأدوية للجرحي المعتصمين وتمت مصادرتها من المخبرين بينما حين نجح أحد اصحاب أخي في ابتكار حيلة جديدة لإدخال الأدوية أراد أن يحكيها لنا في إيميل أو موبايل فرفضت ليقيننا بأن كل شيء وقتها مراقب.. خفت أن تؤدي معرفة الطريقة إلي إيقاف إدخال المساعدات ) خاصة بعد فترة من قطع الإنترنت وهو ما كتبت عنه لصديقة أجنبية بوذية لم تكن صحفية ولصديق قديم غير عربي وقتها. وقت قطع الإنترنت لم يكن يمكننا شيء عبر أجهزة التكنولوجيا لكن حتي حين عادت الاتصالات لم يكن ممكنا لفترة سوي تلقي الرسائل وليس إرسالها.
‎كنا علمنا أنهم يداهمون عربات الإسعاف ويخطفوننا كما كان يحدث في غزة حيث اعتبر العالم ذلك جرائم ضد الإنسانية رغم كونها من جيش احتلال ضد مدنيين عزل من أعدائه.. الآن المصريون هم " أعداء " النظام القائم علي السفاحين والبلطجية الذين يحصدون أرواحنا ويطعنون في شرف ووطنية الأطهار في ميدان التحرير من خيرة الشباب الذين لديهم الخدم والحشم والطباخين في بيوتهم ورغم هذا كانوا يقومون بجمع القمامة وزجاجات الماء الفارغة ويضعونها في أكياس القمامة.. يصلي المسلمون وحولهم المسيحيون يحرسونهم ويعملون " كردونا " حولهم ولو لمسني بالخطأ أي رجل في الزحام المشابه لمكان الطواف حول الكعبة يرفع يده فورا ويعتذر بشدة وصدق وينادون البنات أن يقفن جانبا مع بعضهن البعض.. التلاحم والصبر والرقي والطيبة والإصرار وتوزيع ما يمكن من تمر أو بسكوت أو خبز أو ماء يملكه أي واحد علي أكبر عدد حتي أني كنت أقضي اليوم بأكمله بلا ماء ومن حولي ريقهم " ناشف" وأفواههم ملتصقة من شدة العطش والهتاف وحلقي يحترق بعد فقدان صوتي هتافاً وغضباً فتمنحني سيدة شديدة الغضب وأكبر مني سناً آخر ربع نقطة ماء لديها.. مجرد ربع نقطة أجهد في توصيلها لحلقي ، وإخوة وأصدقاء لشهداء دفنوهم سريعا وعادوا " للميدان ".. ضربونا بالعصي أمام عيني بينما يحاول شاب من طبقة راقية جدا مساعدة صديقة أو أخت له من نفس الطبقة بعدما سقطت أرضا أثناء ركضهم خلفنا.. الرصاص المطاطي اختلط مع الرصاص الحي منذ يوم 28 ذاك وربما قبله. كنت أسمع أصوات طلقات الرصاص الحي يأتي من جهة وزارة الداخلية يوم السبت 29 يناير وأنا في التحرير. الآن نسمع علي قناة " فرانس 24 " والبي بي سي العربية كيف يلقون بقطع أثاث ضخمة مع الحجارة من فوق الأبنية المحيطة بالميدان والتي كانت قد تدلت منها اللافتات التي كتبها خطاطون تدعو لإزالة النظام والتخلص من الفساد وإرثه .. سمعنا عن ذبح صحفية فرنسية في الميدان رغم سلمية المتظاهرين أمام كل العالم.. شاركت ثلاثة أيام كما قلت لك.. الجمعة والسبت والثلاثاء المليونية وسأشارك مرات أخري طالما في الجسد قلب ينبض ولدي صور شتي ولكن لأنني كنت أجري مع من يجري كان من الصعب أحيانا كثيرة أن ألتقط الصور المهمة فعلاً وطبعاً أنت شاهدت كيف يدهسون المتظاهرين بعربات الأمن المركزي.. عدنا يوم الجمعة 28 يناير بعدما فشلنا في الوصول للتحرير رغم أننا كنا وصلنا إلي منتصف جسر قصر النيل في العصر والشباب يمسك بما يستطيع من قنابل الغاز التي يرمونها علينا ليلقي بها إليهم مرة ثانية أو في النيل لكن حولي كان بعض الشباب يجري وراء أي شاب من بيننا يحاول تكسير أية حجارة من الرصيف أو من أصص الزرع الصغيرة في الدوران الصغير قبل بداية كوبري الجلاء بالقرب من شيراتون ليمنعوهم من إلقائها علي جنود الأمن المركزي حتي لا يقذفونا بها مرة تانية ، لأن الجنود كانوا يفعلون هذا فعلاً.. لما عدنا من محاولة الذهاب للتحرير كانوا واقفين لا يفعلون شيئا. بدأنا نكلمهم بكل اصواتنا المبحوحة ونصرخ تارة ونحاول التزام الهدوء والعثور علي أصواتنا المجروحة المخنوقة بالغاز تارة. بدا الضابط الذي من عمر المتظاهرين حولي مستسلما مقتنعا وبدوا ساكتين في عصر يوم 28 بعدما فتحوا علينا المياه ورصاص الخراطيش والمطاطي .. ربما كانت وصلتهم أنباء عن قرب نزول الجيش لأن هذه كانت الأخبار التي عرفناها مساء ذلك اليوم ، أي 28.. أن التحرير تم فتحه والسويس انتصرت وفي الإسكندرية كتيبة من الأمن المركزي رفضت ضرب المتظاهرين وانضمت إليهم. كان الجنود يقولون لي " حاتحاكم لو ما نفذتش" وأرد عليهم: أنت قد الذنب ده؟؟ !! وأنا عندي 50 سنة وأبويا دكتور يعني شبعانه ونازلة أدافع عن حقك ، ومعايا ناس بيساعدوني ما اعرفهمش صبيان حلاقين وناس شكلهم بيشموا ولسانهم تقيل وبيقولوا أنهم بيشموا ومعانا ولاد وبنات الجامعة الأمريكية ومراسلين أجانب كانوا بيتخنقوا من الغاز. وسألت الجنود: " أنتو بتاكلوا إيه وبتناموا إمتي وبتتعاملوا إزاي؟؟؟ كفاية جوع وفقر وذل بأه ". وأيضا كنت أقول لهم ردا علي المقولة المعتادة " ما ليش ذنب أنا عبد المأمور ".. كنت أقول: " أنت وأنا والمأمور عباد اللي خلقنا بس ومفيش إله غيره.. يعني أنت أسهل عليك تقتلني أنا البريئة بدل كام سنة سجن ليك؟ ربنا عنده محكمة ما فيهاش استئناف مش حتقدر تقوله أنا عبد المأمور ". نسيت أقول لك أني رأيت سيارة ظن البعض أول الأمر أن سائقها هو الضابط الذي أعطي الأمر بإلقاء قنابل الغاز علينا. السيارة ملاكي وليست شرطة مثلاً. كانت من النوع الذي يسمي 4 * 4 لاندروفر وعدا ذلك لم أتبين ماركتها لكن تدفق بعض الناس عليها وبينهم سيدة شعبية أمام الشيراتون بعد ما غرقونا بالغازات ، أتاح لي ولبعض الشباب تبين وجه الرجل. كان رجل الأعمال المعروف محمد أبو العينين. كان مرعوبا يبتسم بتشنج وخوف يريد العبور والأمن المركزي لا ينظر ناحيته والجنود علي يمينه مباشرة. ابتسم أبو العينين للمجموعة القليلة العدد من المتظاهرين ( عصر يوم 28 يناير ) كأنه يستعطفهم وكنا نقول للمتظاهرين ابعدوا عنه لكي يطمئن ، لكنه سرعان ما استدار عائدا من نفس الطريق وعكس اتجاه السير ليلوذ بحياته كما تصور هو.
‎آخر يوم 28 يناير شاهدت حمدين صباحي بالبالطو يجلس علي رصيف في آخر شارع التحرير بمنطقتنا الدقي.. كنت واقفة ومددت يدي بفرح بعد أن كنت بكيت كثيرا وأنا أشكر الله أن جعلني أعيش حتي أشهد هذا اليوم. حمدين أمسك بيدي وهو جالس بين يديه الإثنتين وقبلها بسرعة بضحكة منتعشة في عينيه.. كان كل الناس الغرباء عن بعضهم البعض وهو ما لاحظته في التحرير قبل التنحي وبعده مباشرة يتبادلون ضحكة العيون التي تم نسيانها وإماتتها من زمان. كان هناك شعب آخر كأنما ولد علي أرض مصر بين يوم وليلة. يضحكون من قلوبهم وعيونهم الرجال والنساء عيونهم تضحك بحب دون أن يعرفوا أسماء بعضهم البعض وبدون أن يسعوا حتي لمعرفة تلك الأسماء. كنا نعيش فرحاً حرمنا منه طوووووووويلاً.
‎أما صورة الطاغية اللي قلت عنه للأجانب.. صحفيين وسياح يومها أنه مومياء تحكم في 80 مليون حي صحوا واستيقظوا لكرامتهم.. صورته التي كانت بارتفاع 15 دور هي مبني جريدتي , جريدة الجمهورية , تمت إزالتها خضوعاً لغضب جماهير لأكثر من 30 عاما في الحقيقة وتم رشق زجاج باب المؤسسة التي مارس رؤساء التحرير المتعاقبين عليها عهر النطق بلسان الباطل. أقول لك سيسقط- لا- بل " سيصعد " شهداء كثر وأكثر مازالوا لكن والله الذي لا إله إلا هو.. سينصر الله اسمه.. والله اسمه الحق واسمه المنتقم. ستدور الدوائر. الناس يدعون أمامي في الميدان بعد كل صلاة هناك عليه ويقولون " حسبي الله ونعم الوكيل ". كنا نهتف "سلمية.. سلمية " وكتبها الشباب معي علي مدرعة الأمن المركزي أمام الشيراتون يوم 28 يناير. بينما المجرمون في هذه القوات كالأسود والنمور حين يتمكنون من فريسة أو غزالة.. تماما هم هكذا حين يطالون متظاهراً لم يسعفه الحظ بالإفلات منهم. كما قلت يبدو أن الأوامر اختلفت للجنود ووحدات الأمن المركزي عصر الجمعة 28 يناير عن أول ذلك النهار. الذين كانوا يضربوننا ونحن في الطريق إلي ميدان التحرير يومها وكدنا نسقط وندهس بعضنا البعض توقفوا عن ذلك حين عدنا من الكر والفر من كوبري قصر النيل. لكن وأنا علي الكوبري وأجري مع الجموع ببطء برضه كنت حاسقط علي الأرض اكتر من مرة وانخلع حذائي وأنا أستغيث حتي لا ندهس بعضنا وصوتي خافت من تحت الماسك.. سمعت فتاة بجانبي تسب " يا ولاد الكلب" وتجري. كانت من طبقة راقية وبدت كأنها أول مرة تنطق تلك الكلمات. امتدت يد لم أرصاحبها لتمسك بمعصمي بينما حذائي يخرج من قدمي. ظل ممسكا بيدي ليضمن أن لا أسقط حتي وصلنا لأول الكوبري مرة أخري يعني عند نهاية دار الأوبرا. الجرحي بنحاول نفتح لهم الكافيتيريا أو الكوفي شوب الذي هناك علي النيل وصاحب الكوفي شوب يرفض فتحه والجنود يهرولون خلفنا. الرواد بداخله أصروا علي أن يفتح وهو يقاوم ومن معه دخول أي أحد ولكن بالنهاية أدخل شاباً ينزف من أذنه ووجهه وساقه بفعل رصاص الخراطيش والمطاط. نريد إدخال المزيد وتأتي فتاة داخل الكوفي شوب ب" شاش" من حقيبتها ونسوة عجائز بالكافيتيريا يتفرجن علي ما يبدو لهن فيلم رعب لم يتوقع أحد مشاهدته. تستخرج واحدة " الكلينكس" من حقيبتها والشاب النازف يخرج ورقة فئة مائتي جنيه ليأتي له صاحب الكافيتيريا بزجاجة ماء. صاحب الكافيتيريا يرفض دخول أي جرحي آخرين ويستعين برجاله " الأشداء" جسمانياً مثله ليمنعونا ويبقي الباب محكما بالقفل بعد إخراج الشاب الذي ينزف. لم أر وجه الشاب الذي أنقذني من السقوط حين أمسك معصمي لكن بمجرد وصولنا للمنطقة أمام الكافيتيريا كانت فتاة من طبقة راقية جدا ً قد سقطت أرضاً. لحظتها لمتها وأنا أعلم أن هذا غصب عنها لأن عدم تعودها علي الجري وسط هكذا ظروف ، وكلنا طبعا مثلها ، تسبب في انهيال المجرمين من الأمن بالضرب علي شاب أرجح أنه كان الذي ساعدني ولم أر وجهه لكن بدا كل منهما ، هي والشاب آية في الجمال والملاحة والرقي.. وحين حاول أن يساعدها لتنهض انهالوا عليه بالهراوات أمام عيني وكان بيني وبينه خطوتين للوراء لا أكثر والعسكر يرفعون الهراوات وأنا أردت الرجوع إليه بلحظة تردد.. ربما هو فعلاً من ساعدني ، لكن خوفي جعلني أركض للأمام مع من كان يفر ،حيث سنجلس كلنا علي رصيف الشارع أمام متحف محمود مختار ثم نركض كلما رجعوا إلينا.
‎حين استولي الشعب علي عربتين أو مدرعتين للأمن المركزي أمام الشيراتون ومدخل كوبري الجلاء الصغير المجاور صعد الناس أعلي المدرعتين وهم يحملون علم مصر يلوحون به وبأنفاسهم الحرة لأيام جديدة كانوا واثقين كل الثقة واليقين أنها آتية.
‎في التحرير بعدما وصلنا وأصبح الميدان مفتوحاً فيما بعد رأيت شاباً يحمل لافتة كتب عليها " مبارك يتحدي الملل". كان الفنانون في خيمة.. مجرد مشمع بلاستيك من أكياس القمامة السوداء في الحقيقة.. كانوا يقدمون إلينا التمر الجاف أو بعض الساندويشات من الخبز البلدي بالجبنة البيضاء لمن يشعر بالجوع ويقولون " كنتاكي.. كنتاكي " سخرية من ادعاء الحزب الوطني أن المتظاهرين مدفوع لهم من جهات أجنبية ويأخذون مقابلاً من وجبات المطعم الشهير للتظاهر ضد الحكم. الطريف أن هذا الاتهام للشعب جاء بعدما اكتشف ثوار التحرير ما صرح به بعض أصدقاء أخي الذين تمكنوا من بعض المندسين علي ظهور الجمال والخيول في الموقعة الدموية الشرسة. قال إخوة محمد بدر صديق أخي والذين قابلت أحدهم مع الأب أن من أمسكوا بهم لم يكونوا كلهم بلطجية أو شرطة كما أظهرت البطاقات بل بحسب عائلة بدر- كان بعضهم عمال في شركات تم صرف 40 جنيه لهم ووجبة وأعطوهم اسلحة بيضاء وياللا انزلوا اهتفوا لمبارك. والله ليموت المجرم. سيموت المجرمون ، والله سوف يُهزم وُيهزمون.. والله سوف نحاكمهم ونقتص منهم والله غالب علي أمره وإنا لمنتصرون.
‎غادة
‎13 فبراير 2011
‎المتاريس
‎أمجد العزيز
‎للتو قرأتها.
‎لو تشوف يوم التنحي! كنت في البيت وأول لما شفت بيان رسمي في التليفزيون ذ مش فاكرة رقم كام ذ تركت الصالة . كنت في يأس أن يتنحي من نفسه وبدأت أشعر أن القادة العسكريين يشعرون بالحرج من إجباره علي ذلك .
‎فجأة صرخ أخي ! " أيوه .. أيوه . خلاص .... خلاص ".
‎قفزت إلي الصالة في لحظة وأنا أبكي و أنظر للتليفزيون . ثم احتضنني أخي بقوة وانفعال واتجهنا للنافذة . فتحها وظل يهتف ويهلل بالنصر وإن مبارك خلاص ... ال .. خلاص . الناس في الشارع كانت ينظرون إلي مصدر الصوت .. بيتنا في الطابق الثالث ويستفسرون بسعادة .
‎نزلنا نفس يوم التنحي قاصدين التحرير أنا وأخي وزوجته . تركنا أولاده مع ماما التي كانت تريد وتتمني النزول من أول يوم للثورة وكنا نمنعها . كمية النور في المكان تجعل العيون تشعر كما لو كان أحد الكواكب ينفجر أو يولد . لم نستطع الوصول للتحرير نفسه بل لأقرب نقطة منه فقط . شاهدنا شبابا يحمل علم مصر ويحركه بروعة كأنها لحظة حب ينفجر في أرواح الجميع فجأة . كان بعض الشباب يصعد علي الأسدين البرونزعند كوبري قصر النيل .. بلا خوف من السقوط وهم يلوحون بالعلم .. لا نشعر بأي برد يوم 11 فبراير . نضحك كلنا وننظر في عيون بعضنا البعض دون ذرة تفكير أو تحسب لأي خاطر اجتماعي... الرجال والنساء .. كل الغرباء والغريبات عائلة واحدة تحتفل بنفس البهجة.
‎" ارفع راسك فوق إنت مصري ! ارفع راسك فوق إنت مصري " . غنيناها معهم .. هذه النعمة لم نعرفها من عقود . الفرح كان تصميم الشعب علي إعادة كتابة تاريخه عبر الاعتصام .. من أجل " عيش . حرية . عدالة اجتماعية " . أثناء الاعتصام قبل التنحي
‎ لم أكن أتعاطي الإنترنت إلا نادرا لأنني يومياً تقريبا هناك مع الناس أو من صاروا يصنفون كمتظاهرين وكلما ذهبت بموبايلي المتواضع وليس بكاميرا خاصة بعدما صارت رديفاً لقتلك.. أصور المزيد من بوسترات لوجوه الشهداء والشهيدات والأطفال الشهداء.. أوقاتا كنت أنفجر في البكاء من الأعداد الكثيرة والأسماء الجديدة في كل مرة للشهداء أو لأن الوجوه مشوهة وبلا أسماء حتي. كنت أقابل أهالي الشهداء وأخواتهم والآباء والأعمام وأصدقائهم يحملون صورهم أو يجلسون أمامها. أخي المتزوج الأب شارك قبل التنحي أكثر من مرة وشارك وزوجته في التنظيف بعد التنحي. كل من يملك شيئا هناك كان يتقاسمه ومرة أعطتني سيدة آخر ربع قطرة ماء من زجاجة ماء لم تطفئ عطشي حيث كنت أحيانا أظل بلا ماء من الصباح حتي التاسعة مساء حين أعود لأنام في سريري الدافئ والناس ينامون علي الأرصفة وشوارع الميدان التي بدأت رائحة البول تفوح منها.. وكنا نحلم بمكان فارغ عليها لنجلس , من شدة التعب وأري الفنانين والمعاقين علي كراسي متحركة والأطفال الرضع بين أيدي أمهاتهن ولأول مرة لا أشعر بالغضب والرفض تجاه المنتقبات والملتحين حيث كان بعضهن وبعضهم هم من يقومون أو يقمن بتهدئة غضبي ويتحملن.. السيدات .. تعبيري النادم عن موقفي القديم السابق الرافض لهن والمنكمش منهن فترد الواحدة بهدوء كلنا إخوات. بل إن واحدا من الملتحين يلبس جلبابا ومتزوج من إثنتين هو من أنقذني من الوقوع علي الأرض وسط العجينة البشرية المليونية بينما أحاول عبور الميدان من آخره الذي كنت بلغته.. رجوعا إلي أوله مرة أخري لأجلب بطانية من لجنة التنظيم لمواطن مع أسرته جاء من دمنهور فضاع مني ذلك المواطن في الزحام الذي كيوم الحشر... كدت اسقط وكل من حولي أطول مني ولا يمكن سماع صوتي من شدة وارتفاع الهتافات. ده قبل التنحي ولكني تذكرت مكان كومة البلاستيك الرفيع الذي من جهتين علي ناصية مبني وزارة الخارجية القديم لأنك لا تستطيع تسمية " الدروة" التي كانت مفتوحة ويمكن العصف بها من أقل نسمة هواء حيث احتمت تلك الأسرة بها علي الأرض كغيرها.. لا تستطيع تسميتها خيمة وأغلب الناس كانوا هكذا. الطريف أن الرجل السلفي الذي أنقذني وكنت من عنف العجينة البشرية الملتحمة أوقاتا لا أري سوي يدي التي يمسكها ولا أراه وأستميت في التمسك بتلك اليد خشية السقوط أرضا.. وأوقاتا كان يدفعنا الزحام إلي الانعجان سويا بحيث أنه لمسني دون قصد بحكم الكتلة الواحدة التي كناها كلنا.. نصحني بعدما عرف أني غير متزوجة بالرجوع للبيت مبكرا كل يوم من الميدان والطريف أني لما نجحت بفضله في الخروج حية وبسلام من الميدان الذي انسحب منه الهواء ذلك اليوم قدمت يدي إليه للمصافحة والشكر فإذا به يقول موضحا دون أن يمد يده " ما باسلمش علي ستات ". لم يقلل هذا من امتناني ومحبتي لما فعله.
‎كنت أشتري بعض البطاطين والمشمع البلاستيك في النهار ليتقي المتظاهرون البرد به.. هذا كان بكميات المشمع- وأخي ساهم معي وزوجته وأمي.. الرجل اللي اشتريت منه البطاطين بعد بدء الاعتصامات لإجبار مبارك علي التنحي كان له شبه كشك وليس محلاً... كان هذا في شارع الجمهورية بوسط البلد ولما سألني من نفسه ملاحظاً الكميات: " هي للتبرع؟" وأجبت بنعم قدم خصماً دون أن أطلب منه كمساهمة منه.. وأيضاً اشتريت كميات من الطواقي الصوف وبعض المخدات والصابون وجلبت مرتبة إسفنجية وسجاجيد صلاة من بيتنا لتوزيعها لكن بربك يا أمجد أنا أحكي لك كصديق فقط وغيري كان يتبرع بكل شئ وماهو أغلي.. الناس استشهدت من كل الطبقات ولا أحكي لك هذا ليكون مادة تباهي أو موضوع قصيدة ولا هو موضوع أصلاً.. مجرد شئ ارويه لصديق. كانت المنتقبات يغنين معنا بينما نغني كلنا ترنيمة قبطية خلف أحد المطربين أو المنشدين الأقباط.. لا أذكر منها سوي الدعاء الجميل "بارك بلادي.. بارك بلادي " نقولها وننظر إلي السماء ونقول أيضا " الله أكبر/ هلل وكبر وقول يا مصر / النصرة تكبر".
‎الطبيب الشاب عمرو أحمد نبيل شقيق زوجة صديق أخي والذي كان يشارك في مداواة الجرحي وإسعاف من يمكن إسعافه سواء بالميدان أو في مستشفي القصر العيني أفاد بأن كل الجثث التي عاينها كانت إصاباتها في مقتل ، إما الرأس أو القلب.
‎ سمعت بجواري في الميدان راجل مش ملتحي بيتكلم في محموله. كان بيقول: " أيوه يا محمد أنا هربت عشان أجي هنا." لما أنهي حديثه لاحظ أني أنظر إليه بدون خوف وأكيد بتعاطف. قال لي بتأثر " يا مدام أنت ما تعرفيش يعني إيه تُعتقلي 4 سنين ". رديت عليه: " مصر كلها كانت معتقلة ". كان الموقف ده قبل التنحي اللي حصل من يومين. أما المشمع البلاستيك فقد نزلت لتسليمه ظهراً قبل التنحي بعدما قدمته خادمتنا لأحد الترزية لتقسيمه إلي أمتار بأحجام معينة. كانت الأمطار قد بدأت وخفت وكنت أبكي لأمي خوفا من أن يمرض المتظاهرون أو ينصرف بعضهم فقالت لي مطمئنة وقتها: "مين عارف؟ المطر خير "..
‎لفت نظري كل مرة كنت أنزل للميدان وجود " بؤر " لم اكن أري من بداخلها إلا لو حمله بعض الشباب.. لكن الحلقات البشرية المتعاظمة حول المركز ورفع الموبايلات إلي أعلي للتسجيل والشعر الذي كنت أسمعه حين أقترب من البؤرة كم كان يطمئنني ويغضبني.. كيف لكل هذه المواهب المجهولة المدفونة لمن لا نعرفهم.. لكل هذا الشعب الفذ.. أن يحكمه واحد مثل مبارك والحزب الوطني كل هذه السنوات؟
‎ أطعمني شاب صغير مراهق علي نفقته علبة كشري ذات يوم ونحن علي الرصيف بالميدان قبل التنحي. كان من الشرابية وحكي عن أن بعض عناصر الوطني كانت توقع بين شباب الأحياء الشعبية لإثارة حرب أهلية علي ما يبدو وقال لي أنهم لولا أنه ورفاقه يعرفون أسماء العديد من شباب المناطق الشعبية المجاورة أو يسمعون بما يحدث داخلها لانطلت عليهم الخدعة بل كانوا يحكون لهم أنهم من الأفضل لو ذهبوا لكباريه أو خمارة ( حسب كلام الشاب الصغير ) ولا يذهبوا لذلك الميدان !!!!.
‎ يوم أطعمني المراهق الشعبي الصغير كان اليوم الوحيد الذي أكلت فيه في الميدان وكان معي ما يربو علي المئة جنيه صباح ذلك اليوم أنفقتها كما يعلم الله وبقي معي جنيهان لم يكفيا زجاجة ماء صغيرة وكيس بسكوت وواحد بسكوت"بيمبو" فإذا بالمبلغ النكتة لا يكفي طبعا سوي لزجاجة المياه الصغيرة التي شربت منها " بق" واحد قبل ذلك بساعة ثم أعطيتها للشاب الذي اطعمني.. شرب ثم أعطاني فشربت وعدت أعطيها له منحة لا ترد ليستفيد أيضاً ويملأها وهو ما فعله.
‎رأيت راجل بسيط بدا كناساً يجاوركل البنات والشباب الذين ينظفون.. كان رقيق الحال وهو يجرجر كيس قمامة أسود عملاق ( قبل التنحي ) ويقول مطالباً بالقمامة: " مبارك زبالة.. زبالة مبارك ". يا للضحكة الصحية غير الخائفة التي منحنا إياها وسط ركام الحزن. كذلك رأيت شابا وسط الزحام يجر كلبين من مقودهما. علي ظهر واحد يمكنك أن تقرأ ورقة عليها اسم مبارك وعلي ظهر الكلب الثاني ورقة عليها اسم زوجته. الناس كانت تضحك.
‎سمعت في يوم وأنا في التحرير قبل التنحي راجل قريب مني بيبحث عن مكان نظيف وطاهر للصلاة وللحق كانت رائحة البول هائلة لعدم وجود حمامات ومراحيض. تحت بوستر عملاق للشهيد مصطفي الصاوي كان مربوطا بين أعمدة الكهرباء والشجر في الميدان ناحية باب اللوق.. البوستر الذي أبكاني مرة بابتسامة صاحبه مفرطة البراءة والذي شاهدت لاحقاً فيلماً توثيقيا عنه كان فوق رأس الرجل مرتفعا. سمعت من يرد علي الرجل الذي يريد الصلاة وتقلقه رائحة البول في منطقة شهدت أكبر عدد من شهداء ثورتنا. الشاب اللي رد عليه قال له: ده أطهر مكان تصلي فيه.
‎هناك رجعت أسمع تاني أغاني عبد الحليم الوطنية " صورة، صورة ، صورة ، كلنا كده عايزين صورة " التي كانت في أذني من ركام الستينات وذكريات طفولتي البعيدة الحلوة التي عادت لها الطراوة والدفا معا ونحن نعيد معا.. كل من يحفظ تلك الأغاني وهي تنطلق من الإستيريوهات ومكبرات الصوت العملاقة بالميدان.. نغني.. ننظر في وجوه بعضنا البعض بفرحة ممتلئة جديدة نستغربها وكانت مسروقة منا لأعمار..حتي الأجيال الجديدة لم تكن تحفظ النشيد الوطني ونحن نستعيده معهم ونستعيد بلدنا من سنوات البغي والظلم والقهر والفساد والذل وكل صور الانحطاط وفحش العدوان علي كل معني جميل أو شئ نبيل. كنا وزميلات لي بجريدتي الجمهورية نتعرض للتشكك من جانب الفتيات اللواتي تقمن بتفتيش السيدات في اللجان الشعبية عند مداخل الميدان. أقدم بطاقتي الصحفية فتري البنت المشرفة اسم الجريدة فتريد منعي من دخول الميدان.. أي والله ومرة سألتني إحداهن عند مدخل الميدان " حتقولي الحقيقة؟".. كنت في نظرهن مذنبة بسبب ارتكابات ومقالات لرؤساء تحرير لطالما منعوني عن الكتابة مثل مانشيت " شهيد البانجو " لرئيس التحرير محمد علي إبراهيم قبل الثورة.
‎كم بكيت يوم ما نشيت الجريدة التي أعمل بها.. مانشيت »شهيد البانجو« بغيظ وانا كنت وحدي في توقيت مبكر في مكتب الأدب بالجريدة. دفعت بالعدد إلي سلة المهملات اسفل المكتب وأنا أدعو الله.
‎ .. أتذكر أني مرة قابلت صدفة أم الشهيد خالد سعيد في الميدان وسلمت عليها وقبلتها ودون أن تعرفني حكيت لها أني كتبت عن ابنها قبل الثورة. رأيت دهشة جميلة خاطفة علي وجهها وكانت تسألني فين ولكن الزحام حال بيني وبينها.
‎نسيت أقول أن ما أحسسته كانت زميلاتي تحكينه لي أيضا.. كنا ننزل التحرير ورغم الجوع والعطش والإعياء نعود بيوتنا ونحن شكلنا أصغر سناً !.. لم أكن لأصدق لولا أن رأيت ضحكتي المنسية تعود وقالت زميلتي فاطمة يوسف بجريدة الجمهورية: " ده علاج نفسي. احنا نتعالج نفسيا والله ".. كانت فاطمة تنزل مع بناتها وكانت خالتي الجدة المسنة مريضة السكر والتي تحقن نفسها بالإنسولين عدة مرات في اليوم تنزل في ميادين الإسماعيلية.
‎في يوم سرت في التحرير إشاعة غير صحيحة عن تنحي مبارك قبل تنحيه.. بدأت أحضن الشباب المراهق الصغير ويحضنوني ويقفزون بطفولة وأحضن البنات.. ثم عرفنا أن الخبر مغلوط.
‎ كان العلم حولي أمتارا وكيلومترات من البهجة الملتمعة تحته رؤوس من وضعوه أعلي رؤوسهم كما هو مكانه فعلا.. وكل من مجموعات أو مجاميع الشباب تهتف بشعار ثم يتغير ونحن نردد خلفهم " احنا شباب الإنترنت، احنا شباب الواد والبت " " دلعو يا دلعو.. ومبارك شعبه خلعه / ومبارك شعبه ذله ".. قيلت حتي قبل التنحي أو بوادره و" أمن الدولة يا أمن الدولة.. أمن الدولة كلاب الدولة.. فين الأمن وفين الدولة " وهذه الأخيرة كنا لسنوات نهتف بها علي سلم نقابتنا.. ومؤخراً " يا شهيد نام وارتاح واحنا نواصل الكفاح.. يا شهيد نام واتهني واستنانا علي باب الجنة..حسني في نار وأنت في جنة ". وأيضاً " عايز حقي. عايز حقي. مبارك سرقني. مبارك دبحني ". رفعنا إيدينا أنا وأخي متعانقة الكفوف لأعلي " إيد واحدة.. إيد واحدة ". بكيت بانهيار من كثرة وجوه الشهداء.. وجوه جديدة كل مرة وقبل التنحي كنت أريد أن أقتل ذلك الرئيس الذي لم نختره ويستحل أموالنا ودماءنا. يهرع الناس ناحيتي لإعطائي بعض المناديل لأجفف دموعي وهم يسألون إذا ما كنت فقدت شهيداً أو تعرضت لإصابة وكنت أوضح أن حزني علي كل شهيد والثار ثارنا كلنا ولن نترك ثارنا كما قلت لإحدي المراسلات الأجنبيات وهي تسألني.
‎ البعض حمل لافتات عليها عبارات تعبر عن هذا الشعب العظيم وطرافته " امشي بقي كفاية تناحة يا تنح " أو " ارحل مراتي وحشتني " أو " ارحل عايز أقيد بنتي في دفتر المواليد " أو " ارحل بقي عايز اروح الحمام " "ارحل بقي إيدي وجعتني " بينما البعض كان يحمل صور شهدائه أو أسمائهم أو لافتة قالت " مرتبي = نص مرتب جزمة وزير " وبعض المدرسات أتين مع أطفالهن أو مع بعض التلاميذ وكان الأطفال يرسمون بالألوان المائية علي اللافتات أو علي الأرض مع الخطاطين عبارات عملاقة من نوع "ارحل يا ظالم" وأيضا صورا أرضية عملاقة لمصر ورمز السلام غصن الزيتون أو علي جداريات متقنة عمودية ويوقع عليها الناس بأسمائهم... شفت هناك تفكيك الجريمة المنظمة اللي تواصلت علي مدي عصور.. مش بس التلاتين سنة بتوع الكلب الراحل أو اللي باتمني محاكمته وإعدامه كما صرنا نهتف مع كل شهيد جديد. قبّلت يد أب أحد الشهداء.. رجل عجوز من كفر الشيخ يرتدي جلبابا لم يكتب اسم ابنه علي اليافطة بيده واكتفي باسم أو صفة " أبو الشهيد " وناقشته في أهمية وضع أو كتابة اسم ابنه لنقوم بالتصوير ثم نضع هذا في مواقع أو علي الفيسبوك. رد العجوز في لحظة وهو يسر لي باسم الشهيد: اسمه محمد إبراهيم الجندي". عندما أصررت عليه بأن يضع الاسم علي اللافتة قال بهدوء: " أنا عارف اللي قتله وحاخد تاره ". قبلت يده وطبطبت علي ذراعه وأنا أدعو له بالصبر وانصرفت.
‎آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه يا أمجد.. جوايا كتير قوي.
‎ ولسه من 3 أيام شفت غريق بالنيل أمام الشيراتون هنا وفكرت لما لا يكون مقتولا تم رميه في النيل خاصة مع الإجرام الذي تكشف والسجون التي ما زال يتم اقتحامها وتهريب من فيها من المجرمين مثلما حدث بسجن المرج أمس.. الأذناب وفلول النظام المجرم مازالت مندسة ومختبئة بيننا تتحين الفرص وتقوم بتخليص " ثاراتها" مع الشعب المنتصر وقابلت بالمترو منذ لحظات شابة ( رضوي ) حكت لي حيثيات استشهاد أستاذ تصوير بكلية التربية الفنية هو الشهيد أحمد بسيوني الأب لطفلين وكانت مراته حاملاً وكنت التقطت صورة لبوستر عليه وجه الشهيد من أيام .
‎أحمد بسيوني هو الشهيد الذي كان يصور بكاميرته كمحترف مشهد قتل أحد القناصة لمواطن. فلما رأي القناص أن الشهيد بسيوني شاهده وصوره انتبه. تحكي " رضوي " التطبيقية التي تم تعيينها منذ ما يقرب من الشهر أن أحمد بسيوني قال لمن حوله " حاجيبه " واتجه بكاميرته إلي القناص بسلاحه.
‎"واجه قاتله وشافه. وقف قصاده ". كانت كلمات رضوي التي ليست قريبة الشهيد. أطلق عليه القناص رصاصة استقرت قرب القلب بحسب رضوي وكان أن جري الشباب ليساعدوه فنهض قائلاً " مفيش حاجه " وهو ينزف ورأي الشباب حوله القناص يعطي أمراً باللاسلكي فإذا بعربة أو مدرعة شرطة تأتي عليه علي الشهيد فوراً وتدهسه لتكمل وتضمن قتله وقد جري الشباب من حوله. سألت " رضوي": " هل استطاع أحد إنقاذ الكاميرا بما فيها من صور؟ ". قالت: " لا أعرف ".
‎ وصديق شهيد آخر هو إسلام بكير الذي ما زالت خطيبته شبه ذاهلة علي سريره ولا تصدق بل تنتظر عودته وحكي لي صديقه بالميدان كيف كان الشهيد إذا تخاصما لا يصبر لليوم التالي علي ذلك بل يذهب نفس الليلة ليصالحه وكيف أصيب الشهيد إسلام برصاصة مطاطية لكنه نزل الميدان اليوم التالي ليردوه قتيلا بما يقرب من 11 رصاصة كل منها في مقتل كدأب القناصة المحترفين....الحكايات لا تنتهي.
‎قابلت أصدقاء الشهيد محمد السعيد وقمت بتصوير لافتة كرتون بسيطة يحملها شقيق الشهيد" هيثم " الذي كان سيتزوج قريباً. اسم الشهيد علي جزء من علبة كرتونية مهترئة.
‎حول علم مصر الممتد طويلاً علي الأرض ولا أحد يدوس أو يدهس أو يطأ بقدمه عليه رغم شدة الزحام تجمع بعض الملتحين وأعضاء الجماعة السلفية وبجوارهم صبي أو فتي بدأ مراهقته. كان شكله يبدو ، لو شاهدته في ظروف أخري ، كمتشرد أو طفل شوارع. إنه " عماد " شقيق الشهيد " عمر أحمد سليمان". كتب عماد اسم شقيقه علي العلم بقلم فلوماستر أسود مع وعد الثأر له. "عماد " كان من الممكن أن يكون في الجانب الآخر الذي يتم تجنيده ورشوته بوجبة وبعض الجنيهات للهتاف ضد من يطلبون حقوقه هو وأمثاله لكن فطرته وشعوره بالظلم كان طبيعيا. حكي لي عماد أن شقيقه الشهيد " عمر" هو الذي نزل به للمظاهرات ولم يكن عماد يريد النزول. اتجه " عمر " الشهيد يوم 28 يناير ناحية مبني وزارة الداخلية في الشارع المتفرع من ميدان التحرير الكائنة به الوزارة. استشهد " عمر " بطلق ناري من أحد قناصة وزارة الداخلية في جبينه بين العينين تماماً كما أشار شقيقه عماد إلي رأسه وهو يحدثني. يقول عماد " حد حيرجعلي أخويا؟ ! ". عماد ، الذي تكلم إلي وسائل الإعلام الأجنبية عبر ترجمتي ، ظل مقيماً في الميدان بل أنه عاد إليه بعد دفن شقيقه.
‎عرفت من صديق الشهيد " أمير " ( قرأت اسم أمير لاحقاً في جريدة الأهرام بين الشهداء. ربما يكون هو أمير محمد عبده ) أنهم ظلوا يبحثون عنه 4 أيام ثم وجدوه في ثلاجة القصر العيني. قمت بتعزية شابة مصرية لا ترتدي الأسود في استشهاد أخيها , في ميدان التحرير بعدما قرأت اللافتة التي تحملها المكلومة.
‎قابلت صديق الشهيد المحامي " محمد علي عيد ". كان الشهيد لا يعمل وعمره 30 سنة وكانت تلك المرة التي نزل واستشهد فيها - بحسب كلام صديقه هي المرة الأولي له في مظاهرة.
‎أيضاً قمت بتصوير صور وبوسترات العديد جداً من الشهداء والشهيدات بالموبايل عدا الصور التي التقطتها والأمن المركزي يهجم علينا بالغازات المسيلة للدموع والرصاص المطاطي والخرطوش الذي ملأ أجسام الشباب أمامي كالخرز وسمعنا أن الغازات كانت ككل شئ في مصر ، منتهية الصلاحية ، وسمعنا أن هناك رصاصاً انشطارياً ربما يكون بعض ما رأيته يوم 28 يناير هو كذلك وأنا لا أعرف في " أنواع " الرصاص لكن عرفنا حكاية الرصاص الحي سريعاً بينما كنا نوالي النزول للميدان. فمثلا يوم 29 يناير في الميدان وبجوار شاب ثقيل اللسان قال لي أنه ترك بيته إلي الميدان تاركاً عائلته تظن أنه اختفي في مكان ما ليمارس تعاطي المخدرات.. كان يعاملني بشكل أحسست معه بالأذي من شدة ما تعود أن يعامل بي طبقتي من احترام يتحول في ظروف أخري لمهانة.. لم يكن يهين نفسه الآن لكن المعاملة كلها.. خاصة وقد كان بالجوار رجل عجوز قال أن مهنته المحاماة أو كانت المحاماة وسمح لي إن أردت أن أسند جسمي علي موتوسيكله الخاص .. هذه المعاملة التي ذكرتني بقبح ما ثرنا ضده.. الطبقية وعدم تكافؤ الفرص ، المحسوبية والفساد والبطالة.. كلها لم يخترقها سوي تساؤل متشكك من الرجل المحامي العجوز حين سمعت صوت رصاص أو ما بدا كأعيرة نارية.. صوت عنيف جدا قادم من شارع محمد محمود فلما سألته أجاب (الرجل المحامي): " إيه صوت الرصاص الحي.. مش عارفاه؟؟!".. كان هذا بعدما عرفا أني أعمل بجريدة الجمهورية.. نبرة الشك ونظرة عين الرجل المحامي كانت جارحة متهِمة.
‎محافظة الجيزة قامت سريعاً بطلاء العديد من الأسوار المعدنية في شارع التحرير بالدقي حتي قبل التنحي والتي كنت قد صورت عليها تعبيرات تنادي بسقوط النظام أو تصف حسني مبارك وشلته ب " الحراميه ".
‎أحد الأجانب من السياح كان في طريقي وأنا ذاهبة إلي ميدان التحريرصباح السبت 29 يناير وحدثني مشيراً إلي سيدة شعبية بدينة تدير مجموعة من أطفال الشوارع نصف عرايا ، أحدهم قدمه مجروحة ملوثة تماما وقال لي السائح " إن الطفل يحتاج للعلاج ". بدأ السائح الشاب يبكي وأنا أحكي له ما حدث لنا اليوم السابق وهو الجمعة 28 يناير في نفس المكان. قال لي السائح:" أنا اشعر بالأسف والشفقة عليكم ". قلت له " تمنَ لنا أن ننتصر. نحن لطالما اشفقنا علي أنفسنا ولكن ليس بعد الآن. تعاطف معنا فقط ". ظل السائح يدعو لنا بالنصر والتوفيق.
‎ كانت عربات الأمن المركزي بجوار السيدة والأطفال الذين ذكرتهم . كانت السيدة تأمرهم ب " شفط " البنزين بخرطوم بدائي من مدرعة الأمن المركزي في جراكن أمام قسم شرطة الدقي. قمت بالتحدث إليها مستفسرة وأجابت ببجاحة أنها تريد إشعال النار في القسم لتحرير بعض أقاربها بداخله. لم أصدقها فقد كانت تبدو كمن تريد بيع البنزين. اقتربت من ضابط شاب بالأمن المركزي علي بعد مترين من السيدة التي تفعل هذا وتقوم بتفريغ البنزين من مدرعة زملائهم وقلت له: " لو سمحت المفروض أن أنتو أعداءنا لكن عايزة اقولك علي حاجة شفتها ". أجاب: " آه وأنا بأه المفروض أحس بإيه وأنتي بتقولي " أعداءنا "؟!.
‎ده كان يوم 29 يناير وفاكراه كويس. يوم سبت يومها شفت الممثلة جيهان فاضل في الدقي في سيارتها. قلت للضابط الشاب " اعذرني بس أنا وقعت من الغاز إمبارح هنا وأنا صحفية. عايزة أحكيلك علي الست المشبوهة اللي شكلها قواده أو مخيفة وهي مجندة أطفال شوارع يسحبولها بنزين من المدرعة دي " وأشرت بيدي إلي ما كنت أحكيه. قلت له " أنا باقولك عن كلامها أنها عايزة تحرق القسم ( قسم شرطة الدقي ) عشان يبقي فيه حد عرف ". شكرني واتجهت إلي ميدان التحرير مشياً طبعاً.
‎لعلك رأيت في الفضائيات المسجد الذي تم تحويله لمستشفي ميداني فواصل المجرمون ضربه بالقنابل المسيلة للدموع والغازات إياها التي أسقطونا بها يوم 28 يناير حين سقطت بالفعل نتيجة الغاز فخرج إمام المسجد- المستشفي يرجوهم أن يحترموا حرمة المكان وخاصة أن هناك جثث بالداخل لم يتم إخراجها منه بعد.. يعني لو في حرب مع إسرائيل لا نصدق أنها كانت ستفعل بنا ما هو أكثر أو أجرم !!!
‎سامحني لا أستطيع التجاوب مع أي شئ آخر أو اية حالة أخري ولفترة
‎حماك الله وأولادك الذين من المحتمل جدا أن أكون رايتهم ورأوني دون أن نعرف سوي أننا جميعا لم نعد نحتمل الظلم والذل والفساد
‎محبتي واحترامي بل كل الإعزاز يا أمجد
‎غادة
‎13 فبراير 2011
‎المتاريس
‎أمجد العزيز
‎للتو قرأتها.
‎لو تشوف يوم التنحي! كنت في البيت وأول لما شفت بيان رسمي في التليفزيون ذ مش فاكرة رقم كام ذ تركت الصالة . كنت في يأس أن يتنحي من نفسه وبدأت أشعر أن القادة العسكريين يشعرون بالحرج من إجباره علي ذلك .
‎فجأة صرخ أخي ! " أيوه .. أيوه . خلاص .... خلاص ".
‎قفزت إلي الصالة في لحظة وأنا أبكي و أنظر للتليفزيون . ثم احتضنني أخي بقوة وانفعال واتجهنا للنافذة . فتحها وظل يهتف ويهلل بالنصر وإن مبارك خلاص ... ال .. خلاص . الناس في الشارع كانت ينظرون إلي مصدر الصوت .. بيتنا في الطابق الثالث ويستفسرون بسعادة .
‎نزلنا نفس يوم التنحي قاصدين التحرير أنا وأخي وزوجته . تركنا أولاده مع ماما التي كانت تريد وتتمني النزول من أول يوم للثورة وكنا نمنعها . كمية النور في المكان تجعل العيون تشعر كما لو كان أحد الكواكب ينفجر أو يولد . لم نستطع الوصول للتحرير نفسه بل لأقرب نقطة منه فقط . شاهدنا شبابا يحمل علم مصر ويحركه بروعة كأنها لحظة حب ينفجر في أرواح الجميع فجأة . كان بعض الشباب يصعد علي الأسدين البرونزعند كوبري قصر النيل .. بلا خوف من السقوط وهم يلوحون بالعلم .. لا نشعر بأي برد يوم 11 فبراير . نضحك كلنا وننظر في عيون بعضنا البعض دون ذرة تفكير أو تحسب لأي خاطر اجتماعي... الرجال والنساء .. كل الغرباء والغريبات عائلة واحدة تحتفل بنفس البهجة.
‎" ارفع راسك فوق إنت مصري ! ارفع راسك فوق إنت مصري " . غنيناها معهم .. هذه النعمة لم نعرفها من عقود . الفرح كان تصميم الشعب علي إعادة كتابة تاريخه عبر الاعتصام .. من أجل " عيش . حرية . عدالة اجتماعية " . أثناء الاعتصام قبل التنحي
‎ لم أكن أتعاطي الإنترنت إلا نادرا لأنني يومياً تقريبا هناك مع الناس أو من صاروا يصنفون كمتظاهرين وكلما ذهبت بموبايلي المتواضع وليس بكاميرا خاصة بعدما صارت رديفاً لقتلك.. أصور المزيد من بوسترات لوجوه الشهداء والشهيدات والأطفال الشهداء.. أوقاتا كنت أنفجر في البكاء من الأعداد الكثيرة والأسماء الجديدة في كل مرة للشهداء أو لأن الوجوه مشوهة وبلا أسماء حتي. كنت أقابل أهالي الشهداء وأخواتهم والآباء والأعمام وأصدقائهم يحملون صورهم أو يجلسون أمامها. أخي المتزوج الأب شارك قبل التنحي أكثر من مرة وشارك وزوجته في التنظيف بعد التنحي. كل من يملك شيئا هناك كان يتقاسمه ومرة أعطتني سيدة آخر ربع قطرة ماء من زجاجة ماء لم تطفئ عطشي حيث كنت أحيانا أظل بلا ماء من الصباح حتي التاسعة مساء حين أعود لأنام في سريري الدافئ والناس ينامون علي الأرصفة وشوارع الميدان التي بدأت رائحة البول تفوح منها.. وكنا نحلم بمكان فارغ عليها لنجلس , من شدة التعب وأري الفنانين والمعاقين علي كراسي متحركة والأطفال الرضع بين أيدي أمهاتهن ولأول مرة لا أشعر بالغضب والرفض تجاه المنتقبات والملتحين حيث كان بعضهن وبعضهم هم من يقومون أو يقمن بتهدئة غضبي ويتحملن.. السيدات .. تعبيري النادم عن موقفي القديم السابق الرافض لهن والمنكمش منهن فترد الواحدة بهدوء كلنا إخوات. بل إن واحدا من الملتحين يلبس جلبابا ومتزوج من إثنتين هو من أنقذني من الوقوع علي الأرض وسط العجينة البشرية المليونية بينما أحاول عبور الميدان من آخره الذي كنت بلغته.. رجوعا إلي أوله مرة أخري لأجلب بطانية من لجنة التنظيم لمواطن مع أسرته جاء من دمنهور فضاع مني ذلك المواطن في الزحام الذي كيوم الحشر... كدت اسقط وكل من حولي أطول مني ولا يمكن سماع صوتي من شدة وارتفاع الهتافات. ده قبل التنحي ولكني تذكرت مكان كومة البلاستيك الرفيع الذي من جهتين علي ناصية مبني وزارة الخارجية القديم لأنك لا تستطيع تسمية " الدروة" التي كانت مفتوحة ويمكن العصف بها من أقل نسمة هواء حيث احتمت تلك الأسرة بها علي الأرض كغيرها.. لا تستطيع تسميتها خيمة وأغلب الناس كانوا هكذا. الطريف أن الرجل السلفي الذي أنقذني وكنت من عنف العجينة البشرية الملتحمة أوقاتا لا أري سوي يدي التي يمسكها ولا أراه وأستميت في التمسك بتلك اليد خشية السقوط أرضا.. وأوقاتا كان يدفعنا الزحام إلي الانعجان سويا بحيث أنه لمسني دون قصد بحكم الكتلة الواحدة التي كناها كلنا.. نصحني بعدما عرف أني غير متزوجة بالرجوع للبيت مبكرا كل يوم من الميدان والطريف أني لما نجحت بفضله في الخروج حية وبسلام من الميدان الذي انسحب منه الهواء ذلك اليوم قدمت يدي إليه للمصافحة والشكر فإذا به يقول موضحا دون أن يمد يده " ما باسلمش علي ستات ". لم يقلل هذا من امتناني ومحبتي لما فعله.
‎كنت أشتري بعض البطاطين والمشمع البلاستيك في النهار ليتقي المتظاهرون البرد به.. هذا كان بكميات المشمع- وأخي ساهم معي وزوجته وأمي.. الرجل اللي اشتريت منه البطاطين بعد بدء الاعتصامات لإجبار مبارك علي التنحي كان له شبه كشك وليس محلاً... كان هذا في شارع الجمهورية بوسط البلد ولما سألني من نفسه ملاحظاً الكميات: " هي للتبرع؟" وأجبت بنعم قدم خصماً دون أن أطلب منه كمساهمة منه.. وأيضاً اشتريت كميات من الطواقي الصوف وبعض المخدات والصابون وجلبت مرتبة إسفنجية وسجاجيد صلاة من بيتنا لتوزيعها لكن بربك يا أمجد أنا أحكي لك كصديق فقط وغيري كان يتبرع بكل شئ وماهو أغلي.. الناس استشهدت من كل الطبقات ولا أحكي لك هذا ليكون مادة تباهي أو موضوع قصيدة ولا هو موضوع أصلاً.. مجرد شئ ارويه لصديق. كانت المنتقبات يغنين معنا بينما نغني كلنا ترنيمة قبطية خلف أحد المطربين أو المنشدين الأقباط.. لا أذكر منها سوي الدعاء الجميل "بارك بلادي.. بارك بلادي " نقولها وننظر إلي السماء ونقول أيضا " الله أكبر/ هلل وكبر وقول يا مصر / النصرة تكبر".
‎الطبيب الشاب عمرو أحمد نبيل شقيق زوجة صديق أخي والذي كان يشارك في مداواة الجرحي وإسعاف من يمكن إسعافه سواء بالميدان أو في مستشفي القصر العيني أفاد بأن كل الجثث التي عاينها كانت إصاباتها في مقتل ، إما الرأس أو القلب.
‎ سمعت بجواري في الميدان راجل مش ملتحي بيتكلم في محموله. كان بيقول: " أيوه يا محمد أنا هربت عشان أجي هنا." لما أنهي حديثه لاحظ أني أنظر إليه بدون خوف وأكيد بتعاطف. قال لي بتأثر " يا مدام أنت ما تعرفيش يعني إيه تُعتقلي 4 سنين ". رديت عليه: " مصر كلها كانت معتقلة ". كان الموقف ده قبل التنحي اللي حصل من يومين. أما المشمع البلاستيك فقد نزلت لتسليمه ظهراً قبل التنحي بعدما قدمته خادمتنا لأحد الترزية لتقسيمه إلي أمتار بأحجام معينة. كانت الأمطار قد بدأت وخفت وكنت أبكي لأمي خوفا من أن يمرض المتظاهرون أو ينصرف بعضهم فقالت لي مطمئنة وقتها: "مين عارف؟ المطر خير "..
‎لفت نظري كل مرة كنت أنزل للميدان وجود " بؤر " لم اكن أري من بداخلها إلا لو حمله بعض الشباب.. لكن الحلقات البشرية المتعاظمة حول المركز ورفع الموبايلات إلي أعلي للتسجيل والشعر الذي كنت أسمعه حين أقترب من البؤرة كم كان يطمئنني ويغضبني.. كيف لكل هذه المواهب المجهولة المدفونة لمن لا نعرفهم.. لكل هذا الشعب الفذ.. أن يحكمه واحد مثل مبارك والحزب الوطني كل هذه السنوات؟
‎ أطعمني شاب صغير مراهق علي نفقته علبة كشري ذات يوم ونحن علي الرصيف بالميدان قبل التنحي. كان من الشرابية وحكي عن أن بعض عناصر الوطني كانت توقع بين شباب الأحياء الشعبية لإثارة حرب أهلية علي ما يبدو وقال لي أنهم لولا أنه ورفاقه يعرفون أسماء العديد من شباب المناطق الشعبية المجاورة أو يسمعون بما يحدث داخلها لانطلت عليهم الخدعة بل كانوا يحكون لهم أنهم من الأفضل لو ذهبوا لكباريه أو خمارة ( حسب كلام الشاب الصغير ) ولا يذهبوا لذلك الميدان !!!!.
‎ يوم أطعمني المراهق الشعبي الصغير كان اليوم الوحيد الذي أكلت فيه في الميدان وكان معي ما يربو علي المئة جنيه صباح ذلك اليوم أنفقتها كما يعلم الله وبقي معي جنيهان لم يكفيا زجاجة ماء صغيرة وكيس بسكوت وواحد بسكوت"بيمبو" فإذا بالمبلغ النكتة لا يكفي طبعا سوي لزجاجة المياه الصغيرة التي شربت منها " بق" واحد قبل ذلك بساعة ثم أعطيتها للشاب الذي اطعمني.. شرب ثم أعطاني فشربت وعدت أعطيها له منحة لا ترد ليستفيد أيضاً ويملأها وهو ما فعله.
‎رأيت راجل بسيط بدا كناساً يجاوركل البنات والشباب الذين ينظفون.. كان رقيق الحال وهو يجرجر كيس قمامة أسود عملاق ( قبل التنحي ) ويقول مطالباً بالقمامة: " مبارك زبالة.. زبالة مبارك ". يا للضحكة الصحية غير الخائفة التي منحنا إياها وسط ركام الحزن. كذلك رأيت شابا وسط الزحام يجر كلبين من مقودهما. علي ظهر واحد يمكنك أن تقرأ ورقة عليها اسم مبارك وعلي ظهر الكلب الثاني ورقة عليها اسم زوجته. الناس كانت تضحك.
‎سمعت في يوم وأنا في التحرير قبل التنحي راجل قريب مني بيبحث عن مكان نظيف وطاهر للصلاة وللحق كانت رائحة البول هائلة لعدم وجود حمامات ومراحيض. تحت بوستر عملاق للشهيد مصطفي الصاوي كان مربوطا بين أعمدة الكهرباء والشجر في الميدان ناحية باب اللوق.. البوستر الذي أبكاني مرة بابتسامة صاحبه مفرطة البراءة والذي شاهدت لاحقاً فيلماً توثيقيا عنه كان فوق رأس الرجل مرتفعا. سمعت من يرد علي الرجل الذي يريد الصلاة وتقلقه رائحة البول في منطقة شهدت أكبر عدد من شهداء ثورتنا. الشاب اللي رد عليه قال له: ده أطهر مكان تصلي فيه.
‎هناك رجعت أسمع تاني أغاني عبد الحليم الوطنية " صورة، صورة ، صورة ، كلنا كده عايزين صورة " التي كانت في أذني من ركام الستينات وذكريات طفولتي البعيدة الحلوة التي عادت لها الطراوة والدفا معا ونحن نعيد معا.. كل من يحفظ تلك الأغاني وهي تنطلق من الإستيريوهات ومكبرات الصوت العملاقة بالميدان.. نغني.. ننظر في وجوه بعضنا البعض بفرحة ممتلئة جديدة نستغربها وكانت مسروقة منا لأعمار..حتي الأجيال الجديدة لم تكن تحفظ النشيد الوطني ونحن نستعيده معهم ونستعيد بلدنا من سنوات البغي والظلم والقهر والفساد والذل وكل صور الانحطاط وفحش العدوان علي كل معني جميل أو شئ نبيل. كنا وزميلات لي بجريدتي الجمهورية نتعرض للتشكك من جانب الفتيات اللواتي تقمن بتفتيش السيدات في اللجان الشعبية عند مداخل الميدان. أقدم بطاقتي الصحفية فتري البنت المشرفة اسم الجريدة فتريد منعي من دخول الميدان.. أي والله ومرة سألتني إحداهن عند مدخل الميدان " حتقولي الحقيقة؟".. كنت في نظرهن مذنبة بسبب ارتكابات ومقالات لرؤساء تحرير لطالما منعوني عن الكتابة مثل مانشيت " شهيد البانجو " لرئيس التحرير محمد علي إبراهيم قبل الثورة.
‎كم بكيت يوم ما نشيت الجريدة التي أعمل بها.. مانشيت »شهيد البانجو« بغيظ وانا كنت وحدي في توقيت مبكر في مكتب الأدب بالجريدة. دفعت بالعدد إلي سلة المهملات اسفل المكتب وأنا أدعو الله.
‎ .. أتذكر أني مرة قابلت صدفة أم الشهيد خالد سعيد في الميدان وسلمت عليها وقبلتها ودون أن تعرفني حكيت لها أني كتبت عن ابنها قبل الثورة. رأيت دهشة جميلة خاطفة علي وجهها وكانت تسألني فين ولكن الزحام حال بيني وبينها.
‎نسيت أقول أن ما أحسسته كانت زميلاتي تحكينه لي أيضا.. كنا ننزل التحرير ورغم الجوع والعطش والإعياء نعود بيوتنا ونحن شكلنا أصغر سناً !.. لم أكن لأصدق لولا أن رأيت ضحكتي المنسية تعود وقالت زميلتي فاطمة يوسف بجريدة الجمهورية: " ده علاج نفسي. احنا نتعالج نفسيا والله ".. كانت فاطمة تنزل مع بناتها وكانت خالتي الجدة المسنة مريضة السكر والتي تحقن نفسها بالإنسولين عدة مرات في اليوم تنزل في ميادين الإسماعيلية.
‎في يوم سرت في التحرير إشاعة غير صحيحة عن تنحي مبارك قبل تنحيه.. بدأت أحضن الشباب المراهق الصغير ويحضنوني ويقفزون بطفولة وأحضن البنات.. ثم عرفنا أن الخبر مغلوط.
‎ كان العلم حولي أمتارا وكيلومترات من البهجة الملتمعة تحته رؤوس من وضعوه أعلي رؤوسهم كما هو مكانه فعلا.. وكل من مجموعات أو مجاميع الشباب تهتف بشعار ثم يتغير ونحن نردد خلفهم " احنا شباب الإنترنت، احنا شباب الواد والبت " " دلعو يا دلعو.. ومبارك شعبه خلعه / ومبارك شعبه ذله ".. قيلت حتي قبل التنحي أو بوادره و" أمن الدولة يا أمن الدولة.. أمن الدولة كلاب الدولة.. فين الأمن وفين الدولة " وهذه الأخيرة كنا لسنوات نهتف بها علي سلم نقابتنا.. ومؤخراً " يا شهيد نام وارتاح واحنا نواصل الكفاح.. يا شهيد نام واتهني واستنانا علي باب الجنة..حسني في نار وأنت في جنة ". وأيضاً " عايز حقي. عايز حقي. مبارك سرقني. مبارك دبحني ". رفعنا إيدينا أنا وأخي متعانقة الكفوف لأعلي " إيد واحدة.. إيد واحدة ". بكيت بانهيار من كثرة وجوه الشهداء.. وجوه جديدة كل مرة وقبل التنحي كنت أريد أن أقتل ذلك الرئيس الذي لم نختره ويستحل أموالنا ودماءنا. يهرع الناس ناحيتي لإعطائي بعض المناديل لأجفف دموعي وهم يسألون إذا ما كنت فقدت شهيداً أو تعرضت لإصابة وكنت أوضح أن حزني علي كل شهيد والثار ثارنا كلنا ولن نترك ثارنا كما قلت لإحدي المراسلات الأجنبيات وهي تسألني.
‎ البعض حمل لافتات عليها عبارات تعبر عن هذا الشعب العظيم وطرافته " امشي بقي كفاية تناحة يا تنح " أو " ارحل مراتي وحشتني " أو " ارحل عايز أقيد بنتي في دفتر المواليد " أو " ارحل بقي عايز اروح الحمام " "ارحل بقي إيدي وجعتني " بينما البعض كان يحمل صور شهدائه أو أسمائهم أو لافتة قالت " مرتبي = نص مرتب جزمة وزير " وبعض المدرسات أتين مع أطفالهن أو مع بعض التلاميذ وكان الأطفال يرسمون بالألوان المائية علي اللافتات أو علي الأرض مع الخطاطين عبارات عملاقة من نوع "ارحل يا ظالم" وأيضا صورا أرضية عملاقة لمصر ورمز السلام غصن الزيتون أو علي جداريات متقنة عمودية ويوقع عليها الناس بأسمائهم... شفت هناك تفكيك الجريمة المنظمة اللي تواصلت علي مدي عصور.. مش بس التلاتين سنة بتوع الكلب الراحل أو اللي باتمني محاكمته وإعدامه كما صرنا نهتف مع كل شهيد جديد. قبّلت يد أب أحد الشهداء.. رجل عجوز من كفر الشيخ يرتدي جلبابا لم يكتب اسم ابنه علي اليافطة بيده واكتفي باسم أو صفة " أبو الشهيد " وناقشته في أهمية وضع أو كتابة اسم ابنه لنقوم بالتصوير ثم نضع هذا في مواقع أو علي الفيسبوك. رد العجوز في لحظة وهو يسر لي باسم الشهيد: اسمه محمد إبراهيم الجندي". عندما أصررت عليه بأن يضع الاسم علي اللافتة قال بهدوء: " أنا عارف اللي قتله وحاخد تاره ". قبلت يده وطبطبت علي ذراعه وأنا أدعو له بالصبر وانصرفت.
‎آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه يا أمجد.. جوايا كتير قوي.
‎ ولسه من 3 أيام شفت غريق بالنيل أمام الشيراتون هنا وفكرت لما لا يكون مقتولا تم رميه في النيل خاصة مع الإجرام الذي تكشف والسجون التي ما زال يتم اقتحامها وتهريب من فيها من المجرمين مثلما حدث بسجن المرج أمس.. الأذناب وفلول النظام المجرم مازالت مندسة ومختبئة بيننا تتحين الفرص وتقوم بتخليص " ثاراتها" مع الشعب المنتصر وقابلت بالمترو منذ لحظات شابة ( رضوي ) حكت لي حيثيات استشهاد أستاذ تصوير بكلية التربية الفنية هو الشهيد أحمد بسيوني الأب لطفلين وكانت مراته حاملاً وكنت التقطت صورة لبوستر عليه وجه الشهيد من أيام .
‎أحمد بسيوني هو الشهيد الذي كان يصور بكاميرته كمحترف مشهد قتل أحد القناصة لمواطن. فلما رأي القناص أن الشهيد بسيوني شاهده وصوره انتبه. تحكي " رضوي " التطبيقية التي تم تعيينها منذ ما يقرب من الشهر أن أحمد بسيوني قال لمن حوله " حاجيبه " واتجه بكاميرته إلي القناص بسلاحه.
‎"واجه قاتله وشافه. وقف قصاده ". كانت كلمات رضوي التي ليست قريبة الشهيد. أطلق عليه القناص رصاصة استقرت قرب القلب بحسب رضوي وكان أن جري الشباب ليساعدوه فنهض قائلاً " مفيش حاجه " وهو ينزف ورأي الشباب حوله القناص يعطي أمراً باللاسلكي فإذا بعربة أو مدرعة شرطة تأتي عليه علي الشهيد فوراً وتدهسه لتكمل وتضمن قتله وقد جري الشباب من حوله. سألت " رضوي": " هل استطاع أحد إنقاذ الكاميرا بما فيها من صور؟ ". قالت: " لا أعرف ".
‎ وصديق شهيد آخر هو إسلام بكير الذي ما زالت خطيبته شبه ذاهلة علي سريره ولا تصدق بل تنتظر عودته وحكي لي صديقه بالميدان كيف كان الشهيد إذا تخاصما لا يصبر لليوم التالي علي ذلك بل يذهب نفس الليلة ليصالحه وكيف أصيب الشهيد إسلام برصاصة مطاطية لكنه نزل الميدان اليوم التالي ليردوه قتيلا بما يقرب من 11 رصاصة كل منها في مقتل كدأب القناصة المحترفين....الحكايات لا تنتهي.
‎قابلت أصدقاء الشهيد محمد السعيد وقمت بتصوير لافتة كرتون بسيطة يحملها شقيق الشهيد" هيثم " الذي كان سيتزوج قريباً. اسم الشهيد علي جزء من علبة كرتونية مهترئة.
‎حول علم مصر الممتد طويلاً علي الأرض ولا أحد يدوس أو يدهس أو يطأ بقدمه عليه رغم شدة الزحام تجمع بعض الملتحين وأعضاء الجماعة السلفية وبجوارهم صبي أو فتي بدأ مراهقته. كان شكله يبدو ، لو شاهدته في ظروف أخري ، كمتشرد أو طفل شوارع. إنه " عماد " شقيق الشهيد " عمر أحمد سليمان". كتب عماد اسم شقيقه علي العلم بقلم فلوماستر أسود مع وعد الثأر له. "عماد " كان من الممكن أن يكون في الجانب الآخر الذي يتم تجنيده ورشوته بوجبة وبعض الجنيهات للهتاف ضد من يطلبون حقوقه هو وأمثاله لكن فطرته وشعوره بالظلم كان طبيعيا. حكي لي عماد أن شقيقه الشهيد " عمر" هو الذي نزل به للمظاهرات ولم يكن عماد يريد النزول. اتجه " عمر " الشهيد يوم 28 يناير ناحية مبني وزارة الداخلية في الشارع المتفرع من ميدان التحرير الكائنة به الوزارة. استشهد " عمر " بطلق ناري من أحد قناصة وزارة الداخلية في جبينه بين العينين تماماً كما أشار شقيقه عماد إلي رأسه وهو يحدثني. يقول عماد " حد حيرجعلي أخويا؟ ! ". عماد ، الذي تكلم إلي وسائل الإعلام الأجنبية عبر ترجمتي ، ظل مقيماً في الميدان بل أنه عاد إليه بعد دفن شقيقه.
‎عرفت من صديق الشهيد " أمير " ( قرأت اسم أمير لاحقاً في جريدة الأهرام بين الشهداء. ربما يكون هو أمير محمد عبده ) أنهم ظلوا يبحثون عنه 4 أيام ثم وجدوه في ثلاجة القصر العيني. قمت بتعزية شابة مصرية لا ترتدي الأسود في استشهاد أخيها , في ميدان التحرير بعدما قرأت اللافتة التي تحملها المكلومة.
‎قابلت صديق الشهيد المحامي " محمد علي عيد ". كان الشهيد لا يعمل وعمره 30 سنة وكانت تلك المرة التي نزل واستشهد فيها - بحسب كلام صديقه هي المرة الأولي له في مظاهرة.
‎أيضاً قمت بتصوير صور وبوسترات العديد جداً من الشهداء والشهيدات بالموبايل عدا الصور التي التقطتها والأمن المركزي يهجم علينا بالغازات المسيلة للدموع والرصاص المطاطي والخرطوش الذي ملأ أجسام الشباب أمامي كالخرز وسمعنا أن الغازات كانت ككل شئ في مصر ، منتهية الصلاحية ، وسمعنا أن هناك رصاصاً انشطارياً ربما يكون بعض ما رأيته يوم 28 يناير هو كذلك وأنا لا أعرف في " أنواع " الرصاص لكن عرفنا حكاية الرصاص الحي سريعاً بينما كنا نوالي النزول للميدان. فمثلا يوم 29 يناير في الميدان وبجوار شاب ثقيل اللسان قال لي أنه ترك بيته إلي الميدان تاركاً عائلته تظن أنه اختفي في مكان ما ليمارس تعاطي المخدرات.. كان يعاملني بشكل أحسست معه بالأذي من شدة ما تعود أن يعامل بي طبقتي من احترام يتحول في ظروف أخري لمهانة.. لم يكن يهين نفسه الآن لكن المعاملة كلها.. خاصة وقد كان بالجوار رجل عجوز قال أن مهنته المحاماة أو كانت المحاماة وسمح لي إن أردت أن أسند جسمي علي موتوسيكله الخاص .. هذه المعاملة التي ذكرتني بقبح ما ثرنا ضده.. الطبقية وعدم تكافؤ الفرص ، المحسوبية والفساد والبطالة.. كلها لم يخترقها سوي تساؤل متشكك من الرجل المحامي العجوز حين سمعت صوت رصاص أو ما بدا كأعيرة نارية.. صوت عنيف جدا قادم من شارع محمد محمود فلما سألته أجاب (الرجل المحامي): " إيه صوت الرصاص الحي.. مش عارفاه؟؟!".. كان هذا بعدما عرفا أني أعمل بجريدة الجمهورية.. نبرة الشك ونظرة عين الرجل المحامي كانت جارحة متهِمة.
‎محافظة الجيزة قامت سريعاً بطلاء العديد من الأسوار المعدنية في شارع التحرير بالدقي حتي قبل التنحي والتي كنت قد صورت عليها تعبيرات تنادي بسقوط النظام أو تصف حسني مبارك وشلته ب " الحراميه ".
‎أحد الأجانب من السياح كان في طريقي وأنا ذاهبة إلي ميدان التحريرصباح السبت 29 يناير وحدثني مشيراً إلي سيدة شعبية بدينة تدير مجموعة من أطفال الشوارع نصف عرايا ، أحدهم قدمه مجروحة ملوثة تماما وقال لي السائح " إن الطفل يحتاج للعلاج ". بدأ السائح الشاب يبكي وأنا أحكي له ما حدث لنا اليوم السابق وهو الجمعة 28 يناير في نفس المكان. قال لي السائح:" أنا اشعر بالأسف والشفقة عليكم ". قلت له " تمنَ لنا أن ننتصر. نحن لطالما اشفقنا علي أنفسنا ولكن ليس بعد الآن. تعاطف معنا فقط ". ظل السائح يدعو لنا بالنصر والتوفيق.
‎ كانت عربات الأمن المركزي بجوار السيدة والأطفال الذين ذكرتهم . كانت السيدة تأمرهم ب " شفط " البنزين بخرطوم بدائي من مدرعة الأمن المركزي في جراكن أمام قسم شرطة الدقي. قمت بالتحدث إليها مستفسرة وأجابت ببجاحة أنها تريد إشعال النار في القسم لتحرير بعض أقاربها بداخله. لم أصدقها فقد كانت تبدو كمن تريد بيع البنزين. اقتربت من ضابط شاب بالأمن المركزي علي بعد مترين من السيدة التي تفعل هذا وتقوم بتفريغ البنزين من مدرعة زملائهم وقلت له: " لو سمحت المفروض أن أنتو أعداءنا لكن عايزة اقولك علي حاجة شفتها ". أجاب: " آه وأنا بأه المفروض أحس بإيه وأنتي بتقولي " أعداءنا "؟!.
‎ده كان يوم 29 يناير وفاكراه كويس. يوم سبت يومها شفت الممثلة جيهان فاضل في الدقي في سيارتها. قلت للضابط الشاب " اعذرني بس أنا وقعت من الغاز إمبارح هنا وأنا صحفية. عايزة أحكيلك علي الست المشبوهة اللي شكلها قواده أو مخيفة وهي مجندة أطفال شوارع يسحبولها بنزين من المدرعة دي " وأشرت بيدي إلي ما كنت أحكيه. قلت له " أنا باقولك عن كلامها أنها عايزة تحرق القسم ( قسم شرطة الدقي ) عشان يبقي فيه حد عرف ". شكرني واتجهت إلي ميدان التحرير مشياً طبعاً.
‎لعلك رأيت في الفضائيات المسجد الذي تم تحويله لمستشفي ميداني فواصل المجرمون ضربه بالقنابل المسيلة للدموع والغازات إياها التي أسقطونا بها يوم 28 يناير حين سقطت بالفعل نتيجة الغاز فخرج إمام المسجد- المستشفي يرجوهم أن يحترموا حرمة المكان وخاصة أن هناك جثث بالداخل لم يتم إخراجها منه بعد.. يعني لو في حرب مع إسرائيل لا نصدق أنها كانت ستفعل بنا ما هو أكثر أو أجرم !!!
‎سامحني لا أستطيع التجاوب مع أي شئ آخر أو اية حالة أخري ولفترة
‎حماك الله وأولادك الذين من المحتمل جدا أن أكون رايتهم ورأوني دون أن نعرف سوي أننا جميعا لم نعد نحتمل الظلم والذل والفساد
‎محبتي واحترامي بل كل الإعزاز يا أمجد
‎غادة
‎ 18 فبراير 2011
‎ كلما أتذكر بشاعة ما
‎حبيبتي دينا
‎أكتب لك في عجالة. كما تعلمين أن فاروق ابن أسامة كان مقيماً في التحرير. كنت أطمئن من ميرفت علي فاروق وقلبي مليان رعب. الحمد لله.. عارفه يا دينا أني كنت قدمت أشعار لشاعرين قبل ثورتنا في مجلة " أدب ونقد " أحدهما من حركة" شباب من أجل العدالة والحرية" وهو أحمد دومه وآخر ليس في أي تنظيم أو حركة لسه يادوب متخرج طازه وكان قد حكي لي ذات أمسية أي أحمد سلامة أنه يقول لدومه وأصحابه " احنا شباب في الشكل لكن عواجيز ". لم أستغرب فهو رأي أو شعور لطالما سمعته من شباب بلدي جيل ورا جيل. لم يكن في تلك الأمسية اللي حضرت لهم فيها قبل الثورة بشهور أحد من المثقفين وإنما فقط هذين الشابين أو الأحمدين وأصحابهم وحبيباتهم من الجامعة في مركز الدراسات الإشتراكية بوسط البلد . كانت المرة الثانية التي أسمع فيها شعر أحمد دومه والأولي لسماعي شعر أحمد سلامة وكنت أعرف أن دومه معتقل هذه المرة في أحداث ثورة 25 يناير وتأكدت من هذا لما ذكرت أهداف سويف الكاتبة اسمه علي البي بي سي العربية . كان تعارفي به علي سلم نقابة الصحفيين جاء منذ انفجار أزمة جريدة الدستور الأصلية وتضامني مع المتضامنين ( لم أشاهد أحدا يتضامن في ذلك الوقت من الصحف القومية المنحطة ) ويومها سلمت علي د.سكينة فؤاد وجورج إسحق الخ. المهم أن سؤالي عن أحمد دومه جعلني أعرف أنه بعد انتهاء المظاهرات الحمد لله كان حيا وأفرج عنه لكن حتي أحمد سلامة الذي لم يكن في أي تنظيم قال لي أنه اعتقلوه هو ومجموعة لا بأس بها من مركز "هشام مبارك " وقاموا بربط يديه جامد جدا بالبلاستيك إياه وهات يا شتايم وإذلال وضرب حتي أنه بكي وصرخ يقول لهم ارحموني مش قادر لأني عرفت منه في المكالمة أن عنده ضغط وأيضا عنده مرض اسمه " متلازمة بهجت " بهجت سيندروم.. ويزيد أعراضه في الشتا فإذا بهم يهددونه بأن يقتلوه بالرصاص وكانوا من الشرطة العسكرية.. بعد ضرب البلطجية.
‎ المهم ظل أحمد سلامه في المعتقل لثلاثة أيام لأنه بلا جريمة وليس عضوا في أي حاجة. جعلوهم يناموا علي الأرض تحت السماء المكشوفة بلا غطاء ليل مع نهار ولا دواء للضغط أو غيره بالطبع وساءت حالته كما حكي لي تليفونيا ، وكان أن طلب منهم قتله!. وجد أحمد سلامه معه في المعتقل- والكلام له ما زال- طفلين في عمر15 سنة أحدهما قال له أن البلطجية بتوع السلطة أو الحزب الوطني أعطوه 150جنيه ومطواة أو سكين لينزل مظاهرات التأييد لمبارك فنزل واعترف أنه هتف والأبشع أنه اعترف بقتله لطفل آخر عنده 13 سنة .
‎شاهدت في ميدان التحريرأكثر من مرة السجين السابق الصحفي مجدي أحمد حسين الذي هرب من السجن وكان يتجول وسطنا بالتحرير. ذهبت إليه أهنئه بالحرية ومعتذرة عن جريدتي الوصمة بسياساتها التي تدعو للاحتقار من فرط النفاق للسلطة السابقة. قلت للأستاذ مجدي أحمد حسين:" مبروك الحرية. أنا من جرنان مشبوه الجمهورية لكن كانوا رفدوني مرة ". أجاب الرجل بابتسامة عصبية لكن فرحة لم تغادره وهو في الميدان " دلوقت هما إن شاء الله اللي حيترفدوا ". كان ده قبل التنحي فاكرة كويس.
‎ طول ما أنا ماشية في ميدان التحرير قبل التنحي باخبط في أهالي وأصدقاء وإخوات وأعمام وأبناء شهداء.. تار في كل بيت مصري عدا المختفين والمخطوفين وكان فيه كلام منسوب للمذيع طارق علام في بداية الثورة- وعلام أصلا ضابط شرطة- أن بجوار مديرية أمن الجيزة حدثت من ستين إلي سبعين حالة اغتصاب ، لا نعلم هل هذا لترويع الناس لكي لا ينزلوا الشارع أم حقيقة وهو أمر محتمل جدا بسبب فتح السجون الذي لم ينفذه أو قاومه الشهيد النظيف الوحيد في الداخلية اللواء محمد البطران. وكان الإخوان هم من قالوا هذا عن أن الرجل شريف ورفض تنفيذ الجريمة فقتله البلطجية المؤتمرين بأمر الحبيب العادلي ولذا كانت بوسترات الشهيد اللواء في سجن الفيوم موجودة بجوار بوسترات الشهداء في الميدان الذي كلما ذهبت إليه رأيت المزيد من أسماء الشهداء و صورهم حتي أني انفجرت مرة في عميد أو رتبة كبيرة في الجيش قبل تنحي المجرم الحرامي والشباب يرصون بوسترات صور الشهداء والشهيدات علي الرصيف أمامه وبعضها يتم رفعه بالحبال وربطها علي الأعمدة.. صرخت: " حررررام !!!! كل الدم ده كان ممكن يتوفر".. وظللت أصرخ " أنتو كان ممكن في يوم واحد تروحوا تجيبوه.. أنتو جيش بتدافعوا عن الشعب ولا عن واحد؟" , وأنا أمام الرجل الرتبة كبير السن الجالس علي كرسي بلاستيك أمام مبني وزارة الخارجية القديم.. لكن كانت حالتي هيستيرية وحزني عميق وقلت لأحد جنود جيشنا قبل التنحي مرة وأنا أخرج من الميدان " حرام " فرد مؤكداً كلامي بنفس كلمتي " حرام " ونهض مبتعداً بسرعة.
‎ كما قلت لك أنا ذهبت 7 أيام للتحرير شاملة يوم الجمعة 28 يناير قبل تدخل الجيش.
‎عندما كنت أعود البيت لا أشعر بالجوع حتي أن تمارا زوجة أخي قالت لي بعد تنحي المجرم أني خسيت وفقدت وزن . لم أكن أشعر بهذا ولا كنت أنام جيدا بل بالمهدئ لأيام لكن ملابس لي كنت لا أنجح في إغلاقها تمكنت من ذلك بعدها فصدقتها.
‎لاحقا تعرفت علي باسم شرف وكان يحكي لي كيف مات بعض أصحابه علي يده في الميادين.
‎الأهوال لا حصر لها ولا أستطيع تذكر كل شئ. لكن أتذكر جيدا في محطة مترو الدقي بعد التنحي وجدنا الشعب العظيم وشبابه الأنبل وضع أو ألضق ورقاً ( واضح أنه تم إعداده علي أجهزة الكمبيوتر في بيوت الناس ) عليها هبارة: " خلاص بقي ما دام بلدنا رجعت لنا.. ننضفها " للحث علي النظافة وعدم إلقاء مخلفات وفي الخارج علي الأرض بدأت أري سلال مهملات بلاستيكية تم ربطها بأسلاك بطريقة بدائية علي أعمدة الإنارة وبداخلها أكياس بلاستيك... هي التي اختفت بعد ذك للأسف. الناس كانت مفعمة بروح جديدة حتي أن رجلا يعمل في محل فرعي بشارع طلعت حرب صار يقول لي:" الأول كنت بافكر أهاجر عشان ولادي وعشان الفرص...دلوقت لأ ".
‎ما قد أتذكره كما تقترحين- سأحاول تدوينه ولو في شكل رسائل قد تصلح كيوميات أو مقالة لا أدري أين قد أنشرها. لم يكن هذا هدفي أصلا ً لكن أخي والشاعر أمجد ريان يقولان أنها مسئوليتي وواجبي لولا أني لا أشعر أن معي مادة تستحق وكلها حكايات عن ناس وشهود عيان أو أقارب شهداء. الصور الفظيعة الكثيرة علي موبايلي ليست انفرادا بل علي موبايلات غيري من المواطنين أراهم ونحن نتزاحم علي البوستر أو اللافتة لتصويرها.
‎كيف أنت وطنط وياسر وزوجته وأولاده؟. كيف كانت كندا مبدئياً؟ هل تزحزحت حالتك النفسية قليلاً عما كانت عليه من قلق ورهبة واكتئاب؟ ما شعورك تجاه مصر الآن؟
‎احنا فرحانين جدا أن طنط هدي كانت عنكم ومعاكم أثناء الثورة. طبعا كنا مستحيل نتركها وحدها في بيتها بس أكيد قلبكم كان حيفضل يترعش لغاية ما الأمور تهدأ.
‎لما يسمح وقتك ويكون لك مزاج حيسعدني كلمة مكتوبة منك
‎كل المحبة والشوق
‎آه بالحق فيه موقع علي الفيسبوك اسمه »طريق النجاة« فيه شهادات حية لشهود عيان اتبترت أطراف لهم وكانوا المجرمين بيقتلوا الناس أمامهم واستعدوا هم أنفسهم للموت أو بالأحري لأن يتم قتلهم.. الموقع فظيع يؤدي للامتلاء والرعب الحزين وعلي اليوتيوب كذلك يوجد فيديو لمرتضي منصور من التليفزيون المصري مع عضو الوطني المذيع تامر أمين حيث بادر الأول إلي التعريض بالبنات في ميدان التحرير وما " تفعلنه مع الرجال والشباب" وأنهن يسعين للتحرش الجنسي الخ. هذا موجود إذا كتبت " مرتضي منصور يهاجم المتظاهرين بميدان التحرير". نريد في كل مؤسسة وبنك ومصنع ثورة عايزين ثورة 25 يناير داخلية كمان.. من الجذور لازم نقلع الفساد قلع. لأنه غوووووويط وعميق قوي ومستتب بحكم عفونة السنين المتراكمة ومساعدة الفاسدين والحرامية أهل الظلم لبعض.
‎كل حبي وقبلاتي للبيبهات أولاد ياسر عايزين صور !! اتفقنا؟
‎غادة نبيل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.