رغم أن الهيئة قدمت نفسها علي أنها جهة اعتماد وليست جهة رقابة إلا أن ما تمارسه في الجامعات والمدارس المصرية هو عمل رقابي يقترب من حد الخنق، ويبدد أموالها ويعارض نصوص الدستور التي تضمن استقلالية الجامعات وخلوها من أية ضغوط إدارية أو مالية أو سياسية، لأنه يضع علي رقبتها سيف الإلغاء، إذا هي لم تمتثل لمتطلبات الجودة والاعتماد، وهو ما يشكل سلطة مطلقة عليها تحد من استقلاليتها القانونية والدستورية. علي الرغم من أنني شخصيا لا أتصور أن الدولة سوف تغلق مؤسسة تعليمية تملكها لأنها لم تجعل طلبتها يحصلون أو يستوعبون أو يحللون ويكتسبون معارف ومهارات معينة، بل علي العكس لا تزال الدول تفتح جامعات وكليات لا تملك الحد الأدني من متطلبات البقاء علي قيد الحياة، ناهيك عن جودة الحياة. الحكاية بدأت عندما قررت منظمة التجارة العالمية أن تدخل "منتجات المعرفة" ضمن أنشطة التجارة، سواء في الحكومة أو القطاع الخاص، ولأنها تجارة ينبغي أن تنعم بالحرية في السوق العالمية، ولن يحتاج الاتفاق العام للتجارة والخدمات المعروف اختصارا باسم "جاتس GATS" إلي إعادة تحليل لكي تضم التعليم العالي فيها، لأن هذا النشاط يدخل ضمن الخدمات التي يضمن هذا الاتفاق حريتها. والهدف النهائي لهذا الاعتبار هو "ضمان حرية وصول السوق إلي كل أنواع المنتجات والمؤسسات التربوية". ولتنفيذ حرية التجارة تم العمل بجهد جهيد من أجل وضع تنظيم وقواعد وتوجيهات للتعليم العالي والتي ترجمها واضعو قانون الجودة والاعتماد إلي معايير، وهي ترجمة خطأ بكل المقاييس، وبسبب مشاكل الترجمة من هذا النوع أصبحت الجامعات المصرية الآن غارقة في مصطلحات لم ولن يفهمها أحد. وطبقا لمنظمة التجارة العالمية فإنها سوف تضمن أن تستطيع الجامعات والمؤسسات التعليمية أو أي مقدم خدمة (تعبير يطلق علي الأفراد أو الشركات وبصفة خاصة علي رجال الأعمال) الحاصلة علي "الاعتماد والجودة" أن تفتح لها فروعا في أي دولة، وأن تصدر برامج شهاداتها وأن تمنح الدرجات العلمية والشهادات بأقل قدر من القيود، وتستطيع أن تستثمر في المؤسسات التعليمية الخارجية، وأن تقوم بتشغيل أساتذة لفروعها الأجنبية، وأن تبيع دوراتها التدريبية أو التعليم عن بعد دون أية قيود. وحتي تستطيع الجامعات الأجنبية، وخاصة الأمريكية والأوروبية، أن تستفيد من هذه التدابير لابد أن تغلق الجامعات لدينا، أو تفقد المصداقية، أو لا يقبل عليها الناس، وهذا ما يتحقق بالفعل الآن، حيث بدأت الجامعات الخاصة تصبح حقيقة واقعة، وكثير من هذه الجامعات الخاصة لها شريك أجنبي، يضع اسمه إلي جانب اسم الجامعة، لدينا. وربما يقول قائل إننا نستطيع لو حققنا مقاييس الجودة أن نغزو العالم بمؤسساتنا التعليمية، ولكننا نستطيع أن نطمئنه علي أن القانون غير الدستوري لدينا ليس له مثيل في العالم كله. في أمريكا تقوم روابط أهلية بهذه المهمة ولها تراث في الجودة، تحاول باسم العولمة فرضه علي العالم، يمتد طوال القرن العشرين، وهذه الروابط أو الجمعيات أو الشركات الأهلية، مثل الأيزو، مصرح لها بإصدار شهادات جودة واعتماد، ولكن المؤسسات التعليمية ليست ملزمة بالحصول عليها، وإنما تعتبرها قيمة مضافة لها تعزز الثقة بها. والثقة هي التي طالبت بها الدول الأوروبية جميعا بطرحها بدلا من الجودة والاعتماد في آخر مؤتمر عقد لهذا الغرض، فالحصول علي ثقة "المستهلك" أهم كثيرا من الغرق في هذا البحر المظلم من المصطلحات (هم أيضا لا يفهمونها)، ومضاعفة الجهد وتبديد المال من أجل تحقيق التوجيهات والمعايير القياسية الأوروبية ESG، والتي عبرت معظم الجامعات الأوروبية عن عدم اقتناعها بأنها يمكن أن تحقق الجودة في العملية التعليمية. وفي جميع الأحوال فإن الجامعات الأوروبية تأخذ بنظام "وكالة الاعتماد" أي وكالة وزارة خاصة بالاعتماد تتقدم إليها ببرنامجك الدراسي لاعتماده، وتأخذه بالتقويم الذاتي وليس الخارجي، وبموجب قرارات وزارية وليس قوانين، أو هيئة عامة تتبع رئيس الوزراء كما هو الحال لدينا. وفي بلد مثل إيطاليا ينص القرار الوزاري الذي ينظم عمليات ضمان الجودة بإنشاء "عمادة" للجودة علي مستوي الجامعة ككل ينضم إليها أستاذ من كل تخصص، وهم الذين يضعون وينفذون نظام الجودة الذاتي الذي يحمل اسم كل جامعة ويعتبر من منتجاتها الفكرية. وفي الجامعات البريطانية يتم تشكيل فريق الجودة من أساتذة مبدعين يضعون الخطة الاستراتيجية للجامعة ككل. ولن تجد في أية كلية تابعة لجامعة أوروبية (الغيت الكليات في معظم هذه الجامعات واستبدلت بها الأقسام العلمية) وحدة جودة في كل كلية أو تلك اللافتات الإنشائية المقيتة المسماة بالرؤية والرسالة. سوف تجدها فقط في الجامعات الأمريكية والتي تعتبر المستفيد الأكبر من تحرير تجارة التعليم العالي في العالم، وقد انتشرت انتشارا سرطانيا في العالم كله، حتي إن دولة الإمارات أو الأردن، بها عشرات الجامعات الأمريكية. باحث من جامعة بوسطنالأمريكية هو الذي دق ناقوس الخطر وحذر من التأثير السلبي لنظام الجودة علي الجامعات بصفة عامة، وجامعات العالم الثالث بصفة خاصة وتساءل في بحثه: كيف يتم تنفيذ نظام الاعتماد والجودة؟ هل هناك تمييز بين التعليم العال الحكومي والخاص الذي لا يهدف للربح (الصيغة الذهبية في رأيه لتعليم عالي جيد) من ناحية والتعليم العالي الخاص الذي يهدف أساسا للربح والذي بدأ ينتشر بقوة في العالم؟ يحذر الباحث المغامرين الجدد في التعليم العالي من أن معظم أنظمة التعليم في العالم في يد الحكومات القوية أو الاستبدادية، ولن ينجحوا في اجتياز هذه الموانع إلا بالطرق القانونية والمحاكم، أو غير القانونية التي تسهل وصول الخاص للعام والاستفادة منه. أو عن طريق قوانين جديدة للاعتماد والجودة تجعل من الصعب، وأحيانا من المستحيل علي مؤسسات التعليم العالي وغير العالي في الدول الفقيرة أن تستمر في الوجود. من ناحية أخري فإن المنتج العلمي والبحثي للجامعات في هذه الدول النامية سوف يطرح في السوق العالمية ليصبح عرضة لقوانين السوق، ومن ثم سوف تفقد الجامعة أهميتها في لعب دور قيادة قطار التنمية والتحديث في بلادها، وهو علي كل دور يشكك فيه الكثيرون في مصر الآن بالهجوم المستمر علي الجامعات وخريجيها رغم أن هؤلاء الخريجين موجودون في سوق العمل العالمية وبقوة، في مجالات معينة، مثل برمجة الكومبيوتر التي يعتبر شباب الخريجين المصريين من الأفضل علي العالم فيها، رغم عدم توافر الإمكانيات التي تتوافر للدول المتقدمة أو الغنية. ويحذر الباحث صراحة من اعتبار التعليم الحالي من الخدمات التي تهدف إلي الربح لأن ذلك سوف يفقدها دورها التاريخي، باعتبارها مؤسسة مجتمعية ليس لها أطماع، ومن ثم فهي محايدة، وهي المنوط بها أن تصدر شهادة غير مجروحة فيما يطلب منها، حتي أمام القضاء. في حوار بين فيما يشبه العصف الذهني مع الدكتور زين عبد الهادي كان الخلاف بيننا الواضح في اعتباره أن الجامعة organization واعتبرتها أنا institution ، وترتب علي هذا الاختلاف أن يكون التخطيط الاستراتيجي ذا عائد مباشر علي الجامعة وأعضاء هيئة التدريس علي المستوي المالي والتمويلي، أو يكون قادرا علي تقديم خدمة تعليم جيدة تلبي احتياجات البلاد من العلم والمعرفة والبحث وهي كثيرة لن تفي بها متطلبات الجودة الحالية، التي تعطي الطالب دورا أساسيا في التقييم الذي يأتي من أعلي، علي عكس الغرب الذي يعمل بنظام التقييم الذاتي. قلت له إن الجامعات الأمريكية نفسها أخذت بحل وسط توفيقي وهو إنشاء جامعات خاصة جديدة لا تهدف إلي الربح، أي ما يوازي الجامعات الأهلية لدينا، والتي ذ في تصوري ذ لن تفي باحتياجات البلاد من التعليم العالي. ومن الممارسة العملية مع هيئة ضمان الجودة والاعتماد في أكثر من جامعة (عدد قليل للغاية من الكليات الجامعية حصل علي الاعتماد حتي الآن، حتي أصبح الاعتماد هو الكابوس الذي يطارد الجميع) أستطيع أن أجمع من الملاحظات التي قد تسهم في لفت نظر صناع القرار لإلغاء هذا القانون وهذه الهيئة ووضع اعتماداتها في خدمة رفع الجودة الحقيقية في الجامعات المصرية: 1- الجامعات المصرية حاليا تركز علي ترتيب ملفات الجودة علي حساب ممارسة الجودة بمفهومها الواقعي. 2- المعايير (القياسية) القومية غير واضحة وغير قابلة للتطبيق العام، ومقصور فهمها علي من اجتاز دورة تدريبية تدرب فيها علي هذه الرطانة، وبعض ممن اجتازوا الدورة يرددون مصطلحاتها دون فهمها. 3- المعايير أصبحت ملزمة بدلا من أن تكون استرشادية وهو المعمول به في أية معايير قياسية في العالم، أي أن يقاس عليها وليس بالضرورة تحقيقها، وينافي هذا الوظيفة السامية المطلوبة من الجامعة، وهي وضع المواصفات القياسية، وليس أن تصبح عبدا لمواصفات موضوعة سلفا. 4- المعايير المطبقة علي الجامعات لا تصلح لمعاهد علمية وإنما هي مقاييس تربوية تصلح للمدارس الابتدائية، فهل من المعقول أن تطالب هذه المعايير طالب الدكتوراه أن يفهم ويدرك ويستوعب ويحلل، وهي مواصفات إن لم يكن يملكها الباحث في هذا المستوي فلن يعلمها له أحد، ويستحيل علي هذا الباحث أن يبتكر في العلم إذا تفرغ في تعلم هذه المهارات الابتدائية. 5- تطالب المعايير بإلزام الجامعات بتبني "آليات" ولا تعطي أية أمثلة علي مثل هذه الآليات، لأن النص الذي تمت ترجمة المعايير منه لا يحتوي علي هذه الأمثلة، وهو شكا منه منتدي الجودة الأوروبي أيضا. شفرة المعايير المصرية تحتاج إلي خبير أجنبي لتفسيرها. 6- في كل مرة يتم اللجوء إلي قانون تنظيم الجامعات للبحث عن المعايير بداخله، ومن ثم فإن هذا القانون وتعديلاته الحالية وفي المستقبل يجب أن يكون هو الضامن الأول لجودة التعليم العالي، واعتماد الشهادات يتم من خلاله عبر لجان القطاع التي تدرس كل لائحة دراسية بدقة قبل أن تسمح بفتح أقسام أو كليات جديدة خاصة أو عامة. 7- يطالب أعضاء هيئة التدريس والهيئات المعاونة غالبا بأن تتحول الجودة إلي ممارسة بدلا من فرض، وأن يتم تفعيل الآليات القانونية الواضحة والتفاعل بينها وبين القيادات الجامعية بدلا من متاهة هيئة ضمان الجودة. 8- من النتائج السلبية المؤكدة حتي الآن زيادة بعد المسافة بين الأستاذ والطالب، وعدم التقارب بينهم، وفتح باب تقويم الطلاب لأعضاء هيئة التدريس رغم أن وظيفة الأخير هي تقويم وتقييم الأول، وفي هذا خطر علي فقد الأستاذ لدوره التوجيهي الذي يعتمد علي علاقته الطيبة بالطالب. 9- قيادات الجودة في الهيئة ليست ملهمة، بل آمرة ومنفرة. 10- لا تتوقف لجان الجودة عن توجيه الانتقادات اللاذعة للمؤسسات التي تزورها، في الوقت الذي لا تقبل فيه النقد لها ولآليات عملها ومعاييرها، حتي قيل إن متطلبات الجودة لا تنطبق علي لجان هيئة الجودة نفسها. 11 -حدثت زيادة خطيرة في "بيروقراطية الجامعة" أو كما عبر عنها أحد الأساتذة "هايبر بروكراسي" وبددت الجودة موارد بشرية كان الأصلح لها أن تنفق هذا الجهد في التعليم أو البحث. 12 -ربط زيادة الأجور لأساتذة الجامعة بأعمال الجودة جعل لغة التهديد بقطع هذه الزيادة هي السائدة، من أجل دفع الأساتذة إلي أداء عمل "ثقيل الظل" غير مفهوم وليست هناك فائدة مؤكده من ورائه، لا علي المؤسسة التعليمية ولا علي أعضاء هيئة التدريس ولا علي الطلاب، وقد يؤذن بمزيد من الانهيار، إذا استمرت هذه الأنهار من الأوراق في التدفق لتجرف معها ساعات عمل ثمينة لنخبة يحتاجها المجتمع. أفضل ما يمكن وصف نظام الجودة لدينا أستعيره من أستاذ إيطالي كان يعلق علي نظام الجودة في جامعته الإيطالية، الأخف مليون مرة من نظامنا، بأن فريق الجودة يبدو كأنه تلبسته أرواح كائنات فضائية جاءت من مسافة ملايين السنوات الضوئية، لكي تقول لنا إن كل ما نفعله خطأ ولا يساوي شيئا. المطلوب هو إلغاء هذا القانون المعيب، وهذه الهيئة التي تهدد استقلال الجامعات، وإيقاف نزيف الأموال والعمل غير المجدي لعدد كبير من أعضاء هيئة التدريس بالجامعات المصرية.