إنت مين؟ إنت إيه اللي وصلك لكدة؟ ليه؟ إحنا إيه اللي وصلنا لكده؟ السؤال المفزع، الخفي والمعلن الذي ينفجر في وجوهنا وصدورنا كل يوم مختصراً مصرع الروح في زمن فاضح تتهاوي فيه كل القيم، وهو السؤال السهل والصعب في آن، الذي يلقيه عرض "بعد الليل" كحجر فلا ينجو منه أحد، وإن كان يفتح الباب للظهور المنحنية والخطوات الضيقة نحو المساحات البيضاء بعد ليل زائل. "بعد الليل" لا يمكن اعتباره مجرد عرض مسرحي وكفي، وإنما هو تنويعة أخري من أعمال المخرج المسرحي والسيناريست خالد جلال كصانع للممثل بالأساس ثم محترفاً يعرف كيف يجمع "بازل" العملية المسرحية ويعيد تشكيلها وفق معاييره الجريئة وغير التقليدية في الكتابة والإخراج وإدارة الممثل والأداء وحتي الديكور والاشتغال علي الموسيقي، فالعرض هو مشروع تخرج الدفعة الأولي من ستوديو المواهب التابع لدار الأوبرا في إطار مبادرتها لتدريس التمثيل والإخراج وكل عناصر الفن المسرحي في مركز الإبداع بمقابل مادي، وهي مبادرة تختلف عن المنحة التي يقدمها صندوق التنمية الثقافية بدون رسوم مالية، وفي الحالتين فإن المخرج خالد جلال علي رأس مركز الإبداع يهندس عمليتي المسرح والتمثيل ويصنع حالة فنية فارقة ومؤثرة. ومنذ اللحظة الأولي في عرض "بعد الليل"، نجد الأرض ممهدة لممثلين جدد لا تتباطأ أحلامهم ولا يفرون من التمثيل حين يدركون شفرته، بل يعبرون إلي ضفته في رحلة أقرب إلي الممارسة الصوفية الواعية، حسب تعبير الناقد د. أحمد يوسف في كتابه المترجم "فن التمثيل السينمائي" للأمريكية كاثي هاس، يتعلمون خلالها كيف يضبطون أجسادهم وأرواحهم لتعيش الشخصية التي يجسدونها تحت جلودهم، ومن المؤكد أن خالد جلال لكي يحقق هذه النتيجة قد أخضعهم لتدريبات جسمانية ووجدانية هائلة ليحققوا هذا الإنجاز التفاعلي علي خشبة المسرح كما راقصة الباليه التي كان يراها أديبنا الكبير يحيي حقي إحدي معجزات الفن، عندما تشد آلاف العضلات من جسدها دون أن يشعر المتفرج أبداً بهذا القدر من التوتر الهائل والجهد، بل يراها كأنها تتخطي قوانين الجاذبية وتطير في الفضاء، فمعجزة الممثلين في هذا العرض هي معجزة التدريب والإعداد، وحين يقف علي خشبة المسرح ينقل للمتفرج إحساساً بأنه يعيش هذه اللحظة للمرة الأولي، وإلا بدا متخشباً مفتعلاً، وذلك من أسرار الفن الكبري، وهو ما ذكره أيضاً د. أحمد يوسف في كتابه المذكور، وما أدركه خالد جلال جيداً فيقدمه كإنجاز حقيقي في كل مرة مع عرض جديد أو مشروع تخرج لدفعة من الممثلين الذين ينتشرون فيما بعد علي خارطة التمثيل محققين لحظتهم الإبداعية الناجزة. وإذا كان مشروع إعداد الممثل يبدو واضحاً في تجربة خالد جلال عموماً، فإنه أيضاً يركز علي الكتابة ويقدم موضوعات تتماس مع أوجاعنا تتسلل إلينا برفق وحسم، وتلك هي معادلته الصعبة التي نتلمسها في "بعد الليل" الذي أضحك مشاهديه حتي البكاء، كتب المخرج السينمائي محمد أبو سيف علي صفحته الشخصية علي "فيس بوك" بعد مشاهدته للعرض:"ضحكت وبكيت وتحركت مشاعري في كل اتجاه وعلي جميع المستويات ، وغسلت هموم الدنيا وتعب الشغل وقرف الناس بكمية ضحك غير مسبوقة.. العيال طلعوا عباقرة ودمهم خفيف وبيمثلو أحسن من نجوم كتير كابسين علي مراوحنا من سنين .. اللي عايز يتعالج نفسياً ويظبط دماغه ويبسط روحه ويفرفش حاله ويري الأمل بعينيه". تأملات سريعة وكاشفة لأحوالنا وما آلت إليه مصائرنا تتوالي داخل العرض الذي يبدو كصدي قوي لحياتنا في مجتمع سقطت عنه الجدران وتشردت الأرواح، فكلنا هذا الشاب "راضي" المريض، التائه عقله والمحجوز في غرفة وحيداً إلا من أوهامه أو بالأحري آلامه التي تظهر أمامه مجسدة في عناوين لافتة لهموم بلاد سرقت العمر والعقل ولم تبق إلا علي جسد منهك.. لوحات منفصلة ترسم خارطة لوطن ضاعت تفاصيله في الانعطافات المفصلية واتسع فيها فراغ الروح كما كبرت الهموم: إيقاع الحياة الفوضوي، اندثار القيم والفنون والموسيقي، العنوسة، التشتت وقطع صلة الرحم، التحرش، الانقسامات السياسية، استغلال الدين للترويج لقضايا معينة أو لتغييب العقول، الفساد بكل أشكاله .. وغيرها من معطيات تليق بعصر يستبيح الآدمية، صور متعددة قدمها عرض "بعد الليل" الذي شارك فيه 30 ممثلاً منهم 25 يخوضون تجربة التمثيل لأول مرة، آملين أن يجدوا لهم متسعاً علي الساحة كأملهم في أفق جديد ينير لنا المستقبل ويتلقفنا جميعاً من عنق الزجاجة. ن.ص