تعرف على أسعار الذهب اليوم الخميس 2 مايو.. عيار 21 ب3080    الثاني خلال ساعات، زلزال جديد يضرب سعر الذهب بعد تثبيت المركزي الأمريكي للفائدة    تأهب في صفوف الشرطة الأمريكية استعدادا لفض اعتصام جامعة كاليفورنيا (فيديو)    فلسطين.. قوات الاحتلال تقتحم مخيم قلنديا شمال شرق القدس المحتلة    هاني حتحوت: مصطفى شوبير اتظلم مع المنتخب.. وهذه حقيقة رحيل الشناوي    هل يستمر؟.. تحرك مفاجئ لحسم مستقبل سامسون مع الزمالك    خبير تحكيمي يكشف مدى صحة ركلة جزاء الإسماعيلي أمام الأهلي    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على الإعلامية "حليمة بولند" في الكويت    التحضيرات الأخيرة لحفل آمال ماهر في جدة (فيديو)    ما الفرق بين البيض الأبيض والأحمر؟    «الأرصاد» تكشف موعد انتهاء رياح الخماسين.. احذر مخاطرها    متى تصبح العمليات العسكرية جرائم حرب؟.. خبير قانوني يجيب    أول ظهور ل أحمد السقا وزوجته مها الصغير بعد شائعة انفصالهما    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على حليمة بولند وترحيلها للسجن    «البنتاجون»: أوستن أكد لنظيره الإسرائيلي ضرورة ضمان تدفق المساعدات إلى غزة    طريقة عمل الآيس كريم بالبسكويت والموز.. «خلي أولادك يفرحوا»    مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني يواصل تصدره التريند بعد عرض الحلقة ال 3 و4    أمطار تاريخية وسيول تضرب القصيم والأرصاد السعودية تحذر (فيديو)    حسن مصطفى: كولر يظلم بعض لاعبي الأهلي لحساب آخرين..والإسماعيلي يعاني من نقص الخبرات    واشنطن: العقوبات الأمريكية الجديدة ضد روسيا تهدف إلى تقويض إنتاج الطاقة لديها    بشروط ميسرة.. دون اعتماد جهة عملك ودون تحويل راتبك استلم تمويلك فورى    عاطل ينهي حياته شنقًا لمروره بأزمة نفسية في المنيرة الغربية    سعر الموز والخوخ والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 2 مايو 2024    مُهلة جديدة لسيارات المصريين بالخارج.. ما هي الفئات المستحقة؟    كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي في الموارد البشرية؟    لاعب الزمالك السابق: إمام عاشور يشبه حازم إمام ويستطيع أن يصبح الأفضل في إفريقيا    هاجر الشرنوبي تُحيي ذكرى ميلاد والدها وتوجه له رسالة مؤثرة.. ماذا قالت؟    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    وليد صلاح الدين يرشح لاعبًا مفاجأة ل الأهلي    احذر الغرامة.. آخر موعد لسداد فاتورة أبريل 2024 للتليفون الأرضي    هذه وصفات طريقة عمل كيكة البراوني    أهمية ممارسة الرياضة في فصل الصيف وخلال الأجواء الحارة    صندوق مكافحة الإدمان: 14 % من دراما 2024 عرضت أضرار التعاطي وأثره على الفرد والمجتمع    ترابط بين اللغتين البلوشية والعربية.. ندوة حول «جسر الخطاب الحضاري والحوار الفكري»    حكم دفع الزكاة لشراء أدوية للمرضى الفقراء    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 2 مايو في محافظات مصر    بسام الشماع: لا توجد لعنة للفراعنة ولا قوى خارقة تحمي المقابر الفرعونية    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    أخبار التوك شو|"القبائل العربية" يختار السيسي رئيسًا فخريًا للاتحاد.. مصطفى بكري للرئيس السيسي: دمت لنا قائدا جسورا مدافعا عن الوطن والأمة    الأنبا باخوم يترأس صلاة ليلة خميس العهد من البصخة المقدسه بالعبور    يوسف الحسيني : الرئيس السيسي وضع سيناء على خريطة التنمية    النصر يطيح بالخليج من نصف نهائي كأس الملك بالسعودية    حيثيات الحكم بالسجن المشدد 5 سنوات على فرد أمن شرع فى قتل مديره: اعتقد أنه سبب فى فصله من العمل    برج الميزان .. حظك اليوم الخميس 2 مايو 2024 : تجاهل السلبيات    اشتري بسرعة .. مفاجأة في أسعار الحديد    أول تعليق من الصحة على كارثة "أسترازينيكا"    بعد أيام قليلة.. موعد إجازة شم النسيم لعام 2024 وأصل الاحتفال به    لبنان.. الطيران الإسرائيلي يشن غارتين بالصواريخ على أطراف بلدة شبعا    مفاجأة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم في مصر بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال    مسؤول أمريكي: قد يبدأ الرصيف البحري الجمعة المقبلة العمل لنقل المساعدات لغزة    القوات الأوكرانية تصد 89 هجومًا روسيًا خلال ال24 ساعة الماضية    الوطنية للتدريب في ضيافة القومي للطفولة والأمومة    أكاديمية الأزهر وكلية الدعوة بالقاهرة تخرجان دفعة جديدة من دورة "إعداد الداعية المعاصر"    بروسيا دورتموند يقتنص فوزا صعبا أمام باريس سان جيرمان في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    حمالات تموينية للرقابة على الأسواق وضبط المخالفين بالإسكندرية    النيابة تستعجل تحريات واقعة إشعال شخص النيران بنفسه بسبب الميراث في الإسكندرية    بقرار جمهوري.. تعيين الدكتورة نجلاء الأشرف عميدا لكلية التربية النوعية    وزير الأوقاف: تحية إعزاز وتقدير لعمال مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جنوب الروح: استبعاد العالم.. استرداد العالم
نشر في أخبار الأدب يوم 18 - 10 - 2014


1
تستعيد رواية محمد الأشعري "جنوب الروح"، في تناولها وتقنياتها معا، عالمًا خارج العالم؛ عالما ينأي-في الزمن والمكان- عن العالم؛ يتنصل ويتبرأ منه، وأيضا يسائله وينفيه. وخلال رحلة الرواية ورحلتنا معها، من "هنا" إلي "هناك"، ومن "الآن" إلي "ما كان" حيث "لا مكان لمكان آخر"، وحيث "يعود كل شيء إلي مكانه، الألوان إلي نسقها، والأمكنة إلي شعرها المصادر، والروح إلي جنوبها"، وفي تلك المسيرة المضادة، المعكوسة، التي نترك معها -أينما ومتي كنا- مسلماتنا، وشروط حضورنا، ومعرفتنا المبتورة التي تصوّرنا أننا قد امتلكناها في عالمنا الخاوي، بعدما انتزعتنا من طبيعتنا الأم.. خلال هذه الرحلة وتلك المسيرة نكون قد استرددنا شيئا من معالم "الوضع الأصل" الذي ابتعد عنّا وابتعدنا عنه، ونكون قد ثبنا إلي وجودنا، وفتحنا أعيننا لنري-مرة أخري، ولعلها أخيرة- ذلك المشهد الذي تواري عن بصرنا وعن بصيرتنا، وإن ظل دائما، ربما دون أن نري أو ننتبه، تحت مرماهما!
في العالم الذي نرتحل إليه (ورواية "جنوب الروح" رواية رحلة، بمعني من المعاني)، أو ضمن التجسّدات الممكنة لهذا العالم، التعيّنات المحتملة له في زمن وأرض وإن لاح، من زاوية ما، خارج كل زمن وأرض.. نحن، في وقت واحد، إزاء حياة ممتلئة بالحياة ومنطوية علي تهديدها، حافلة بحنوّ الطبيعة وبسطوتها معا، نافية للموت ومثقلة بظلّه، متحررة من قشرة الحضارة ولكن محتفية بتحضرها الخاص. لكننا، في دائرة هذه الحياة التي تناقض، ربما، حياتنا، لسنا في فردوس خامل ساكن خال من المخاطر سابق علي حيوية السعي، بل نحن في حركة تتردد بين أبعاد مختلفة، بعيدة عن كل ثبات، ومن ثم نائية عن كل موت.. حركة تراوح- فيما تراوح- بين الخلاء والعمار، القبوع والفوران، الإقامة والارتحال، التواتر وكسر كل إيقاع، الوقائع والأحلام، الحقائق والخرافات.. إلخ. نشهد هذه المراوحة تارة- من منظور وعينا، أي من موقع منتم إلي عالمنا، فيواجهنا تباعد أطرافها، ثم نراها تارة أخري- من منظور عالمها هي، فيشدّنا ما تصوغه من حياة ممتلئة بصراع الحياة وبمعناها الحقيقي. وهكذا، خلال تبدّل المواقع، في تلك الانتقالات المتعددة، المتتالية، التي تجعلنا نتساءل -باستمرار- عن مسلّمات عالمنا الأجوف الذي تكلّس قلبه وجفت عصارته، ثم تجعلنا نتساءل عن مكوّنات عالم الروح التي ترتدّ إلي جنوبها الحيّ، بأبعاده المتنوعة.. خلال هذا كله تتشكّل أمامنا شيئا فشيئا، بانسياب مرهف ولكن بإلحاح، ملامح العالم الذي يؤوب ويجعلنا نؤوب معه-وإن مؤقتا- إلي ملامح لحظة أولي من لحظات خليقته.
2
العالم المستعاد، الفطري البكر، الذي تؤوب معه الروح إلي جنوبها، ثم العالم الآخر المستبعد، المطلي بغلاف الحضارة الخادع، ثنائية ماثلة في رواية "جنوب الروح" أو قائمة عليها، أو مترتبة علي تلقيها، ولكنها ليست ثنائية للمقارنة بين حضورين، وليست دعوة للانتقال من أحدهما إلي الآخر، هي-فقط- تجسيد لمسافة قائمة بين طرفين: طرف يتمثل في عالم "ما قبل" الانفطام عن الطبيعة الأم، وما قبل فتح الأعين علي المشهد خارج الفردوس الذي تناءي بعدما تمّ إقصاء "العضو في العشيرة" وتحويله إلي "فرد" ثم "مواطن" ثم "آخر" ثم السعي أخيرًا إلي امتلاكه أو نفيه، عالم ما قبل المركزية، والإعلام المسلّط والمتسلط، والاغتراب، ومزاعم التحضر عن طريق استعمار يراق معه دم فادح.. ثم عالم آخر هو عالم "ما بعد" ذلك كله. ليس معني هذا أن عالم ال"ما قبل" يعد خاليا من الوطأة، فعليه منها ضغوط شتي، ولكنها وطأة صريحة، غير مراوغة، لها أسبابها الواضحة ولها تبريرها المفهوم، وهي علي كل حال وطأة مختلفة عن تلك التي نعرفها في عالمنا الذي نتصور أننا نعرفه. فأي تضاد، إذن، حتي علي هذا المستوي، بين العالمين: المستعاد والمستبعد؟!
العالم المستبعد، الذي " تضيع" فيه الروح وتغترب، يتعيّن في الرواية بإشارات متنوعة: إلي موقع يطل علي "الريف" من نقطة نائية عنه، وإلي "ضجّة المدينة" ، وإلي "فرنسيات متبرجات" مجرد لمسهن صدفة في حافلات المدينة يجعل الرجل "يقذف في سرواله" ، وإلي "المركز" الذي يمكن أن تتوتر العلاقة مع واحد من تمثيلاته: "المخزن"، وإلي العاصمة حيث "الناس يعيشون حياتهم، يفيقون وينامون ويقتربون من نهاية مؤكدة".
أما العالم المستعاد، فيتحدد خلال إيماءات غامضة أحيانا-بمنطق الشعر وبلغته- إلي "الأمكنة البريئة" ثم يتحدد، تفصيلا، خلال تصوير أبعاده المتنوعة بالرواية. أحيانا تبدو هذه الأمكنة البريئة مكتفية بتوصيفها الغفل من التسمية، حيث "الخلاء من الطرف إلي الطرف" وأحيانا يتم تسميتها، حيث الإشارات إلي قلب "بومندرة" التي "لم تزرها أيه سلطة مدنية أو عسكرية منذ مرور الحاكم الفرنسي"، طبعا باعتبار ما كان في الزمن المرجع بالرواية.
ماذا تفعل حركه الزمن، وماذا تفعل ممارسة التاريخ، في كل من هذين الزمنين: المستعاد والمستبعد؟
يبدو العالم البريء، دائما، واقعا في مرمي تهديد ما، زحف متنام للعالم الآخر الذاهب- بإصرار أعمي-في مسيرة تحضره المزعوم. ولذا، يلوح هذا العالم البريء، في لحظات، ماضيا في "مسار انقراض جميل " حيث، دائما، كل من فيه وكل ما فيه في نقصان: البشر، والطبيعة، ونتاج التفاعل بينهما. أواني الفخار الجميلة الهشة، مثلا، التي استجاب طينها -في زمن ما، يرتد إلي زمن الخليقة نفسه- لرفس النساء خلال حفلة تثير الشبق قبل أن تخرج هذه الأواني من الفرن بألوان تشي ببهجة الحياة نفسها: "ألوان نباتية، جسدية، وروائح رحمية، عشبية.." ، هذه الأواني الفخارية التي لم تنفصل عن جسد الإنسان ولا عن روحه بعد، سوف تتلاشي -خلال زمن تقطعه الرواية- بموازاة انقراض أصحابها من البشر، سوف يتكرر سماع صوت تهشمها الرقيق، ليبدأ التفكير في استخراج "علب الأواني الرومية التي جاءت من ألمانيا وبلجيكا ومراكش والدار البيضاء..".
علي الرغم من التباعد المتصاعد بين هذين العالمين، المستعاد والمستبعد، وعلي الرغم من هذا النفي المتزايد -خلال مرور زمن ما- من قبل أحدهما للأخر، فهناك-في زمن مغاير- واسطة حية، متحركة، تعكس التفاعل بينهما. وتتمثل هذه الواسطة، أكثر ما تتمثل، في "محمد الفرسيوي"، المرتحل- في مكانه وفي زمنه الواحد- بين العالمين المختلفين، ثم تتمثل هذه الواسطة في "ابن " محمد الفرسيوي، المرتحل أيضا بين هذين العالمين لكن في زمنين مختلفين، أي "العائد" من أحدهما إلي الآخر، أو الساعي إلي استرداد أحدهما من الآخر.
محمد الفرسيوي، الحكاء جوَّاب الأماكن المسماة التي تبدو نائية عن عالم الروح "تيفنوت، أكوين، مراكش، الدار البيضاء"، وصائغ الأساطير والأحاجي "الحكايات" عن هذه الأماكن، وضحية غواية هذه الأماكن وهذه الحكايات في آن.. امتلك خبرة ما بذلك العالم الآخر، إذ عمل في مهن كثيرة ببعض المدن، صقلته وربما أثقلته بوعي الضفة الأخري، وبذلك امتلك محمد الفرسيوي قدرة ما علي مجاوزة قياسات الزمن الواحد، والمكان الواحد.
أما ابن محمد الفرسيوي، الذي يزحزح الراوي من موقعه ليحتل دوره في فصلين من فصول الرواية العشرين (الفصل الرابع عشر ، ثم الفصل التاسع عشر)، فلا يمتلك هذا القدر من الحرية في حركته بين العالمين، ولا يحوز من الوعي بهما الشيء الكثير.. كل ما يملكه محض ذكريات مغبشة، مضبّبة بندي غامض، حكاية غير مكتملة عن رحلة "قديمة" اجتازها طفلا محمولا علي كتفي أبيه، طيلة ثلاث سنوات ونصف ، ثم محض توق "راهن" لاستعادة مسار الرحلة، ولعبور الحكاية أو لملء بياضها، مرة أخري، قادما من زمن آخر، ومن الطرف الآخر من طرفي الثنائية، أي من حضارة "الأسمنت المصبوغ"، والقلب المثقل، والاستيحاد، حيث صار يعيش في العاصمة منسيًا مع المنسيين.
3
لعالم الروح، داخل حدوده الشفافة،
أشكال متعته، وأشكال وطأته، في آن.
لا يزال هذا العالم الممتلئ بعطايا الطبيعة مثقلا باختباراتها المؤلمة، أو لا يزال -بالتعبير الشائع- "تحت رحمتها". فتقلباتها لا تزال تأتي بالمجاعات التي تطارد وتهدد "السلالة" كلها، أو تجبر الجميع علي أن يتقاتلوا "علي السنبلة الواحدة"، كما أن هجمات هذه الطبيعة لا تزال تجلب الأوبئة -"التيفوس" مثلا- فيما يشبه القدر الذي لا رادّ لنهمه إلي القرابين: الضحايا والجنازات.
وتقلبات الطبيعة هي التي تطرح، من ثم، الاختيار المتجدد دوما بين الارتحال والإقامة.
الارتحال، في هذا العالم، صيغة تسعي لاستكمال وجود ناقص. هو امتداد في الزمن والمكان "وكل منهما "مفتقر" بحسب العبارة التي يبدأ بها مفتتح الرواية. وخلال هذا الامتداد في زمن غير الزمن، وفي مكان غير المكان، في رحلة متكررة، هناك شيء ما يتحقق ولا يتحقق في آن، لدي أبناء تلك "السلالة" التي "أضنتها الهجرات والأحلام الموءودة"، فالرحلة التي هي محاولة للنجاة والأمن ليست -دائما- سبيلا إليهما، بل كثيرا ما تكون خطرًا يدرأ خطرًا آخر، وأحيانا ينفتح خطرها علي موت مؤكّد، يقول، مثلا، ابن محمد الفرسيوي، المرتحل ابن المرتحل، إن أباه "كان يتحدث عن رحلة شتوية قديمة هجم فيها الماء سيلا عارما من أعلي الجبل فلم ينج من الجماعة النازلة سواه". مع ذلك، تظل الرحلة جزءًا أساسيًا من تكوين هذا العالم؛ ووسيلة من وسائل الإبقاء عليه ونزوعا داخليا ثابتا فيه، يتوارثه -مع الدم- أبناء هذه السلالة. لكن في تجربة الارتحال عن هذا العالم، ما يمثل دفعا آخر، متجددا، للعودة إليه. فبعيدًا عن هذا العالم، حيثما ينتهي الارتحال أو يحط في نقطة نهاية ما، يقع العالم الآخر، اللافظ، الذي لا يمكن الركون إليه، ومن ثم تتحول نقطة الوصول أو النهاية إلي نقطة رحيل أو بداية، وبذلك تبدأ -من جديد- رحلة العودة إلي عالم الروح.
4
في دائرة هذا العالم، حيث تنتهي الرحلة مرة أخري، علاقات وملامح تميز هذا العالم عما سواه: وحدة خاصة بين كائناته، ومواضعات تنظم العلاقات بين هذه الكائنات، وتصورات تعكس نوعا من الامتلاء بمعني بعينه للحياة "وإن بدت حياة علي حافة الحياة، أي -بمعني آخر- علي حافة الموت"، فضلا عن أعراف تحافظ علي هذا العالم، من ذاكرة أو تاريخ، في ثقافة سمعية متوارثة.
هنا يتم ابتعاث قدرة الحواس التي اندثرت مع التحضر الذي قاد -فيما قاد- إلي تلاشي وسائط اتصال حية مرهفة، بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والكون. هنا لا يزال "القلب يعلم". ولا تزال إشارات الأحلام، بلغتها المحددة، تأتي بالأخبار، البشارات والنذر، التي سوف تتحقق، أو تلقي بالأوامر التي ينبغي تنفيذها بعد اليقظة.
أيضا، لهذا العالم المستعاد تصوراته وبديهياته المتعارفة، حيث "المكرمات" التي يجاوز منطقها كل منطق مألوف، والأشباح والعفاريت في الخرائب، "بضحكاتهم، ودقات مهازرهم، وصراخهم"، والجني الذي يتخفي في صورة أرنب، والبغلة التي تطير "فجأة مثل نسر هائل".
لكن هذا العالم الحافل بالحياة، يمثل طرفا في متصل يقع الموت علي طرفه الآخر. ليس الموت هنا نقلة مختلفة عن الحياة ولا مفارقة لها، ليس نفيا لها، بل محض امتداد وربما تتويج لرحلتها.
في هذا العالم، وفي طرائق رصده، للحكايات سطوة، وغواية أيضا، يذهب محمد، طالب القرآن، للبحث عن "شرط في بلاد الله الواسعة"، لكنه ينقاد لهذه الغواية فيصبح حكاء محترفا، أو يصبح هو نفسه حاملا لهذه الغرابة التي سوف تنقاد لها، فيمن ينقادون، امرأة صغيرة تقبل الزواج منه، وقد صار عجوزا، لأنها تحب "الأحاجي" -الحكايات.
في غبش هذه الغواية يبدو العالم سلسلة من حكايات كالوقائع، أو من وقائع كالحكايات، يتداخل فيها ما حدث في الحكاية مع ما حدث خارجها. هكذا، مثلا، تستمع هموشة إلي "حكاية" زوجها عن ليلة زواجها و"تتابع فصول حياتهما المشتركة فتذهل للأثر الذي تحدثه مروية هكذا "..." وعندما كان الفرسيوي ينتقل من تلك الوقائع المعروفة إلي حكايات أخري، فيمزج بين ما تعرفه هموشة عن ليلتهما الأولي وما حدث لزوجة السندباد "..." كانت تجد ذلك طبيعيا".
الحكاية، هنا، حياة مكتملة، ذاكرة متجددة، تبقي علي الموروث، وتمتد من زمنها إلي زمن قديم فيه "خبرة الأجداد"، أو تمتد إلي زمن آخر، قادم "خبرة من يتلقون الحكاية"، أو تتخطي المكان القريب إلي أماكن، مرجعية أو متخيلة، فضلا عن أن الحكاية تستخدم وسيلة للاتصال، للتخاطب والتفاهم، لتقديم الأمثولة والحجة.
5
تتأثر صياغة الزمن في "جنوب الروح" بمفاهيم كل من العالمين: المستبعد في حيز محدود، والمستعاد في الحيز الأكبر، وتتعدد مستويات الزمن وعلاقاته، بالرواية، بما يشير إلي تعدد حضوره في كل من هذين العالمين. وبوجه عام، تراوح صياغة الزمن بين نزوعين أساسيين: أحدهما يتصل بطابع من التجريد، والتحديدات المعيارية، المجزأة، والإشارات النسبية، والانتقال القائم علي قفزات زمنية واضحة، وهذا كله يرتبط بإشارات إلي زمن مرجع، تاريخي محدد، أما النزوع الآخر فينهض علي صياغة تستعيد الطابع الدوري المجسّد، الطبيعي للزمن، القائم علي اعتماد مفردات الطبيعة وتحولات الطقس ودورات الفصول وحركة الشمس وتعاقب الليل والنهار، وأثر ذلك كله الملموس، وإن نحا هذا الطابع، أحيانا، منحي دينيًا.
علي مستوي النزوع الأول، نلاحظ استخداما لزمن وحدات الساعة مرتبطا برواية ابن محمد الفرسيوي في فصليه المشار إليهما.
كذلك، علي مستوي هذا النزوع نفسه، الذي يضفي طابعا مشبعا بما هو معياري وجزئي ونسبي ومجرّد ومتحرر علي مستوي الزمن وعلاقاته، تلك الإشارات إلي "الزمن المرجع" القائم في العالم التاريخي، حيث يشار إلي "القرية التي نزل إليها في بداية القرن مهاجرون"، وإلي "قدمي توبقال حيث اصطيد آخر أسد في منتصف القرن"، وإلي "اعتقالات بداية الستينيات"، وإلي (صباح بعينه من شهر رمضان الموافق لشهر مارس من سنة ألف وثمانمئة وستين ميلادية"، وهذه الإشارات، التي تنطلق من هذا النزوع، تمثل -كما ذكرنا- حيزا محدودا بالرواية.
أما علي مستوي النزوع الآخر في التعبير عن الزمن، فهناك نوع ملحوظ من تأسيس علاقات الزمن علي تصورات العالم المستعاد، أي علي ما قبل الانفطام عن الطبيعة الأم التي تستخدم دوراتها، ومجالها، وأثرها الملموس، في التعبير عن وحدات الزمن وعلاقاته..
وعلي هذا المستوي نفسه، نجد تحديدات زمنية تقريبية، تعبر عن انتقالات ما، مرتبطة بأثر الطبيعة المادي المباشر وبدوراتها: ".. في وقت الزيتون"، "خرج قبيل الفجر، والقمر مثل الشمس"، وبدأت خيوط الفجر تنسكب علي المكان".
خلال هذا المنحي الثاني أيضا تتكرر، في "جنوب الروح"، مفردتان زمنيتان أساسيتان: "التيفوس" و"المجاعة": "عام التيفوس أخرجنا من دراهم"، "... ثم عام التيفوس"، "العام الذي هجم فيه التيفوس علي الدار تزوجت فيه فاطمة"، "..كان عام الجوع"، "وجاء عام الجوع فماتت أسر بأكملها"، "مرورا بسنوات الجوع". وبالإضافة إلي هاتين المفردتين الأساسيتين نلاحظ -في هذا المنحي أيضا- اعتمادا لمفردات زمنية أخري، فاصلة، تتعلق بالولادة أو بالمرض أو بالموت: "أرَّخ الناس نهايته "زواج الفرسيوي" بتلك السنة التي سموها عام الولادة"، "مرض والسي محند أو بناصر في تلك الجمعة المشئومة ".." في تلك السنة ظهرت الانتخابات القروية"، "وفي تلك السنة التي توفي فيها سلام الفرسيوي جاءت امرأة.. الخ".
هذا الزمن المحمّل بأثر الطبيعة الأم، بوجهيها؛ بما تهبه أو بما تسلبه، يبدو هو نفسه -أحيانا- موازيا لدوراتها، أو يبدو هو نفسه محاطا باستدارته الخاصة والاستدارة التي تطال الزمن تطال عالم الرواية، و"الرحلة" إلي هذا العالم و"الحكاية" عنه-في آن. وهنا يبدو هذا الزمن محاطا بحدوده، مكتملا وممتلئا ومستغنيا بذاته، وإن ظل، حتي في هذه الحالة، مربوطا بخيط ما، يشده إلي نقطتين زمنيتين محددتين تتصلان بالكون كله في بدايته ومنتهاه، أولي هاتين النقطتين ترتد إلي لحظة الخليقة نفسها، التي يتم استحضارها في الرواية خلال التوقف عند تشكيل أواني الفخار التي أشرنا إليها، حيث تسترجع هذه الأواني "يوم الخليقة الأول. يوم العجنة الأولي التي خرجنا منها كتلة من الرقة والعنف"، وثانية هاتين النقطتين تنتهي إلي الخاتمة المتصورة لهذا العالم، وللكون كله، حيث "شمس يوم القيامة تصعد من جهة الغرب"، وإن كانت هذه الخاتمة المتصورة، في هذا العالم المحتفي بدوراته، يمكن أن تكون بداية أخري لدورة جديدة، بداية تسعي إلي إزاحة عالم آخر قائم، واستعادة عالم آخر جديد!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.