منذ أن انطلقت الثورة التونسية ونحن ندعو المثقفين والمبدعين إلي التخندق في اماكنهم وتثوير واقعهم والمساهمة من مواقعهم في دعم الانتفاضة الشعبية في الوقت الذي ارتحل فيه الكثير منهم إلي عالم السياسة عن سوء أو عن حسن نية. إيمانا منا بألا ثورة تأتي لتعمق من الأمية وتعود بالشعوب إلي الفوضوية متخذة من الشرعية الثورية ذريعة للاعتداء علي الحريات وعلي الحقوق ثورة فاشلة وأكثر بؤسا من الديكتاتورية والدولة البوليسية وأكدنا أكثر من مرة في تونس وخارجها الثورة التونسية تحتاج الي ثورة ثقافية و أن من أهم الحقوق التي يتوجب الدفاع عنها هو الحق في القراءة والحق في التعلم. كانت البداية باطلاق "صالون ناس الديكامرون" ، الصالون الثقافي الذي انطلق سنة2011 كأحد أهم الأفكار والمبادرات الثقافية في تونس ما بعد 14 يناير والذي عمل علي تجميع عدد كبير من المبدعين والمثقفين الشباب في تونس في شتي الفنون متحركا في أنشطته من رؤية استراتيجية لتأسيس بديل ثقافي في البلد؛ صالون منفتح علي الآداب العالمية متابعا لما يجري في العالم متحفزا لما يحدث في تونس من انحرافات فكان سدا منيعا أمام تشويه المكتسبات الثقافية دافعا بها نحو مزيد من الرقي ، من خلال عقد اللقاءات أسبوعيا حول الكتب والكتاب والتيمات والأفكار والتيارات الأدبية والفنية في العالم. ومن هذا الصالون اجترحنا مختبرا للكتابة السردية بعد سنة تحت عنوان" نهج السرد"؛ مختبر يعني بتطوير الكفاءات والمهارات الأدبية للشباب المبدع في تونس لمزيد من الارتقاء بالمنتج الأدبي التونسي ليجد مكانة أكثر قوة في المشهد الأدبي العربي والعالمي. ويستمر كل من "ناس الديكامرون" و"نهج السرد" في نحت هذا المشهد الجديد الذي كسب جمهورا ومريدين مؤكدين تلك الثورية الثقافية في تكريس سنة التداول علي إدارة الصالون مثلا فحولت إدارة الصالون الذي أسسته إلي باحث الفلسفة المرموق عدنان جدي مترجم جورج باتاي وجيل دولوز وصاحب المؤلفات الكثيرة في الفلسفة باللغة الفرنسية عن جيل دولوز وميرلوبونتي وفي حقل الفلسفة والجماليات. تونس تقرأ لم يكن ممكنا السكوت علي وضعية الكتاب بعد الثورة، فقد انشغل الشعب بالشأن السياسي اليومي مما دفع وزارة الثقافة إلي إلغاء معرض الكتاب في دورتين. فأطلقنا مبادرة " تونس تقرأ" لنطلب من التونسيين الخروج للشوارع بكتبهم واحتلال الفضاءات العامة وتحويلها إلي مكتبات مفتوحة نصرة للكتاب في تاريخ معرض الكتاب الموؤود. وكانت تلك أكبر تظاهرة ثقافية شعبية شهدتها تونس سلاحها الأساسي والوحيد؛ الكتاب، وقد وزعت وقتها أكثر من مائة كتاب من مكتبتي الشخصية علي الناس بالشارع الرئيس للعاصمة. تلك الرجة الثقافية التي تناولتها جل الوسائل الاعلام العالمية جعلت وزارة الثقافة تتدارك وتعلن عن موعد لمعرض الكتاب قبل الأوان وكان في الخريف عوض الربيع وانتشرت شرارة تلك التظاهرة في كل أرجاء تونس فنظمت كل محافظة تظاهرتها الخاصة : بنزرت تقرأ سوسة تقرأ، قفصة تقرأ، نابل تقرأ. الحلبة السردية كنا نعلم أن معركة الكتاب وبقائه في ظل الهياج السياسي والاجتماعي معركة صعبة فدفعنا بمبادرة جديدة طريفة وهي "الحلبة السردية" فدعونا الكتاب والسراد تحديدا إلي الخروج من وراء مكاتبهم ودخول حلبة المنافسة والعودة بالأدب إلي اللعب ، الأدب الذي بدا كأنه أمر ثانوي في ظل ذلك المناخ السياسي المحتقن، ونجحت التظاهرة في دورتها الأولي والثانية مما دفع بوزارة الثقافة إلي طلبها ضمن البرمجة الرسمية لمعرض تونس الدولي للكتاب حيث حققت نجاحا منقطع النظير . تظاهرة يخرج فيها الكتاب علي ركح أشبه بحلبة ملاكمة للتنافس بالكلمات عوض اللكمات. وقد نظم هذه التظاهرة صالون ناس الديكامورن ونهج السرد. زراعة مكتبة في الهامش خلال هذه الأحداث في خلال تلك السنوات التي تلت الثورة والتي انطلق فيها الارهاب بعمليات كبيرة وأصبح شأنا يوميا في تونس كنت أدعي كما العادة في تونس وخارجها لأتحدث عن تجربتي الأدبية المتواضعة لأسمع دائما العبارات نفسها تقريبا: كاتب المهمشين وكاتب الهامش. وكنت أتساءل كل يوم ماذا قدمت لهؤلاء المهمشين فعلا غير سرقة حيواتهم؟ وقررت هذا العام أن أرد لهم بعض ما سرقته منهم، تدوين تلك الآلام والأحزان لم يكن يكفي لأرد لهم الجميل. كانت عبارة ساراماجو تنقر رأسي دائما:" هدفي عدم التخلي عن هؤلاء الناس الذين جاؤوا في الظلام" واطلقت مبادرة" العين الحمرا" ، عين غاضبة علي الفقر والجهل والتمييز والارهاب ورفعت شعارا:" ارفع الكتاب في وجه الجهل والارهاب" وبدأت المبادرة بالتبرع بمرابيح كتبي المتوفرة في تونس لاقتناء مواد مدرسية: محفظات وأزياء مدرسية وكراسات وأقلام وكتب لإحدي المدارس الريفية وقد اخترت أن أبدأ بالمدرسة التي درست فيها في ريف محافظة سليانة إحدي أفقر المحافظات في تونس والتي لم تجن من الثورة غير اقتحامها من النظام تحت حكم النهضة واطلاق البارود علي سكانها عندما احتجو ا علي أوضاعهم فأصابوهم بالعمي والعور وأحرقوا أجسادهم. استطعت بمعية قلة من الأصدقاء وكثير من قرائي تحقيق الحلم الأول وهو ادخال الفرحة علي الأطفال بهذه الهدايا وإجراء لقاء معهم وهو الأهم تحدثنا فيه عن الحلم. لم نكن أطباء لنزرع القلوب كنا أدباء نزرع الأحلام، وقد قدمت للأطفال نماذج من المبدعين التونسيين الذين نجحوا وحققوا أحلامهم الكبيرة رغم أنهم انطلقوا من بيئة شبيهة ببيئتهم القاسية. التظاهرة شارك فيها عدد كبير من الكتاب والفنانين العرب والاجانب بشكل رمزي من خلال رفع كتابي المشرط علي وجوههم أو بلوحات استوحوها من تلك التظاهرة. الرحلة لم تنته هنا بل قررنا أن نزرع شيئا أهم يكون مؤسسا وحاميا لتلك الآمال والأحلام التي زرعناها ولم نجد من شيئا أهم لنزرعه من "مكتبة" تحتوي علي ألف كتاب من قصص وروايات للأطفال، واتفقنا مع مدير المؤسسة والاطار التربوي علي تنفيذها خلال أشهر قليلة لتستمر مبادرة العين الحمرا والتبرع بكل عائدات كتبي بتونس ووعائدات كتابي الجديد "نصر حامد أبو زيد : التفكير في وجه التكفير" وهو كتاب حواري مع الراحل انهيناه قبل رحيله بشهر ودام أشهر. تأتي هذه المبادرة ضمن محاولاتي المتكررة لتغيير صورة الكاتب عند الناس. وتنزيله من عليائه ليخوض مع الناس مشاغلهم فعليا وليكون له دور فعلي أيضا في الحرب علي الارهاب من موقعه ككاتب. فسلاحنا الوحيد هو الكتاب وحده أداة التنوير والرقي بالذائقة والفكر. فحماية هؤلاء الأطفال من الخروج المبكر من التعليم وزراعة الأحلام الكبيرة في عقولهم يقي تونس كاملة من شر الجهل والأمية إحدي الأسباب الرئيسة للتغرير بالشباب والتحاقهم بالجماعات المسلحة الارهابية. وبالقراءة والكتاب سنحمي هذه الانتفاضة من خطر الانزلاق من جديد نحو الديكتاتورية لأن الجهل أيضا أحد الطرق السالكة لها. فكلما كان الشعب متنورا ومثقفا ومقبلا علي الفنون والآداب والفكر والفلسفة انحسر التطرف والتعصب. وقد تجاوب معنا عدد محترم من المبدعين في خطوتنا الجديدة وسنحاول اشراك بعض دور النشر التونسية والعربية في تأثيث هذه المكتبة. لذلك سنسعي إلي توسيع دائرة هذا النشاط ليكون مشروعا للتغيير يضطلع فيه المثقف بدوره الرئيس كمواطن من جهة بوجوده في الميدان وكمثقف من خلال آرائه وأفكاره ومبادراته الثقافية التي ستتحمي الإنسان والأرض والثورة. هكذا فقط أفهم عبارة غرامشي "المثقف العضوي". روائي تونسي من أعماله "المشرط" و"الغوريلا". .