جاء أحمد رمضان من مجال الطب وأرسي لنفسه مكانا ناشئا في هذا المجال، لكن الأدب كان يحاصره من أب يتدفق شعرا...فماذا تنتج هذه الخلطة؟ وهل يسمح الأدب بالتوريث؟ فهناك كثر حاولوا توريث أبنائهم الكتابة الأدبية وكان الفشل والنجاح معلقين علي وجود الموهبة من عدمه، مثل كل كتابة أدبية. فالكتابة في النهاية تخصك وحدك، ومهما أضاف الآخرون من كلمات وجمل تبقي مستقلة وقائمة بذاتها كوحدة فنية. لكن يبدو أن ما ساعد أحمد رمضان أكثر هو صبره وتأنيه، فلم يتعجل في النشر بالرغم من قصصه التي تعود إلي عام 2007. لفت نظري الاسم في البداية عبر قصة قصيرة نُشرت في جريدة الحياة بعنوان بائع الأحلام. وكان قد نُشر له رواية في الهيئة العامة للكتاب عام 2012، وفي العام الذي يليه صدرت مجموعته القصصية في مواجهة شون كونري عن دار روافد. وهي المجموعة التي تضم عشرين قصة وتشي بموهبة تعرف كيف تنسج حبائلها حول القارئ، موهبة قادمة من جيل مغاير يتكلم لغة جديدة، وجل همه أن يجد متنفسا لحريته في وسط ركام من الاستبداد والقهر، وأن يحافظ علي سلامته العقلية في أكوام من الجنون المطلق والعبث. من أجل أن يتمكن الكاتب من مواجهة شون كونري بثورة غضب عارمة- في القصة الأخيرة التي تحمل اسم المجموعة- كان لزاما عليه أن يتدرج في الثورة، فجاءت ثورته علي كل المستويات. بدأت بكسر منظومة الرقص- مع الالتزام بقواعد اللعبة- في قصة رقصة تانجو إذ لم يتلقف الراقص زميلته وتركها تسقط وتموت، وكان لديه منطقه في المحكمة، ثم كانت ثورة الضحك حيث قام الشعب بمحاصرة قصر الحاكم ومقاومته بالضحك، ثم السباحة عكس التيار في زأمازال يونس ببطن الحوت؟ »ثم «نيوتن العصري الذي رُفض بحثه في مركز البحوث ففضح الجميع، وهناك عدم الرغبة في الاستماع لثرثرة الآخرين في »هدوء تام ولماذا صحت اليغاد؟ « وهناك التمرد علي الأوهام والوصاية الأبوية في » الرابض خلف الأسوار« (وهي قصة تُشكل من وجهة نظري قلب المجموعة)، والتمرد علي القوالب المجتمعية في » ليلة صيف هادئة وفضع السلطة في « زعندما قابل الملك الملكة، التي جاء قبلها راحة أبدية حيث يُعيد الكاتب صياغة المقولة الشهيرة قُتلت يوم قُتل الثور الأبيض. المدهش هو أن معظم القصص التي كُتبت عام 2010 تحمل في داخلها بذور ثورة وشيكة، ولا أقصد مطلقا أنها قصص تنبأت بالثورة- كما يحلو للكثير من الكُتاب أن يصنفوا أعمالهم- بل أرمي إلي فكرة استعداد جيل آنذاك للثورة ورغبته في الخروج من منظومة الفساد التي عاني منها نيوتن الذي لا تعرفه والتي جعلت الببغاء يصمت والتي دفعت ذاك الرابض خلف الأسوار إلي القفز فوق السور تطلعا لمساحة مغايرة غير مأهولة، متسلحا بروح المغامرة والفضول، ضاربا عرض الحائط بكل التحذيرات والخطوط الحمراء. اللافت للنظر أن القصة الأخيرة في مواجهة شون كونري كُتبت أيضا عام 2010، حيث كانت شحنة الغضب التي يحملها أكبر من أن يكتمها بداخله، غضبه من المنبه المتعطل، غضبه من مديره، من الشوارع المزدحمة، من رائحة الدخان، من الكوب المتسخ، من عدم مغازلته للنساء، من سبارتكوس النادل، ..، فتمثل له المدير في صورة شون كونري »وثارئورته العارمة التي لم يكن ليثورها إلا لأعظم الأسباب «. إلا أن براعة أحمد رمضان تكمن في منطقة مغايرة- وإن كانت رؤيته للعالم تضيف للموهبة- وهي مقدرته علي رسم هذه الرؤي في شكل أدبي، في حبكة، في تفصيلة البداية، في الخيط الذي يلتقطه لينسج قصة. يعتمد الكاتب بشكل واضح علي فكرة الحلم، الذي هو ليس بحلم، هو الحلم الذي يتداخل مع الواقع ليحل محله، وبتطور القصص تصل الواقعية السحرية إلي أعلي ذروة لها، وهو ما يجبر القارئ علي التعامل مع هذا العالم كما هو. بمعني آخر، لا يُوظف الكاتب منطقة الإبهام والغموض لتحميلها برموز، أو منطقة الحلم كعالم مواز، بل يتحول الحلم- شكلا ومضمونا- إلي وسيلة التعبير الرئيسية في القصص، حتي أن الحلم نفسه يُمكن بيعه والحصول عليه بالطلب كما ظهر في قصة بائع الأحلام (غير منشورة في المجموعة). في الوقت نفسه، لا تُعتبر الأحلام وسيلة هروب من الواقع كما تسير الكتابة التقليدية، بل هي تكشف عن قسوة الواقع، عبر رسمه بسحرية ولا منطقية تنتظم في تسلسل منطقي. تتيح أيضا هذه التقنية للكاتب تأمل الواقع بشكل أكثر دقة، ومن هنا تظهر المفارقة، ففي قصة الفتي الطائر يتحول الطيران إلي عدسة مكبرة للتفاصيل غير مُتاحة لمن هم علي الأرض. أحلام أحمد رمضان ليست كابوسية ولا رمزية، بل هي أحلام- إذا اتفقنا علي تسميتها هكذا- دالة تقدم لحظة كشف للراسخ والسائد، فتتحول لحظة الكشف إلي حجر يُلقي في بركة مياه آسنة لتتأكد أهمية أن تكون وقحا في مواجهة شون كونري.