سافر إلي "محج قلعة" عاصمة داغستان ليحضر احتفالا بذكري أحد كبار شعراء القوقاز. كان يكره السفر، لكن الصحيفة أجبرته تقريبا. بعد سبع ساعات في الطائرة وجد نفسه في حجرة بفندق علي بحر قزوين وقد تدلت من رقبته بطاقة "وفد أجنبي". كان برنامج الاحتفال مرهقا لم يفلت صغيرة ولا كبيرة بدءا من وضع الزهور علي ضريح الشاعر مرورا بالندوات إلي اللقاءات وغير ذلك ، ثم انقلب مؤشر الإرهاق من تكريم الشاعر إلي تكريم الوفد الذي جاء لتكريم الشاعر. يجلس يبحلق في المنصة التي توالي عليها الخطباء ورأسه يتساقط من التعب. ينعس. يفيق. تهتز بطاقة التعريف المدلاة علي صدره كبطاقات المذنبين في ساحة العقاب. قال لنفسه والله لو أن الشاعر نفسه هو الذي يحتفل بذكراه ما تحمل كل هذا. لابد من العثور علي كافيه انترنت لإرسال المقال إلي الصحيفة. ندم علي أنه لم يأخذ معه لاب توب. حزم أمره ونهض رافعا سبابته في الهواء كأنما يستأذن وخرج يبرطم. الله علي الشارع مشمس منير. سار يتلفت برقبته إلي أن شاهد علي جدار بيت لافتة" كافيه بالميرو"،. إلي اليمين تحت اللافتة باب حديدي مشغول بالزهور وقف في حلقه شابان يثرثران. أخرج ما في جيبه من روبلات. تساوي ما قيمته عشرين دولاراً. المفروض أن تكفي فنجان قهوة ونصف ساعة انترنت. اتجه إلي الشابين "هل لديكم انترنت؟". أجابه القصير" سندبر ذلك". هز الآخر رأسه يودع صديقه وأولاهما ظهره مبتعدا. أفسح الشاب الطريق أمامه. دخل إلي ممر مسقوف بتعريشة عنب تدلت أوراقها. بمحاذاة سور قصير تراصت ثلاث مناضد من البلاستيك الأبيض. كان الكافيه فارغا إلا من رجلين يثرثران بألفة وهما يحتسيان الشاي. جلس إلي المنضدة القريبة من باب الكافيه. اختفي الشاب وعاد بعد قليل يحمل " لاب توب". وضعه وانحني يسأله بود " ماذا تود أن تشرب؟". أجابه " فنجان قهوة تركي" وحدث نفسه" أدب الجرسونات جسر إلي جيب الزبون". فتح ملفا في اللاب توب. بدأ يكتب " محج قلعة مدينة صغيرة بين الجبال الشاهقة علي بحر قزوين. ناعسة مثل خاطر هادئ. رست السفن العربية علي شواطئها في القرن السابع ميلادي. سادت فيها اللغة والثقافة العربية حتي مطلع القرن العشرين". طقطق بلسانه غير مستريح لمطلع المقال. تقدمت نحوه شابة طوقت خصرها بحزام ملون بالورد. وضعت أمامه فنجان قهوة وصحنا من شرائح الشمام وشطائر الجبن. ابتسمت تسأله"أي شيء آخر؟". شكرها. " لم أطلب سوي فنجان قهوة، فنجان واحد، لكنهم يضاعفون الحساب بأطباق إضافية. فتاة جميلة كهذه تصبح طرفا في عملية احتيال صغيرة". جلس الشاب علي حافة السور الملاصق للمنضدة. سدد نظرة إلي شاشة اللاب توب. قهقه" هل ترسل معلومات سرية؟". أجابه مبتسما " نعم. أفشي أسراركم". قال الشاب " لعلك كتبت أن لدينا أشهي لحم ضأن وألذ سمك في القوقاز". حدق بالشاشة " أليست هذه هي اللغة العربية؟". أجابه " نعم" وزر عينيه مستريبا متشككا " من أين له أن يعرف ذلك؟". استرسل الشاب" جدي كان يقرأ ويكتب بالعربية. كان يعدني كل صباح أن يعلمني إياها ويسكر في المساء وينسي"." أكان يسكر كثيرا؟". أجاب" يوميا. ذات مرة رأيته علي غير العادة متجهما، فسألته مابك اليوم ياجدي؟. أجابني اليوم أنا في كامل وعيي"! قهقه الشاب وسأل متوددا" ما رأيك في قدح شاي بالنعناع؟ ". قال " جميل". ضاعفوا الحساب والآن يخططون للحصول علي بقشيش كبير. عاد إلي المقال"يعشق الداغستانيون السيوف المنقوشة والأزياء الموشاة بألوان كبرياء الجبال. الرصاص عندهم أعز من الخبز. لايخلو بيت من بيوتهم من صور الإمام شامل علي حصانه وتحتها صيحته " قدسوا الحرية يا أهل الجبال، كأنها أمهاتكم، ولا يغرنكم ذهب ولا ثروة". عاد الشاب بفنجان شاي.ارتشف رشفة فوجد سكره قليلا." يسرقونك ويستخسرون فيك ملعقة سكر". صاح في الشاب" سكر لو سمحت". "هل تكفي النقود التي بجيبي أم سيتحتم علي تبديل دولارات إلي روبلات؟. أُف! ". أنهي المقال وأرسله إلي ايميل الصحيفة. نهض ولسبب ما وقف الرجلان الآخران وتقدما إليه. راح كل منهما يصافحه بحرارة ويهز يده في الهواء عدة مرات. استفسر من الشاب " كم الحساب؟ ". أجاب " لاشيء". قال " أشكرك. هذا كافيه ولابد من المحاسبة". أجابه"هذا بيت ليس كافيه". حلت عليه الدهشة " أي بيت؟ هناك لافتة ضخمة مكتوب عليها كوفي شوب بالميرو؟". قال الشاب " نعم، لكن مدخل الكوفي شوب علي الناحية الأخري من الشارع". تعجب " الله ! والجرسونة الشابة؟". رفع الشاب رأسه ضاحكا" أتقصد زينب؟ زوجتي!". قال" والزبائن؟!". أجابه"أي زبائن؟ هما عمي وابنه في زيارة لنا". تمتم " لكن؟!". قال الشاب"أنت سألتني عن انترنت وأنا عندي. الشاي وغيره واجب ضيافة". استفسر متشككا مستريبا " بذمتك بالميرو أم لا ؟". قهقه الشاب يدق كفا بكف" والله بالميرو من الناحية الأخري"!