نص عظة البابا تواضروس في خميس العهد بدير مارمينا العجائبي بالإسكندرية    خبر عاجل بشأن العمال ومفاجأة بشأن أسعار الذهب والدولار وحالة الطقس اليوم.. أخبار التوك شو    بعد تدشينه رسميا.. نقابة الفلاحين تعلن دعمها لإتحاد القبائل العربية    "ابدأ": نعمل في مبادرات متعددة.. وتنوع القطاعات الصناعية لدينا ميزة تنافسية    هنية: اتفقنا مع رئيس وزراء قطر على استكمال المباحثات حول الوضع في غزة    وزيرة البيئة تنعى رئيس «طاقة الشيوخ»: كان مشهودا له بالكفاءة والإخلاص    الأمم المتحدة: أكثر من 230 ألف شخص تضرروا من فيضانات بوروندي    منافس الأهلي.. صحيفة تونسية: جماهير الترجي تهاجم ياسين مرياح بعد التعادل مع الصفاقسي    "سددنا نصف مليار جنيه ديون".. الزمالك يعلن مقاضاة مجلس مرتضى منصور    «حصريات المصري».. اتفاق لجنة التخطيط بالأهلي وكولر.. صفقة الزمالك الجديد    بسبب كاب.. مقتل شاب على يد جزار ونجله في السلام    ‬رفضت الارتباط به فحاول قتلها.. ننشر صورة طالب الطب المتهم بطعن زميلته بجامعة الزقازيق    لحظة انهيار سقف مسجد بالسعودية بسبب الأمطار الغزيرة (فيديو)    سميرة سعيد تطرح أغنيتها الجديدة كداب.. فيديو    الضبيب: مؤتمر مجمع اللغة العربية عرسًا لغويًا فريدًا    أدباء ومختصون أكاديميون يدعون لتحويل شعر الأطفال إلى هدف تربوي في مهرجان الشارقة القرائي للطفل    "سور الأزبكية" في معرض أبوظبي الدولي للكتاب    ب9 عيادات متنقلة.. «صحة الإسكندرية» تطلق قافلة مجانية لعلاج 1540 مريضًا بقرية عبدالباسط عبدالصمد    مسؤول أممي إعادة إعمار غزة يستغرق وقتًا طويلًا حتى 2040    "مشنقة داخل الغرفة".. ربة منزل تنهي حياتها في 15 مايو    القناطر الخيرية تستعد لاستقبال المواطنين في شم النسيم    رسائل تهنئة شم النسيم 2024.. متي موعد عيد الربيع؟    الفندق المسكون يكشف عن أول ألغازه في «البيت بيتي 2»    أذكار بعد الصلاة.. 1500 حسنه في ميزان المسلم بعد كل فريضة    وزير الأوقاف ومحافظ جنوب سيناء: الخميس 25 يوليو انطلاق المرحلة الثانية لمسابقة النوابغ الدولية للقرآن    لا تهاون مع المخالفين.. تنفيذ 12 قرار إزالة في كفر الشيخ| صور    الداخلية تضبط 12 ألف قضية تسول في شهر    عاجل.. هيئة الرقابة المالية تقرر مد مدة تقديم القوائم المالية حتى نهاية مايو المقبل    تفاصيل منحة السفارة اليابانية MEXT لعام 2025 للطلاب في جامعة أسيوط    القوات المسلحة تنظم المؤتمر الدولي الثاني للطب الطبيعي والتأهيلي وعلاج الروماتيزم    كاف يحدد موعد مباراتي مصر أمام بوركينا فاسو وغينيا في تصفيات كأس العالم    تمديد استقبال تحويلات مبادرة "سيارات المصريين بالخارج".. المهندس خالد سعد يكشف التفاصيل    رئيس الوزراء يعقد اجتماعًا مع ممثلي أبرز 15 شركة كورية جنوبية تعمل في مصر    مهرجان الجونة السينمائي يفتح باب التسجيل للدورة السابعة    أردوغان يعلق على التظاهرات الطلابية بالجامعات الأمريكية لدعم غزة    أول رد من الكرملين على اتهام أمريكي باستخدام «أسلحة كيميائية» في أوكرانيا    انتبه.. 5 أشخاص لا يجوز إعطاؤهم من زكاة المال| تعرف عليهم    ميقاتي يحذر من تحول لبنان لبلد عبور من سوريا إلى أوروبا    فقدت ابنها بسبب لقاح أسترازينيكا.. أم ملكوم تروي تجربتها مع اللقاح    الرعاية الصحية تطلق حملة توعوية حول ضعف عضلة القلب فى 13 محافظة    جرثومة المعدة.. إليك أفضل الطرق الطبيعية والفعالة للعلاج    أب يذبح ابنته في أسيوط بعد تعاطيه المخدرات    شراكة استراتيجية بين "كونتكت وأوراكل" لتعزيز نجاح الأعمال وتقديم خدمات متميزة للعملاء    واشنطن تطالب روسيا والصين بعدم منح السيطرة للذكاء الاصطناعي على الأسلحة النووية    تزايد حالات السكتة الدماغية لدى الشباب.. هذه الأسباب    السكرتير العام المساعد لبني سويف يتابع بدء تفعيل مبادرة تخفيض أسعار اللحوم    «التنمية الحضرية»: تطوير رأس البر يتوافق مع التصميم العمراني للمدينة    دعم توطين التكنولوجيا العصرية وتمويل المبتكرين.. 7 مهام ل "صندوق مصر الرقمية"    هيئة الجودة: إصدار 40 مواصفة قياسية في إعادة استخدام وإدارة المياه    لمواليد 2 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    بنزيما يتلقى العلاج إلى ريال مدريد    إعلامي: الخطيب طلب من «بيبو» تغليظ عقوبة أفشة لإعادة الانضباط في الأهلي    التنظيم والإدارة يتيح الاستعلام عن نتيجة الامتحان الإلكتروني في مسابقة معلم مساعد فصل للمتقدمين من 12 محافظة    التضامن: انخفاض مشاهد التدخين في دراما رمضان إلى 2.4 %    تحديد أول الراحلين عن صفوف برشلونة    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    بروسيا دورتموند يقتنص فوزا صعبا أمام باريس سان جيرمان في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حلمي سالم
الذي لمست أصابعه الضفة الأخري
نشر في أخبار الأدب يوم 03 - 05 - 2014

سمعت عنه قبل أن أراه، فهو بجرأته سبقنا جميعاً إلي النشر، كما أن محمد خلاف صديقي في الجامعة، كان يحبه ويروي عنه، بعد أحيان ليست طويلة عرفته، وتحاببنا، صرت أغافله وأروي عنه، وصار يغافلني ويروي عني، لكنه بجرأته إياها سبقنا جميعاً إلي الموت، من الذي أوقفني ذات يوم، وعلّمني وقال لي: ليس من المستحب يا ولدي أن تكتب كتابك وأنت هكذا في غمرة حزنك، وليس من المستحب يا ولدي أن تكتب كتابك وأنت غير هكذا في غمرة فرحك، وأيضاً من الذي أوقفه ذات يوم، وعلّمه، وقال له النصف الآخر من النصيحة : اكتبْ حزنك ساعة حزنك، ولاتتأخر، واكتب فرحك ساعة فرحك، ولا تتقدمْ، أعترف أن نصيحة شيخي ألزمتني بضبط المسافة بيني وبين سواي، كل ما سواي، وأظن أن نصيحة شيخه ألزمته بإلغاء المسافة، ألزمته بالذوبان في سواه، في كل ما سواه، ولكنه في الخاتمةِ، ربح الخاتمة، وتمكّن هو وشيخه بنصيحتهما أن ينتصر علينا شيخي وأنا، تمكّن وانتصر ومات، وبسبب ضعفي أمام موته، تخليت عن المسافة كلها، واستسلمتُ مثله للذوبان، كنا حلمي سالم وأنا خصمين منذ بدأنا خطواتنا الأولي، أيام كانت الدنيا أوائل السبعينيات، أيام كان سيد حجاب، وصياد وجنّيه، ومنظمة الشباب، و الندوة التي تجمعنا، فننقسم علي الرغم منه، أعني سيد حجاب، ننقسم إلي فرقتين، ستصبحان فيما بعد جماعتين، ستصبحان فيما لا يفوق الوصف هما الأساس الذي يتكّئ عليه شعر السبعينيات كله، وبئست التسمية، في الندوة، وعلي يمين سيد حجاب جلس علي قنديل وحلمي سالم وأمجد ريان وآخرون، وعلي يساره جلس أحمد طه وعبد المقصود عبد الكريم ومحمد عيد ابراهيم وآخرون، كان سيد حجاب يتفنن ويبرع في نسج الخيوط التي تتسرب من بين أصابعه، وتتمادي وتبلغنا، فنمسكها جميعاً كأننا نتشبث باختلافنا، ونفلتها جميعاً كأننا نوزعه، أعني اختلافنا، علي الآخرين، ولقد ظللنا كذلك، واستمررنا إلي أن استكفي سيد حجاب، وحمل متاعه، وسحب خلفه ضلفتي الباب، وأغلق دار الندوة، فتفرقنا، الأغلبية إلي الدقي، و الأقلية إلي شبرا، الجماعة التي اختار حلمي سالم أن يكون في قلبها، كانت جماعة أغلبية تتجه إلي خارجها، كانت جماعة اتصال دائم، اتصال مع الإنسان، بالتخصيص العربي، ومع الجغرافيا، بالتخصيص العربية، ومع التاريخ، بالتخصيص ذاته، ومع الآباء من الأجيال السالفة، ومع الأبناء المحتملين من الأجيال القادمة، الجماعة التي اختارها حلمي سالم، كانت سرب دراويش يعرفون الطريقة، ويبحثون عن الطريق، والعكس صحيح، يعرفون الطريق، ويبحثون عن الطريقة، والجماعة الأخري التي اخترت أن أنتسب إليها، كانت جماعة أقلية تتجه إلي باطنها، كانت جماعة انقطاع دائم، عن كل المذكورين عاليه، وعن أقراننا الذين يشبهوننا، وعن خلايا النظام التي بالتأكيد لاتشبهنا، كأننا قطاع طرق، نبحث عن الطريق، ولانعرف الطريقة، أفراد سرب الدراويش اصطفوا وتلاصقوا وتساندوا بأغصان الرقة، التي اعتقدها البعض رخاوة، وجماعة القطّاع، دون اصطفاف ودون تلاصق، تساندوا بالعصيّ الخشنة، التي اعتقدها البعض وحشية، اللافت أن حلمي سالم تميّز وحده بين أفراد جماعته، بأنه الشخص الأكثر رغبة، و الأكثر قدرة علي الإيلاف و الاستئلاف، ولما تمرس وأتقن ألفته، انتقل إلي طور جديد، كان يسمّيه طور النعمة، وفيه أصبح أكثر قدرة علي الإمتاع والمؤانسة، أذكر، كنا ذات مرة جالسين في مقهي زهرة البستان، أيام شبابها وشبابنا، ووفد إلي المقهي الشاعر رفعت سلام، زميل حلمي الأول، في الجامعة، وفي المسكن، وشريكه في أول كراسة شعرية يصنعانها معاً، حبيبتي مزروعة في دماء الأرض، كانت الطرق الضيقة قد تشعبت، وكانت الطرق الواسعة قد تشعّبت كثيرا، طريق حلمي مازالت تمر بقلب المدينة، كأنها تفضّل أن تكون الأقرب و الأدني، وطريقي تمر بالأماكن الموحشة المهجورة، الأماكن سيئة السمعة، كأنها تبحث عنها، وطريق رفعت هي الطريق التي يصر صاحبها علي أنها الطريق الأصعب والأصوب، وفد رفعت إلي المقهي، وعلي كرسيّ بعيد عنا جلس كأنه لم يرنا، هرش حلمي ركبتيه و فخذه، هرش بطنه، تململ مثل جدار سيسقط، ولم يستطع أن يتآلف مع المسافة التي أوجدها صاحبه، وفي غمضة عين وقف، وفي غمضة أخري قال بليونة: لابد أن أذهب إليه، سأحييه وأسلّم عليه وأقبلّه، ثم أعود، ولما عاد، حدّثني عن طفولته وأصوله، وعن أبيه التاجر، وعن قريته وأمه، في أول علاقتنا تخيلتُ أن قريته التي تختفي تحت جلده، هي إحدي مخلوقاته الجميلة، وأنه أخفي اسمها الحقيقي عمداً، وأطلق عليها اسماً رآه في المنام كأنه لافتة، سألته: ما اسم قريتك؟ قال: الراهب، حسدته علي جمال التسمية، وحسدته علي إدخالها في شعره دخول الخلسة، إما علي هيئة سماء عالية وأرض مستقرة، وإما علي هيئة فرج ساخن مفتوح ينتظر الألم، وإما علي هيئة سنبلة قمح في قلب فلاح، في أول علاقتنا تخيلت أن أمه وأخته بعض مخلوقاته الجميلة أيضاً، وأنه أخفي اسميهما أيضاً، وأطلق عليهما اسمين من صنعه، الأم زاهية الكبري، الأخت ملك، ولما ماتت الأم، لعب باسم أخته، وبدّله، وجعله زاهية الصغري، وكعادته استمرأ اللعبة، وصنع أسماء زوجتيه وبناته الثلاث، صنعها جميعا لتلائم مزاجه الشعري، الزوجتان حياة وأمل، حياة الشيمي وأمل بيضون، والبنات لاميس و رنيم و حنين، وبعد حنين اطمأن إلي اكتمال عشّه، فغادره إلي خارجه ربما يستطيع هناك أن يصنع تاريخه كله، وتاريخه ذلك الذي بدأ واستمر، أصبح مخفورا بملامح واضحة وملامح غائرة، أغلبها ذو مسحة طقوسية وشعائرية، أغلبها يقوم علي الجهر، حتي المخبوء منه، ففي الحب كان حلمي يعشق الحب ذاته وسيرته وأخباره وذيوعه علي الألسنة، أكثر من عشقه للمحبوب، وكان، لأنه ذكيُّ فطنٌ، يحسُّ بفداحة ما يفعله، فيكثر من تدليل المحبوب، لعله يعوّضه عن السر المفقود، وفي الشعر كان حلمي يفعل الفعل ذاته، كان يحّوله من شعيرة إلي شعار، ومن صلاة إلي نشيد، ومن سر إلي علن، ومن همس إلي جهر، وإذا صعد إلي منصة الشعر، احتفي بكل ذلك، احتفي بالشعار والنشيد والعلن و الجهر، وكان في أثناء تلاواته، لأنه ذكيُّ فطنٌ، يحس فداحة ما يفعله أيضاً، فيكثر من تدليل الشعر حتي يعوّضه عن السر المفقود، كأن يملأ أداءه بالهنك والرنك، والمد والإشباع، وتصبح ألف الحنان ألفاً طويلة تساوي عشرين ألفا مما تعدون، وواو الجنون خمسين واواً، وياء الحنين مئة ياء وأكثر، ولما كان يعتقد أن الشعر بجلاله أسبق للوجود والحفاوة من القصيدة المفردة، وأن الحب بمعموديته أحق بالقيامة والإمامة من المحبوب المفرد، لم يتراجع عن طلب النصح من أصدقائه، كأن ينفرد بصاحبه ويقول وهو يغريه: إنني الآن رجل عارٍ من الثياب في صحراء شاسعة، وليس لي صاحبة تدلّني علي نورها وظلامها، فأستدلّ بواسطتها علي نور الشعر وظلامه، وأمامي اثنتان، هما: شين ونون، أي والله شين ونون، وكلتاهما علي المحك، فبأيهما تنصح، هكذا قال لي ذات مرة، ونصحته بالشين، ولم يأخذ بنصحي، أعيد، هكذا قال ذات مرة قبل أن تنفجر قصيدته (شرفة ليلي مراد)، فتطير شواظها ناحيتنا، فنفزع، ونفر جهة الخلاء وتبتعد أقدامنا، كان أيامها يطالبني بالدفاع عن الحرية المطلقة للآداب و الفنون، سواء كانت جميلة أو دميمة، وكنت أومن، ومازلت أومن بأنني لا أملك حق الدفاع إلا عن حرية الجميل، أعترف أنني لمحت في عينيه بريقاً خافتاً يدل علي شكّه في قصيدته، يدله ويربكه، لأنه بقصدٍ منحها شهادة الميلاد، وبغير قصد وضع تحت وسادتها شهادة الوفاة، في أيام رئاسة غالي شكري لتحرير مجلة القاهرة، أعدّت المجلة ملفاً عن ليلي مراد، إحدي مقالاته كان عنوانها لافتاً، شرفة ليلي مراد، بقلم فلانة، وكان حلمي إذا نام ليلتين متتاليتين دون قصة حب، فتّش في أوراقه القديمة، بعد سنوات من ملف ليلي مراد، نام حلمي أكثر من أسبوع دون غرام، ففكر في السيدة فلانة، واختار عنوان مقالتها ليكون عنوان قصيدته، الأصح ليكون سيم العشاق، وتمني أن ينبهها، أظنها لم تنتبه، وضع داخل القصيدة عنوانها، ولم تنتبه، وظل ينصرف من سيم إلي سيم، ومن جهر إلي جهر، مما حرم القصيدة من وجود أي سر، وكلنا يعرف أن اسرار القصائد تحميها، أي القصائد، من الاعتيادية، فأصبحت شرفة ليلي مراد مثل امرأة عارية تقف علي الطريق العام، غضب حلمي من إصراري علي موقفي، وشكاني لكل عابر سبيل، شكاني بإلحاح كي تبلغني شكواه، وكنت أعلم أن عدالته ستحميه من الاستمرار في الغضب، عن سوسن بشير، عن جرجس شكري، عن ميسون صقر، عن حسن طلب، عن حلمي سالم نفسه، أنه قبل يونيو 2011، أي قبل عيد ميلاده الستين، قال للمقربين منه: لابد أن أصالحهما، عبد المنعم وحسن، لأنهما هما اللذان سوف يتلقيان عزائي حين أموت، ثم بعدها اتصل بي، وقال: أحدنا سيموت، أنا أو أنت أو حسن، ولابد أن نجعل عودتنا أسرع من مجئ الموت، حلمي بسليقته يعرف مشاعية الموت ويخافها، ولايسمح لها أن تهدّد مشاعياته الفطرية، التي جعلت دائماً مشاعره وأمواله وطعامه وملابسه ومسكنه له ولغيره، والتي جعلت وعيه بالصراع الطبقي يقظاً إلي الحد الذي لا يخفض الفقير بسبب فقره، ولا يرفع الغنيّ بسبب ثرواته، فهو يضحك في وجه الأول أكثر مما يضحك في وجه الأخير، يضحك بخفوت، أعرف أنه لم يكن يحب الضحك قهقهةً، كان
يحبه أكثر إذا كان ابتساماً، لعل أمه زاهية قالت له مثلما كانت أمي فاطمة تقول لي: الضحك تبسيم والمشي تنسيم، وأعرف أنه كان لا يكف عن الكرم بابتساماته، لأنها أول أمارات الجمال الإنساني، قبل يومين فقط من قيام الجراح باستئصال الورم العالق في رئته، أمسك يدي، وقال لي: هل تعرف ماذا أريد، قلت: ماذا، قال أن أعيش بضعة أشهر بعد العملية لأتمكن من الكتابة عن الجمال الإنساني الذي غمرني طوال هذه الأيام، وبكي، وبكيت معه، ثم سألني فجأة: هل ستكتب عني، ولم يكمل، ولم أشأ له أن يكمل، وأجبته: لا، سألني لماذا، قلت :لأنني سأرفع عن قلبك وجسدك أغطية كثيرة، قال: افعل، قلت: وسوف تغضب أمل، قال: لا، أمل تحبني وتحبك، وسوف تسامحنا، أرجوك افعل، وبكي ثانية، قضي حلمي حياته كلها وسط الآخرين، كان دائماً، ومنذ اللحظة الأولي لوجوده، أول اثنين، أو ثاني اثنين، إذ هما، حلمي سالم وعلي قنديل، حلمي سالم وأمجد ريان، حلمي سالم ورفعت سلام، حلمي سالم وجمال القصاص، حلمي سالم وحسن طلب، وأظن أنه في سنواته الأخيرة فقط، اضطر أن ينفرد باسمه، وان ينفرد به اسمه، وأظن أنه استوحش، وأظن أن المرض تسلل إليه بعد أن صار وحيداً، خاصة، أن طول حبه للآخرين، جعله حريصاً علي الاستمتاع بحبهم له، جعله حريصاً علي إرضائهم، وإخفاء غضبه عن أي منهم، وفي اللحظة التي فيها انفرد واستوحش، كانت خزائنه التي تفيض بغضبه المكتوم في قلبه، قد غلبت قلبه، وقلب حلمي مثل قلب الأرض مازالت فيه إلي جوار حداثته، طبقات كلاسيكية وسريالية وغنائية، ولكن الأكثر وضوحاً أنه محشود بطبقات رومانسية، والمياه في هذه الطبقات تشبه المياه التي ارتوي منها التيجاني يوسف بشير، وعبد السلام عيون السود، وعبد الباسط الصوفي، وبدر شاكر السباب، وأبو القاسم الشابي، ومحمد عبد المعطي الهمشري، وكلهم أصابتهم الرومانسية بالفجاءة، وماتوا شبابا، الصحيح أكثر أن حلمي سالم كان قد تعلّم من جبران خليل جبران الدرس الذي أضعف جبران، وجعله النبيّ الأعزل، جعله الواحد في الكل، عكس الكل في واحد، وبلغة تثاقف جعله جمعاً بصيغة المفرد، ذات يوم اصطحب ميشا، أعني ميخائيل نعيمة، اصطحب شخصا لا يجيد الرسم بتاتاً، ويحمل تحت إبطه لوحات ادعّاها، وذهبا إلي النبي جبران، وعرضا اللوحات عليه يطلبان الرأي، فاستغرق جبران كل الوقت اللازم قبل أن يجد بقعة فراغ تسمح بالكلام عن الجمال الفارغ، وتمكّنه من تفادي الكلام عن دمامة الرسم، وخرج الشخص الذي لا يجيد الرسم من محراب جبران مشمولاً بالبركات وبكامل الرضا عن نفسه وعن النبي الأعزل، ومثل جبران كان حلمي، سيأتيه أشخاص ويقرأون عليه أشعارهم، ثم يخرجون خروج رسام جبران، هذه الطاقة التي أنفقها جبران لأنه يحب الآخرين، وفي سبيل أن يحبه الآخرون، أنفقها حلمي لأنه كذلك، أنفقها دون ندم أو يأس، لكن حلمي يتميز عن جبران بأنه لم يزعم أن الشعر آيته الدالة عليه، ويتميز عن غير جبران بأنه لم يزعم أن الشعر رفيقه، أو أنه مهنته، ولو فعل ذلك ما صدقناه، لأن شعر حلمي كان سيده، كان السيد، وكل التجارب التي كان يعانيها ويخوضها، ويتعثر وينهض، كانت من أجل أن يكتب قصيدة، والنساء اللاتي أحب، وأصبحن بطلات دواوينه،وأصبح كل ديوان من هاتيك الدواوين بمثابة غرفة المرأة الوحيدة، غرفة أصر علي أن نطل عليها ونفتش عن المرأة ونراها مستلقية علي سرير الغرفة، أصر لأنه في قرارته كان ينزع إلي أن يجعل حالته مع المرأة، حالة أصيلة، خلو من الاحتمال، كأنها التعريف الذي به تصير المعاني الكامنة في النص، ظاهرة علانية، ولا يخاف حلمي من استقرار التعريف علي الرغم من أنه يعلم أن الشعر ضد هذا الاستقرار، عموماً كان حلمي محمولاً علي الغرق في محبة المرأة، التي لم تكن محبتها غايته، كان الشعر هو الغاية، ولقد تعلّم منذ أوفيد، وعمر ابن أبي ربيعة، أن المرأة هي أجمل طريق يؤدي إلي الشعر، سواء كانت وسيلة أو كانت موضوعاً، أو كانت كليهما معاً،رأيت حلمي يجلس أمام روحه ويحرقها، وتخيلته يجلس أمام روح محبوبته ويحرقها، وحكي لي أكثر من مرة كيف كانت حلاوة سعيه في سبيل أن يحوّل تلك النيران إلي قصائد، لذا لم تخاصمه امرأة قط لأن حبه قد تعطل معها، ولذا أيضاً لم تهجره زوجته، لأنها فهمت مالم يفهمه الآخرون في كل أوان، والسبب في صواب فهمها هو صواب حبها الخالص له، الذي هيأها للتسامح، عموما لم يكن الشعر آية حلمي ولا كان رفيقه ولا مهنته في الأساس، الشعر كان سيده، وبسبب تلك العبادة استطاع حلمي أن يعترف للآخرين بجمال أشعارهم إذا صادف ذلك الجمال، وعلي الرغم من أنه فعل السهل المبذول، واعتبر كل الرواد آباء له ولم يميز بينهم تمييز المفاضلة، إلا أنه فعل الصعب المحظور واعترف لزملائه ومنافسيه من شعراء جيله، ذات يوم أخذني إلي مقهي انديانا بالدقي، وقال لي: هنا أكتب شعري ومقالاتي، وهنا أقابل محبوبتي، وبعد لحظات صمت، لعلها كانت لحظات تفكير، قال لي: أمس عندما كنا نتحاب أنا وهي، وكلانا شاعر، كنا نردد معاً عقب كل ذروة نصلها، لا تقتل من أحببت، اجرحه فقط، قال حكايته وهو يعلم أنني صاحب العبارة، وسمعتها وأنا أعلم أن كل الآخرين لا يفعلون ذلك مع كل الآخرين، ولأن الشعر سيده، لم تكن مصادفة، أن تكون محبوباته، كلهن علي الأرجح، شواعر، وإذا بدأ مع إحداهن وهي غير شاعرة، علّمها عبادة ما يعبده، وانتهي معها وهي شاعرة، حتي أمراضه روّضها وأجبرها أن تنحني معه أمام الشعر، سواء كانت جلطة المخ أو معجزة التنفس، حتي أسفاره، مما جعل شعره ونثره فصولاً متتالية من كتاب سيرته، وإذا كان التأريخ لحياته بالشعر هو عين الاعتراف بتلك السيادة، فإن حياته ذاتها ظلت محمولة علي العمومية، أذكر أنه في مشاغباتنا ومناجياتنا، كان يسره أن أصفه بأنه واسع مثل ميدان عام، وأن أصف نفسي بأنني ضيق مثل غرفة خاصة، وكنت أضحك وأستطرد وأقول له: الميدان ياحلمي غاصّ بالمقاهي والحوانيت والصيدليات ودورات المياه واللصوص والمتسولين والأفندية، أما الغرفة الخاصة فأشياؤها أشياء صاحبها، وقصاراها أن تكون محمية بالجدران، ومع كلمة الجدران تنتهي ضحكتي وتبدأ ضحكات حلمي، في مشاغبات تالية، طورت الفكرة، وقلت له: أنت ميدان عام في أكثر من مدينة عامة، في القاهرة وبيروت وصنعاء ومراكش، وفي أكثر من حيّ، في الطالبية وبولاق، أول مرة عرفت فيها حي الطالبية بالهرم، كنا أواخر السبعينيات تقريباً، حيث زرناه أنا ومحمد عيد ابراهيم، وأعلن أمامنا أنه سيصنع لنا طعاماً من أطعمة الجنة، لم نذق مثله من قبل، وشرح طريقة طهيه، سأملأ الوعاء بالماء وأضع فيه كل ما لديّ من خضراوات ولحوم وتوابل، وأتركها علي النار حتي تضيع ملامحها، وتختلط، وفعل، وأكلنا طعام الجنة، وأول مرة دخلت فيها بولاق، كانت للوصول إلي بيته، وللسهر معه حتي الصباح، أيام بولاق، كنا قد توقفنا عن الزعم بأننا غريمان، واعترفنا أمام وجهينا العابثين أننا حبيبان، كان حلمي يجيد الاعتراف، إجادته للتعريف، وكان أيضاً يجيد اللعب بأسراره، فيكشف أحيانا عن أسماء محبوباته، ويخفي أحيانا أسماءهن، ولكنه يستفيض في الحكي عن تفاصيل أفعاله معهن، وكنت أعاقبه وأعقّب علي أفعاله، بتصويب إصبعي السبابة إلي صدره، وأقول له: أنت تلميذ أوفيد، فيحملق فأسترسل وأنشد عليه سطوراً من (فن الهوي)، وحين تلمح ذرة غبار تهبط علي ثوب محبوبتك فوق الفخذ، بأناملك ادفعها برفق، وإن لم تهبط تلك الذرة، بخيالك توهم واحدة هبطت، وادفعها أيضاً برفق، وإذا ثوب محبوبتك تدلّي علي الأرض وشابه أذي، فانزل إلي الأرض وارفعه بيديك الحاذقتين، وتعمد دائماً أن تنهض إذا هي نهضت، وأن تقعد إذا ما قعدت، وارشف من حيث رشفت، وسارع بتناول الطعام من الصحفة التي امتدت إليها يداها، واعلم أن الدموع سلاح يفل الحديد، فإن أخفقت في استدرار دمعك أمامها، هكذا هكذا، بللْ عينيك بقطرة من ماء، كنا أنا وحلمي في المغرب، وتجولنا ذات عصر في أسواق مراكش بغية أن يشتري بعض هدايا لمحبوبته، واستوقفه شال جميل سألني عن رأيي فيه، ولم يشأ أن يصرح باسم المحبوبة، في القاهرة قابلتهما معاً، اصطبغ وجهه باللون الأحمر شبه الوردي، فيما كان الشال الجميل علي كتفيها، ولعلها هي المحبوبة نفسها التي بدأت قصته معها بالمنافسة مع شاعر من جيل أصغر، كانت تصرأن تقابلهما معاً، التروبادور حلمي والآخر، وكانت تسكن في بيت للطالبات، وذات يوم اعتذرتْ لكليهما عن إخلافها للموعد بسبب برد أصابها، الآخر استسلم ومكث في بيته، غير أن المحبوبة فوجئت في ليل ذلك اليوم، وكان شتويا بارداً، فوجئت بالتروبادور حلمي، يحتمي بجاكتته، ويكمش جسده، ويقف أمام البيت رافعاً عينه إلي نافذة غرفتها، في الصباح، فتحت النافذة ففوجئت به في مقامه، مقام العشاق، الآخر قال لنفسه عندما علم: لامكان لي، وها هو ذا حلمي يموت كأنه شجرة جذورها في قلبي، عندما مات الممثل أحمد زكي، قالت لي ظبية خميس، إنه لم يمت صغيراً كما قد تظن، لقد عاش عمرين أو ثلاثة أعمار، أو أربعة أو أكثر، حياته بكل المقاييس كانت أطول من حيوات الآخرين، فالعمر، وشدّدت ظبية كلامها، العمر لا تقيسه تعاقبات الليل و تواليات النهار، هذا هو القياس العددي، العمر، وشدّدت ثانية، يقيسه فائض الطاقة وشلالات اليقظة، والاثنان الطاقة واليقظة كانا ذخيرة حلمي الوفيرة، الصحيح إذن أن حلمي سالم عاش طويلاً، وكنا نتمني له ولنا أن يعيش أطول، ولما مات، كانت عبارة أراجون تمشي خلفه، إن شعر شاعر اليوم هو نثر الناس العاديين في الأيام الآتية، وإلي جوارها عبارات أخري، إرثنا لغيرنا، إرثنا غير مسبوق بوصية، إن الموت سهل أما الحياة فصعبة، الموت فسحة الوقت، الموت فسحة الوقت.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.