للحرف دائما أسرار لا تنتهي، فهو ليس مكون اللغة ووحدة بنائها فحسب، فهو حامل روح كاتبه وقائله ومتسع كبير لقارئه ومتلقيه من مشاهدة وسماع.. فهو خزينة المعني ومستودع الأسرار، وناقل ما يقال وما يشار من طاقات ومعان تتضاءل أمامها الجبال طولا وثقلا. بهذه الكلمات في مدح الحرف والتغزل فيه، قرر الفنان حسن ذكي أن يقدم لمعرضه الذي استضافته قاعة زياد بكير بدار الأوبرا المصرية تحت عنوان "مقام حرف" . وقد استطاع الفنان من خلال تجربته في التحاور مع الحروف خارج الإطار النمطي المعهود لفنون الخط العربي أن يقدم 40 لوحة معظمها من أشعار "ابن الفارض" و"السهروردي" وبعض العبارات للفنان نفسه. ويري الفنان أن الحرف وحدة تشكيلية في حد ذاته، كما أن له طاقة روحية ومقامات ومدارات صوفية وفكرية، حيث يقول إن الحروف المفردة في بداية السور القرآنية سر من أسرار المولي عز وجل .. ولذا أعتبر الحرف أمة وكياناً. ومن خلال تجربة متفردة سعي الفنان لتحرير الخط العربي خارج أطره التقليدية ومداراته المتعارف عليها من زخرفة وكتابة ليفسح له فرصة الانطلاق إلي أفق تشكيلية رحبة، بحيث يستطيع الجميع أن يتعامل معها حتي غير الناطقين بالعربية كلوحات تشكيلية لا سيما وأن الحرف العربي ضامن لجماليات لا يملكها غيره. ويعد هذا المعرض أحد التجارب النادرة التي تنقل لسان اللغة خارج محبسه الذي فرضه عليه مشايخه وأساتذته لقرون طويلة، فلم يجدد حسن في شكل اللوحات فحسب، بل تمرد كذلك علي أدوات ووسائط الخط المعهودة، فترك البوصة والقلم والحبر، ليمسك بالفرشة مستعينا بخامة الأكريلك علي التوالي، واضعا نفسه أمام تحد جديد في ترويض الفرشة لإتقان الحروف. وبين "نزلت فيوضك فانتفي عقلي وبانت زلتي"، و"غيري علي السلوان قادر"، و"لي فيك أجر مجاهد إن صح أن الليل كافر"، و"فجوهر الحسن فيه غير منقسم" و"جبر الخواطر علي الله"، وغير ذلك وقف الجميع أمام اللوحات لاكتشاف أسرار الحروف وعوالمها الخفية التي انسابت متفردة علي بعض اللوحات أو تضافرت مع راقص المولوية أو مصباح زيتي، أو جواد شكلته الحروف، علي وسيط جديد علي فن الخط وبمساحات مختلفة بعضها مستطيل وآخر مربع أو دائري، ليتحول المتلقي حسب تعبير الفنان إلي مبدع مواز يضيف إلي روح العمل بتأملاته. وعن تلك الرموز التي وظفها الفنان، يقول حسن: راقص التنورة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالروحانية والصوفية ، أما الحصان فهو من العناصر التي تشغلني طول الوقت، والحصان تشريحيا معجزة إلهية . ولعل ولع الفنان بالموسيقي -فهو عازف عود ماهر- أثر كذلك في في لوحاته، حيث تلمح الربابة وعازفة التشيلو في لوحتين بالمعرض، ويعلق حسن ذكي قائلا : ليس هناك فن يخلو من الآخر، فالموسيقي بها تشكيل، بل ومشهد بصري وسرد كالرواية، كما أن الهاروموني والإيقاع موجودة في اللوحة، واللوحات أيضا تطلق طاقات موسيقية بداخلي، فمقطوعة مواعيد الموسيقية خرجت إلي النور بإلهام من لوحة "ولم يرتدد طرفي إلي بغمضة". ولأن الفنان لا ينفصل عن مجتمعه ففي وسط ذلك الجو الروحاني، برزت لوحة وحيدة لحالة زحام غير مفهومة، ويبتسم الفنان معلقا فعلا هي حالة من الزحام أشعر بها أحيانا وكل تلك الوجوه في اللوحة تعبر عن ذلك ، كما أن الحروف المنثورة علي سطح اللوحة لا تشكل معني بعينه هي مجرد حروف تعطي حالة من تداخل الأصوات والصخب. كذلك قدم الفنان لوحة عناوين الأخبار، وهي عناوين ذ كما يقول الفنان ذ أحدثت نقلة فارقة في حياتنا مثل مقتل السادات، وتنحي مبارك ، وقد نقل هذه العناوين حتي بأخطائها الإملائية أحيانا. بين تلك اللوحات والحكايات والحروف، لم أترك المعرض ولم يتركني، فقد سكنتني بعض اللوحات، استمعت إلي عازفة التشيلو، وحلقت مع راقص التنورة وعدت لنقطة التماس مع نورانية الأبيض في بعض اللوحات، وجلست أتأرجح علي طرف حرف العين في إحدي اللوحات وأنا أتساءل ... ماذا بعد؟؟ .. الشيء المؤكد أنه معرض يستحق الزيارة عدة مرات.