تضع " كتاب الأمان"، الرواية الثانية لياسرعبد الحافظ، من خلال نهايتها الدالة، الأفلام الهندية (إحدي أهم أيقونات التسعينيات) كأقصي نقيض ممكن لها. يذهب "خالد مأمون" مع "لطفي زادة" إلي سينما "شبرا بالاس" بناءً علي رغبة الأخيرالشديدة في رؤية " التحفة البوليدية الأروع.. الحقيقة النهائية"، وينجحا في الدخول إلي صالة العرض رغم الزحام الشديد بفضل مساعدة الجمهور وإفساحهم الطريق بدافع الشفقة علي " لطفي زادة" الجالس علي كرسيه المتحرك. يحمل الفيلم الهندي نفس عنوان الكتاب الذي تسعي "حسناء" إلي إنجازه، والذي سيحتوي علي الخلاصة النهائية للمعرفة البشرية: "الحقيقة النهائية". تستدعي المطابقة- بين الفيلم الهندي والرواية- السخرية المريرة: اليقين المستقر النهائي، الرؤية الواثقة المستوعبة للعالم، أنساق القيم القارة الثابتة، الخير والشر، البنية التقليدية للفن، في مواجهة الشك والنسبية والقلق، غياب أية دعائم منطقية للعلاقات الإنسانية، والتطويرات الشكلية للبنية الفنية. الحياة كحقيقة مبتذلة في مواجهة الوهم كحقيقة للحياة. يمنح النص الروائي الوهم شكلا وبنية ً، يحوله من تجربة ايديولوجية مألوفة للبشر إلي شيء مختلف، الخيال ربما، حيث يبني النص صورة روائية كابوسية، في غالبية أجزائها، وعند إحالتها/مطابقتها للواقع لا نتبين أيهما أكثر اكتمالا. عند قدوم "مصطفي اسماعيل" إلي "قصرالاعترافات"، جهة التحقيق السيادية الغامضة، للتحقيق معه في تهم السرقة التي ارتكبها وفق نهجه الخاص، وبمعية تنظيم قام بتكوينه عنقوديا، تترك اعترافاته وكلماته أثرا كبيرا في نفس "مصطفي اسماعيل " مدون التحقيقات في القصر. يصفه خالد مأمون قائلا: " ومثلما هم الأبطال الأسطوريون فإن شيئا في وجهه يترك الانطباع بحزن غائر. أدركت ساعتها أن الوصف الذي يرد في الملاحم البشرية عن سمات البطل لم يكن تكاسلا من مدونيها كما ظننت،إنما، الوجوه تُنحت علي حسب الدور المقرر لها لعبه." 26 لكن الفن الروائي يخلق مغايرا أساسيا عن الدراما أوالملحمة من حيث الفعل أوالقدرة عليه، فداخل المحكي الملحمي ويمكن اعتبار الفيلم الهندي تغيرا أوتطورا مبتذلا للملحمة- يصبح لفعل البطل دلالة عامة أكيدة، وموقفه الايديولوجي له دلالة بالنسبة للعالم الملحمي، ولا يتفرد خطابه، بل يختلط بخطاب الكاتب. أما "مصطفي اسماعيل"،وكذلك الشخصيات القادرة علي الفعل بشكل ما مثل "سوسن " و" لطفي زادة"، لا يغدولأفعالهم تلك الدلالة العامة الأكيدة، ولا تصبح مقبولة داخل العالم، أوذات دلالة لدي الجميع، لذلك تختلف دلالة أفعال "مصطفي اسماعيل" من شخصية لأخري، فيراه البعض بطلا قوميا، وتراه ابنته "حسناء" و"نبيل العدل" ( رئيس خالد مأمون المباشر) مجرد لص، بينما يراه "خالد مأمون" يحاول إحياء أسطورة روبن هود، تلك الأسطورة التي يحاول "مأمون" خلقها من الحكاية في طبعته الأولي من "كتاب الأمان"، ثم لا يلبث أن ينقضها في طبعته الثانية، نحورؤية أكثر واقعية. في الرواية، الشخصيات متكلمة، وفي الغالب إما عاجزة عن الفعل أومستاءة منه، محكوما عليها بالكلام العاري(بتعبير باختين): بأحلام اليقظة، وبالمواعظ غير الفاعلة، وبالنزعة التعليمية( كما في نسخة مصطفي اسماعيل من كتاب الأمان)، والتأملات المجدِبة (كما في حالة حسناء). ولأنه ليس للرواية منظور واحد وحيد (كالمحكي الملحمي)، بل تشتمل علي عدد كبير من المنظورات، لا تصبح مواقف الشخصيات "الإيديولوجية" المواقف الوحيدة الممكنة، لذلك فهي عرضة للمناهضة من قِبل السلطة أوالمجتمع.. أوالقارئ. تتعدد اللسانية الاجتماعية للذوات المتحدثة داخل الرواية، لكنها تعددية مختلفة عن "تعدد الأصوات" بالمعني الباختيني المألوف. فبالرغم من الهيراركية الظاهرة لصوت راوي واحد، نتبين هشاشة هيمنة هذا الراوي المتخيل، والذي يتحدث بضمير المتكلم، للمؤلف الضمني أوالمفترض "خالد مأمون"، فكلام الشخصيات أوخطابها غير خاضع لصوت "خالد مأمون"، فلا تذعن الشخصيات لوجهة نظره، ولايمتزج وعيها به، كما تباعد البنية السردية للرواية بين خطابها وأي تراتب هرمي صارم، عن الطريق الكاتب الفعلي/ الحقيقي الذي يتقنع خلف كاتبه المفترض/الضمني، فينطمس صوته تماما، دافعا "النسبية المنتشية" إلي حدودها القصوي. تحدد الرواية العلاقة بين البنية السردية للنص وخطابها، فالمضمون صار شكلا، حيث تنتج الرواية شكلها الفني والذي يتشكل عبر رؤيتها للعالم، رؤية تتطلب خطابا حيث لا يكون أي موقف أيديولوجي أوأخلاقي معصوما من الطعن فيه ومخالفته، وتطويرا شكليا للبنية الفنية يناسب الرؤية الجديدة والتي تسائل "النسبية" ذاتها. ( 2) يقوم المخرج الأمريكي " كوينتن تارانتينو" بلعبة تبادل الأدوار في أغلب أفلامه، تصير الضحية جلادا، والجلاد ضحية أومُطاردا: الشرطة والجناة، اليهود والنازيون، العبد الزنجي والرجل الأبيض، وهي لعبة ترتكز علي مفهوم مابعد حداثي عن الحقيقة والمعني والسلطة، إذا سنحت الفرصة للضحية لكي ينتقم، سيفعل مثلما فعل جلاده، بل وأكثر من ذلك، لا وجود للخير والشر،فقط، التموضع التاريخي . ويبدوسؤال الرواية أومفهومها عن الحقيقة مقاربا لذلك الفهم، ليتواري في بعض ملامحه،وكما يذكر"آلن هاو": "تتقوّض شرعية التصورات الحداثية عن"الحقيقة"و"العقل"و"التقدم"... يقول مصطفي اسماعيل: "لا فارق بيننا وبين رجال الأمن سوي أنهم صنعوا لأنفسهم زيا"241 .. لكن النص الروائي يلوح مقيدا بما لا يقوله، لا بما قاله بالفعل، عبرالتعارض المستمر والتباين بين المعاني، "يتكلم" النص في لحظات صمته، أوبالأحري تجعله "القراءة" "يتكلم". ( 3 ) تتصادم وجهات النظر داخل الرواية، من خلال حواريتها الساكنة. يورد النص فقرات متواترة من نسخة "مصطفي اسماعيل" الأصلية لكتاب الأمان، كما يقدم النص صوت "خالد مأمون"، والذي يفترض أنه صوت المؤلف الضمني ذاته، في سرده وتأملاته: "لعنة الله علي الثمانينيات وما ورثناه منها، لا فن، لا موضة، انتهي عهد السياسة والثقافة وبدأ التدين والتقاليد، نفعل ما نريد شرط البسملة والحوقلة" 165 " عندما سلموه أدوات الثورة، بعض الكتب السلفية وجنزيرا، قلت له إن الموضوع تعدي مجرد اكتشاف أفكار مختلفة..." 177 "لكن بعد قليل بدأت الصورة تتضح، كلمات متناثرة يتبادلها الركاب في عرباتهم عن حادث وقع، انفجرت قنبلة في أحد الأتوبيسات، الإصابات ليست خطيرة لكنها موجعة، سببتها المسامير التي تم تزويد القنبلة بدائية الصنع بها، اخترقت أجساد الضحايا تاركة لهم هدايا باسم زمن التسعينيات." 233 " لم تعد مفردات مثل "إرهابي" و"تطرف" و"الحكومة الكافرة" بغريبةعلي الأذن.. " 259 "رجال الثورة الآتين للحكم عطشي وجوعي عُرف عنهم الولع بثلاثة: النساء، الغناء، الشطرنج. وفي المقابل يكرهون ثلاثة: الملك، ورجاله، والحرية." 251 أويقول علي لسان الأستاذ فخري: "المرأة مثل شعوبنا تعشق الديكتاتور" 166 لكن تلك التأملات تكشف- بشكل ضئيل- عن الحدود التي يكتب المؤلف الحقيقي من داخلها، بسبب لغتها ذات الكثافة الضمنية، والسرد الذي يورد التباين (مثل وجهتي نظر "حسناء" و"خالد مأمون" المتناقضين في رواية "الحب في زمن الكوليرا")، والأهم، الطبعة الثانية من كتاب "كتاب الأمان"،التي ينوي "خالد مأمون" كتابتها مستندا إلي رؤية حسناء ابنة مصطفي اسماعيل،والتي تقوض كتابته أوطبعته الأولي : " كيف لم انتبه إلي أني كنت أسير وفق ما تنتظره مخيلة الكثيرين، صنعت بطولة وهمية لرجل قد لا يكون كذلك علي الإطلاق. في الطبعة الثانية سأكتب قصة حسناء ومعها الحقيقة المطلقة.سأعترف وأطلب العفو.. كنت مغفلا صنعت من لص بطلا قوميا، منحته بطولة لا يستحقها، كنت أبحث عن وسيلة للاعتراض، لشق الصمت الذي وجدت نفسي مقيدا به.." 209 في شكل فريد من "الميتا سرد"، لايستبق الانتقاد أويدرج النقد المحتمل في سياقه فقط، وإنما يؤكد " ديموقراطية الشكل الأدبي للرواية"، بتعبير "ديفيد لودج"، الذي يناهض الشمولية، والذي ينتج مفهوما عن الحقيقة والأخلاق، عبر تصارع النصوص، خاضعا هوالآخر "ديموقراطية التأويل"، علي حد وصف خالد مأمون: ".. وأنا لا اقول شيئا، ألوذ بدموقراطية التأويل، وحق النص في الحياة بعيدا عن صاحبه." 176 (4 ) يختلف فعل الكتابة،ومنطلقاته، وتختلف أسئلتها من شخصية لأخري. فتتجمد الكتابة عند "خالد مأمون" - فترة عمله في "قصر الاعترافات"- في معناها الحرفي/الأوّلي: التدوين، وهوالمعني الذي تتبناه السلطة: تدوين ما تراه حقائق ومعلومات، والاستخام البرجماتي للكلمات. بلا مجاز، بلا خيال. تتحول بعد ذلك عن كتابة "مأمون" لحكاية "مصطفي اسماعيل" إلي عملية خلق فني، خلق أسطورة من الحكاية، كوسيلة للمقاومة والاعتراض و"شق الصمت". أما "مصطفي اسماعيل"، فيبدوسؤال الكتابة عنده مرادفا للكمال، أووسيلة لتحويل أفكاره وأفعاله إلي الكمال الذي يمكن تعليمه لغيره، بوصفه الحقيقة. و"حسناء" التي تسعي إلي النظام عبر