1 إختفي الشعاعُ فجأةً. أعتقدُ أنَّ غيمةً تعبرُ فوقَ البيت. أشعَّةُ الشمسِ تختفي فقط لسببيْن: إمَّا يحْجُبُها الغيمُ أو يكونُ الوقتُ ليلاً. وبما أنَّ الآنَ صباح، الأرجحُ أنَّ غيمةً تعبرُ. رُبَّما قريبًا ستُمْطِرُ. حينئذٍ أستطيعُ من نافذتي أن أتأمَّلَ المطر. الحياةُ جميلةٌ إلي درجةِ أنَّ الواحدَ يستطيعُ، إذا ساعدَتْهُ الظروفُ، أنْ يتأمَّلَ المطر. بُرجي مائيٌّ، وأظنُّ أنَّ كوكبًا في الفضاءِ يذوبُ أحيانًا ويسيلُ هنا أمامي. وَهْمٌ لطيفٌ احملُهُ وأتقدَّمُ إلي النافذة. أفتحُ الزجاجَ وأنظرُ إلي السيَّاراتِ والاسفلتِ الجافِّ والعُمَّالِ المُتْعَبِين. لماذا يتعبُ هؤلاء العُمَّال؟ أنا نفسي كنتُ أتعبُ أحيانًا ويَنْضَحُ منِّي العَرَقُ، لكنَّني كنتُ أندمُ بعدَ ذلك واستريحُ سنوات. عَرَقُ الجباهِ مقيتٌ، لا بل مُخْجِلٌ. وشيءٌ مقزِّزٌ أنْ تنهضَ من النومِ لتعريقِ نفسك. تَمُرُّ سيَّارةٌ وتتركُ وراءَها غُبارًا خفيفًا. هِرَّةٌ نائمةٌ في الزاويةِ تفتحُ عينيها ثُمَّ تُغْمِضْهُما. أُغْلِقُ النافذةَ وأعودُ ببطء. اليومَ أيضًا سأستريح. يمكنني أن أعيشَ كُلَّ شيءٍ ببهاءٍ كُلِّيٍّ وأنا أجلسُ هنا علي الكَنَبَةِ أو أتمشَّي علي البلاطِ وأنظرُ إلي الجدران. أربعُ أو خمسُ ساعاتٍ من الحياةِ في اليومِ تكفي. بعدَ ذلكَ قد أخرجُ، أتمشَّي قليلاً في المدينةِ، ألتقي أصدقاءَ بالصدْفَةِ، أشتري قنِّينةَ عَرَقٍ وأعود. قد يحدثُ أيُّ شيءٍ بغتةً. زيارةُ غريبٍ، موتُ صديقٍ، قشعريرةٌ مفاجئةٌ لرجلٍ يمشي في الشارع. هكذا بمحضِ الصدفة. وحينئذٍ لن يتغيَّرَ شيء. قد أخرجُ إلي الشرفةِ، أُلقي نظرةً علي حوضِ الزهور وأدخلُ من جديد. قد أبتسمُ وقد لا يتبدَّلُ ملمحٌ في وجهي. وجهي مستديرٌ وجامدٌ كشيءٍ أخذ شكله نهائيًّا، وأنفي مُسْتَدِقٌ قليلاً كمنقادِ طيرٍ مقصوص. عينايَ سوداوان. وحينَ أفتحُ فمي يخرجُ منه لهاثٌ بسيط. رُبَّما أيضًا كلماتٌ قليلة. قليلةٌ وخافتةٌ حتَّي أنَّني أحيانًا لا أسْمَعُها أنا نفسي. في الواقعِ ليس عندي أبدًا ما أقوله. مع ذلكَ أجدُ نفسي مِرارًا مُضْطرًّا للكلام. لا أعرفُ لماذا عليهم أن ينتظروا كلامًا في كُلِّ مرَّة يجلِسون معي، وبعد ذلك أمرضُ. يُخيَّلُ إليَّ أنَّ الحياةَ صديقٌ صامتٌ، وإذا تَكَلَّمَتْ يُصابُ أحدٌ بالسرطان. أعرفُ صديقًا ماتَ لهذا السبب. هل الحياةُ مريضةٌ هكذا بسبب الأصوات؟ تمرض وتموتُ لأنَّ البشرَ يتكلَّمون؟ بين غرفةِ النومِ وغرفةِ الجلوس ترتفعُ يدي لترتِّبَ شَعري. مسافةٌ قصيرةٌ، مع ذلكَ يُخيَّلُ إليَّ أنَّ شاحناتٍ سريعةً وأصواتًا غريبةً تقطعُها، ويجبُ فعلُ أيِّ شيءٍ للوصول إلي مقعد. أُمَرِّرُ يدي علي شَعري، وهي التي لا تحملُ شيئًا يمكنُها بسهولةٍ أن ترتفعَ إليه. شَعري طويلٌ، وكَكُلِّ الذين ينامونَ يتشعَّثُ في الليل، غير أنِّي أُمَرِّرُ يدي عليه دائمًا ليبقي صديقي. يصبحُ العالمُ أجملَ هكذا، حين يكونُ الشَّعْرُ صديقًا. العالمُ قريبٌ من القلبِ مع الأعضاءِ الصديقة. حينَ تُحِبُّكَ أعضاؤكَ ينقصُ عددُ الأعداء. حتَّي أظافرُكَ التي تجمعُ الغبارَ، تكونُ تجمعُ شيئًا مُحَبَّبًا. أتقدَّمُ خطوتين وأصلُ إلي النافذة. لا يزالُ العمَّالُ أنفسَهُمْ والأسفلتُ والسيَّارات، والقطَّةُ تنامُ في الزاوية. أصواتٌ تَصِلُ إليَّ من وراءِ الزجاج وأشعرُ أنَّها أصواتٌ جميلة. حتَّي الناسُ يبدونَ رقيقِين من بعيد. ماذا سأفعلُ اليوم؟ ليسَ في نيَّتي فعلُ شيءٍ ولستُ مضطرًّا لفعلِ شيء. يمكنني علي الأرجح أن أعْقِدَ صداقةً، من هنا من وراءِ الزجاج، مع هؤلاءِ الناسِ في الشارع. لا يزالُ النهارُ في أوَّلِهِ وبضعُ دقائقَ من الصداقة تكفي اليوم. بعد ذلك يجبُ أن أخرجَ إلي الشرفةِ وأسقي الزهورَ، ويجبُ، ربما، أن أتمشَّي قليلاً في المدينةِ وأجلبَ قنِّينةَ عرق. النافذةُ مُقْفَلَةٌ وأنا رجلُ قصيرٌ وراءَها، طولُهُ 165 سنتيمترًا ويعقِدُ صداقةً مع شارعٍ طويل. يُمَرِّرُ يدَهُ بينَ وقتٍ وآخرَ علي شَعرِهِ، وما يسقطُ منه يحملُهُ ببطءٍ ويرميهِ في القمامة. رجلٌ هادئٌ، حتَّي أنَّهُ بينَ غرفةِ النومِ والمطبخِ يتوقَّفُ مِرارًا ليسْهو أو ليستريح. يلفُّ سيكارتَهُ علي مهلٍ، يشيلُ التبغَ الزائدَ من طرفيْها، ينظرُ إلي الولاَّعةِ لحظةً، ثُمَّ يخفضُ رأسَهُ ويُشْعِلُها. العمارةُ أمامي أصبحَتْ في طبقتِها السابعةِ. عامِلٌ هنديٌّ فوقُ يبدو لي كملاكٍ. الناسُ أيضًا يُشْبهونَ الملائكةَ من بعيد، لا سيَّما المهاجرون. لا أعرفُ لماذا لا يُمكنُني تَخَيُّلُ هجرةٍ من دونِ ملاك، خصوصًا هجرةُ العُمَّال. الذين يحملونَ أمتعتَهُمْ ويمشون. وأحيانًا يتوقَّفونَ علي بُعْدِ خطواتٍ من البابِ، يلفُّونَ سيكارةً، ويعودون إلي بيوتِهِمْ. أُمَرِّرُ إصبعي علي البُخارِ العالقِ علي الزجاجِ من فمي وأتراجعُ خطوةً. أنظرُ إلي الكنبةِ علي يميني. لا تزالُ ذاتَها. الأصدقاءُ الذين كانوا يزورونَني جلسوا عليها. اليومَ أنا وحدي ويُمكنُني أن أكونَ جمهورَها الوحيد. بيني وبينها صداقةٌ قديمة، مُذْ لمحتُها في زاويةِ صالةِ العَرْضِ وقلتُ للبائعِ لا أستطيعُ أن أدفعَ أكثرَ، فحملَها بلُطْفٍ وجاءَ بها إليَّ. لا تزالُ هنا في مكانِها. رُبَّما انزاحت قليلاً حين ارتمي عليها الأصدقاء، لكنَّها في المكانِ ذاتِهِ تقريبًا، وصديقتي مع هؤلاءِ العُمَّال، ومع هذا الخطِّ المُبْهَمِ الذي رَسَمَتْهُ يدي علي بُخارِ الزجاج. أقتربُ وأرسمُ خطًّا آخرَ: خطٌّ آخرُ صديقٌ آخرُ... أنظرُ إليهِ، وأرتمي علي المقعد. 2 علي زُجاجِ نافذتي أصدقاءُ، لكنَّهُمْ يتموَّهونَ بسُرْعَةٍ كَمَنْ يركضُ في الضبابِ، ثم يتلاشون. أرفعُ قدمي. أضَعُها علي الأريكةِ أمامي، وأتأمَّلُ أصابعَها المُلْتَوِيَة. تبدو كشجرةِ صنوبرٍ ضربَتْها الريحُ سنواتٍ، حتَّي تيبَّسَتْ مُحْدَوْدِبَةً. جمودُها الآنَ وصمتُها يذكِّرانني بعمرٍ طويلٍ من الركضِ والصخَبِ وراءَ مجهولٍ مُخيف. كانت رفيقتي الوحيدة. ولم أكافِئْها بشيءٍ غيرَ أنْ أحْمِلَها في آخرِ الليلِ وأضعَها كيفما كانَ في الفراشِ، وغالبًا ما حَرَمْتُها من هذه اللذَّةِ البائسة. قَدَمٌ غريبةُ الإخلاصِ، إلي درجةِ أنَّها لم تفارقني ولا يوم. أعرفُ أقدامًا كثيرةً ملَّتْ وغادَرَتْ أصحابَها. انقطعَتْ عنهم بحجَّةِ المرضِ، أو انفصلَتْ فجاةً علي الطريق. كانت تلكَ الأقدامُ تستريح، سوي قدمي ظلَّتْ وفيَّةً ومُنْهَكَة. وهي المُتَيَبِّسَةُ تقريبًا الآنَ، لا تزالُ معي، وهذه علامةٌ من علاماتِ القداسة. أُمَرِّرُ يدي علي هذه القَدَمِ وأُدغدعُ وبرَها الناعمَ. أربِّتُ عليها وألاطفُها وأتأمَّلُها طويلاً. لم أكن صديقَها في أيِّ يومٍ. كنتُ دائمًا مُسْتَعْجِلاً وكثيرَ الازدراء. الآن كأنَّني أشعرُ بها لأوِّلِ مرَّة. ماذا يفعلُ واحدٌ حين يكتشفُ فجأةً أنَّ عاشقةً تبعتْهُ أربعينَ عامًا دونَ أن يدري؟ وقفْتُ، مشيْتُ برفقٍ علي قدميَّ، وجلبتُ تبغي. في تلكَ القريةِ البعيدةِ، علي أرضِ بيتٍ من تُراب، مشيتُ أولي خطواتي وكانت قدمايَ حافِيَتَيْن. لم يكن أبي من المؤمنين بأنَّ علي الواصلينَ لتوِّهِمْ إلي الأرضِ أن يتعرَّفوا إليها بلحمِهِمْ، لكنَّهُ كانَ عاجزًا عن شراءِ حذاء. كنتُ أعرفُ أنَّ الأحذيةَ التي أرتديها هي أحذيةُ إخوتي، بعدما لُمِّعَتْ وأضيفت إليها مسامير. كنتُ أبتسمُ، لكنَّني لم أكن سعيدًا. أعتقدُ أنَّ هناكَ شَرْطًا للسعادة: أن يكونَ الحذاءُ الذي ترتديهِ جديدًا. لا أعرفُ أناسًا سُعداء بأحذيةٍ عتيقة. كيفَ يمكن أن يفرحُ واحدٌ وحذاؤهُ قديم؟ هناكَ مثلاً ناسٌ يشيخونَ باكرًا بسببِ أحذيتِهِمْ. وناسٌ يموتونَ بسببِ أحذيتِهِمْ. ولا شكَّ أنَّ في التاريخِ شعوبًا انقرضَتْ أو أُبيدَتْ بسببِ أحذيتِها أيضًا. وأنا لا أستطيعُ أن أنكرَ أنَّ أحذيةَ إخوتي كان لها تأثيرٌ كبيرٌ في حياتي: في حزني الباكرِ، وحزني اليومَ، وخجلي، وضعفي، وفشلي في الحُبِّ والحياة. ولا شكَّ كانت سببًا في هجري المدرسة، وتشرُّدي، ونومي علي الطرقات. حتَّي في نحولِ جسدي وتوقُّفِ نُمُوِّ طولي، وفي جلوسي الآنَ وحيدًا في هذه الغرفةِ التي غابَ عنها الشعاعُ، بسببِ غيمةٍ علي الأرجح، غيمةٍ قد تُمْطِرُ، وحينئذٍ أستطيعُ أن أقفَ علي النافذةِ وأتأمَّلَ المطر. مُذْ سَكَنْتُ هذه الغرفة لم يدخل شعاعٌ إلاَّ ومَرَّرْتُ يدي عليه. كانت لكلِّ تلكَ الأشعَّةِ أجسادٌ ناعمةٌ ونحيلة، لكنَّني كنتُ أعرفُ كُلَّ شعاعٍ من ملمسِهِ. مرَّةً كانَ ضوءَ سفينةٍ في الميناء المقابل، وحينَ اختفي شعرتُ بوحدةٍ غريبة. هل لأنَّها سفينةٌ فيها مهاجرون؟ ناسٌ يرحلونَ إلي بلادٍ بعيدةٍ، يجلسونَ علي المقاعدِ الخلفيَّةِ أو يصعدونَ إلي السطح ليُرْسِلوا آخرَ نظرةٍ إلي البيوت؟ ناسٌ كَنَسُوا البيتَ وسَقَوا الحوضَ، ثمَّ انتزعوا عشبةً من شقٍّ قربَ البابِ ورحلوا؟ أشعلتُ سيكارةً ولَهَوْتُ بدُخانِها، كُلُّ شيءٍ هادئٌ، حتَّي الهرَّةُ الصغيرةُ في زاويةِ الشارعِ لا تنظرُ إليّ. كُلُّ شيءٍ هادئٌ في هذه الغرفةِ منذُ سنوات، وبِتُّ أعتقدُ نفسي جِدارًا وإذا خرجتُ ستهبطُ. أحيانًا أفكِّرُ أنَّ حديدَ الغرفةِ من عظامي. لكنَّ عظامي رقيقةٌ وهشَّةٌ و لا رَيْبَ أنَّ هذا الجسدَ محمولٌ بدعائمَ أخري. كيفَ مَشَتْ معي هذه العظامُ سنواتٍ دونَ أنْ أسمعَ أزيزَها أو أري انهيارَها المفاجئَ علي الطُّرُقات؟ غير أنِّي وحيدٌ تمامًا، ولذلك يَخِفُّ وزني. لماذا أتذكَّرُ أبي الآنَ؟ كنتُ طفلاً حين أوصلتُهُ إلي القبر. لكنَّهُمْ كانوا ينظرونَ إليَّ وكان من اللياقةِ أن أشيخَ أمامهم. هؤلاء الذينَ اعتقدتُ أنَّهُمْ يُحِبُّونني لم يفعلوا شيئًا من أجلي. لم يقولوا لي أنْ أذهبَ وألعبَ مع الأولاد. ظلُّوا يحدِّقونَ بي حتَّي طالت قامتي وحَمَلْتُ معهم الجثمانَ إلي القبر. كان مُقْفَلاً بمسامير. أليسَ أكثرَ لُطْفًا أنْ يردُّوا الغطاءَ علي الموتي بهدوءٍ كلحافٍ ناعمٍ اعتادوهُ في بيوتِهِمْ؟ علبةُ التبغِ علي الطاولةِ أمامي ويكفي أنْ أُحَرِّكَ يدي قليلاً. لكنْ يُخَيَّلُ إليَّ أنَّها يدٌ فرغَتْ من الدم، وإذْ تتحرَّكُ أحيانًا فبزخمِ حركةٍ قديمة. العُمَّالُ أمامي لا يكفُّونَ عن الحركةِ بخفَّةِ من تأكَّدَ له أنَّهُ يستأثرُ بدمِ الحياة. حاولتُ أن أقنعَ نفسي بأنَّ الأعضاءَ المتحرِّكةَ شيءٌ جميل، وأنَّ للرجلِ عادةً عروقًا صغيرةً يجري فيها دمٌ نقيٌّ. لكنَّهُ شيءٌ مقيتٌ أن تكونَ مثلَ آلةِ ضَخٍّ، هكذا مع سائلٍ رتيبٍ كُلَّ العمر، كمن ليسَ عندَهُ شيءٌ ليفعلَهُ. 3 أنظرُ إلي أثاثِ الغرفةِ من غيرِ أن أتحرَّكَ من مكاني. نظرةٌ صغيرةٌ قد تجعلُ هذا الأثاثَ صديقي. لا أعرفُ لماذا أهجسُ اليومَ بالأصدقاء. كانوا يجلسونَ هنا، علي الكنبةِ، وينظرونَ إلي الحيطان. نظراتُهُمْ لا تزالُ عالقةً علي الطِّلاء، ويُخَيَّلُ إليَّ أنِّي أري وجوهَهُمْ كذلك، كأنَّهُمْ حين رحلوا تركوا نظراتِهِمْ، وأرسلوا وجوهَهُمْ لتتفقَّدَها فعَلِقَتْ هي أيضًا علي الحيطان. عَرَفْتُ في حياتي ناسًا رحلوا وبَقِيَتْ عيونُهُمْ سنواتٍ جالسةً بهدوءٍ في آخرِ مكانٍ نظروا إليه. عَرَفْتُ ناسًا تعاملوا مع اعضائهم مثلَ جَمْهَرَةٍ التقَتْ مُصادفةً في احتفال، ثُمَّ ذهبَ كُلُّ واحدٍ في طريق. علي الأدراجِ وفي الشوارعِ والساحاتِ تتوزَّعُ أعضاءٌ كثيرةٌ، كانت تجلسُ يومًا مع أصحابِها ثُمَّ كَبُرَتْ وغادرتْهُمْ. رأيتُ أعضاءً ضائعةً وأعضاءً غافيةً وأعضاءً تبتسم. بعضُها كأنَّهُ وُلِدَ للتوِّ وبعضُها يموت. التقيتُ عيونًا تسهرُ من دونِ أصحابها وأرجُلاً تمشي وحدَها علي الطُّرُقات وشِفاهًا تتكلَّمُ وحدَها مع العابرين. التقيتُ كلماتٍ وأنفاسًا ونظراتٍ غادرَتْ أصحابَها وتحوَّلَتْ كائناتٍ جديدة. إنَّني مع هذه الكائنات جالسٌ الآن. مع أشياءَ انسحبَتْ من ماضيها وبدأتْ حياتَها الخاصَّةَ، وأشعرُ كأنَّ أعضائي علي وشكِ الانسحابِ منِّي لتبدأَ هي أيضًا حياتَها. في أيَّةِ حالٍ، لم أنظرْ يومًا إلي أعضائي كشيءٍ لصيقٍ بي بل كانت دائمًا تتمتَّعُ باستقلالِها. يخرجُ بعضُها منِّي وأنا نائمٌ ليجلسَ علي الشرفةِ. يخرجُ بعضُها ويتمشَّي في الشارع. ومرَّاتٍ، حينَ أستيقظُ في الصباح، أقضي نهاري في البحثِ عن عضوٍ مفقودٍ، وأحيانًا لا أجدُهُ. تتحرَّكُ يدي وتَكْبِسُ زِرَّ الراديو. الخارجُ لا يزالُ نفسَهُ: الحرب. إنِّي محاطٌ بقتلٍ فظيع. سنواتٌ مليئةٌ بالجثثِ ولا أعرفُ كيفَ لا أزالُ هنا، بين الجدرانِ، جسدًا سويًّا. ناسٌ كثيرون يمشون الآنَ في الخارجِ بأعضاءٍ ناقصةٍ، باحثين ليسَ عن أعضائهم المفقودةِ لأنَّهُم علي الأرجحِ نسوها، بل عن لقمةِ خبز. وناسٌ كثيرون لم يعودوا بحاجةٍ إلي تلك الأعضاء لأنَّهُمْ تناثروا معها في أمكنةٍ لا يعرفونَها هُمْ ولا أحِبَّاؤهُم. انتشروا في أكثرَ من مكانٍ، نثرةً نثرة، مُتَّحِدين بالغبارِ الذي لا يُري وبإسمنتِ البناياتِ وبالنسيانِ الرهيب... أتلمَّسُ أعضائي عضوًا عضوًا. إنَّني، في الواقعِ، لا أزالُ جسدًا كاملاً، وما حَسِبْتُ أنَّي فقدتُهُ مع الأيَّامِ لم أفقِدْهُ إلاَّ في الأحلام. حينَ بدأتِ الحربُ لم أكن أسكنُ هنا. كنتُ في الشمال. في قريةٍ علي الساحلِ أعملُ في معملٍ للسماد، وأعودُ في المساء بينَ شجرِ الليمونِ إلي البيت. تلكَ القريةُ علي التلَّةِ الصغيرةِ كانت تبدو لي مثلَ نورسٍ علي وشكِ أنْ يحطَّ في الماءِ ويَعْدُل. سطوحُها القرميدُ لم تكن تجدُ وقتًا للتحدُّثِ إلي أصحابها من كَثْرَةِ ما هي مأخوذةٌ بالبحرِ والسماء. أحجارُ الجدرانِ وأشجارُ الحدائقِ استأثرَتْ وحدَها بالنظراتِ والأصابعِ المدلّلَة. أعتقدُ أنَّ الشجرَ كانَ ينمو ويُثْمِرُ، هناك، بفعلِ نظراتهم، والمطرُ ينزلُ استجابةً لهم. كنتُ أراهم يحدِّقونَ في السماءِ ويعرفونَ نوايا الغيوم. والرياحُ تمرُّ بهم أليفةً وواضحةً كأنَّهُمْ أصدقاؤها. كأنَّهم كانوا ذاتَ يومٍ مع الرياحِ رفاقَ طريق، وتبادلوا علي الدربِ أسرارَ حياتِهم. صوتُ المذيعةُ ينقلُ أسماءَ قتلي وجرحي. إنَّهم يحصدونَ بعضَهم في الشمال، ويحصدونَ بعضَهم في الجنوب، ويحصدونَ بعضَهم في الجبال، ويحصدونَ بعضَهم في المُدُن. قبلَ أيَّامٍ كانوا رفاقًا. زاروا بعضَهُمْ بعضًا وشرِبوا القهوةَ وتواعدوا للقاءِ الأحد المقبل وفجأةً يتلاقونَ مدجَّجينَ بالسلاح. يتقابلونَ أعداءً وجُثثًا. المذيعةُ تنقلُ أسماءَ جثثهم، وتُنهي بأغنية. إنِّي مُحاظٌ بجدرانٍ تقيني منظرَ الخارج. أخبروني أنَّ ناسًا هُناك ماتوا سحلاً علي الطُّرُقاتِ. ربطوهم بسيَّاراتٍ وجَرُّوهم في الشوارعِ وسطَ بكاءِ نساءٍ وزغاريدِ أخريات، ثُمَّ رَمَوْهُمْ تحتَ الجسرِ بعدَ أن تركوا خيطَ دَمٍ منهم علي الأسفلت. أخبروني أنَّ موتًا كثيرًا وبكاءً كثيرًا جري علي الطُّرُقاتِ، حتَّي تفتَّحَ الأسفلتُ عن زهورٍ بشريةٍ يستطيعُ كُلُّ العابرينَ أنْ يَرَوْها، لكنَّ المفجوعينَ وحدَهُمْ يشمُّونَ فيها رائحةَ الزهور. أشمُّ أحيانًا مثلَ هذه الرائحةِ. هؤلاءِ الذينَ غادروني من دونَ أن يطلبوا دمعةً أو كلمةَ وداع. الَّذين انسحبوا بخفَّةٍ من حياتي، كأنَّ ورقةً صغيرةً سقطت في الماء. كنتُ طفلاً حينَ كانَ أبي يُحَدِّثُني عن الحروب. أخبرني عن ضحايا رصاصٍ وضحايا جوعٍ وضحايا مَرَض. عن موتي لم يجدوا أحبَّاءً لدفنهم، وعن مُشرَّدي جوعٍ يجوبونَ القُري والمدنَ ولا يحظَوْنَ بلقمةٍ. قال لي إنَّهُ كان واحدًا منهم، ووجدَ نفسَهُ في عُمْرِ الخامسةِ متسوِّلاً خائبًا من بيتٍ إلي بيت، وباحثًا في الغاباتِ عن عظمةٍ يطحنُها بالحجرِ ليستطيعَ التهامَها. كان أبي يخبرني عن الحروب. و لم أكن افعلُ غيرَ أن انظرَ إليه. 4 الساعةُ العاشرةُ والنصفُ تقريبًا. أُطفئُ الراديو وأُلقي نظرةً إلي الخارج. الشارعُ نفسُه والعُمَّالُ أنفسُهُمْ وبضعُ غيوم. أظنُّها ستُمْطِر. طالَ انحباسُ المطرِ ولا شكَّ في القريةِ الشماليَّةِ، هُناك، ينتظرونَ هطولَهُ. لكنْ، كَمْ بَقِيَ منهم هؤلاءِ الَّذينَ أخذوا أسرارَ الرياح وكانوا يعرفونَ نوايا الغيوم؟ عشراتُ الآلافِ هاجروا مُذْ بدأتْ تلكَ المذيعةُ تنقلُ أسماءَ الجثث. ولا رَيْبَ آلافٌ من الَّذينَ كانت أصابعهم تُدَلِّلُ الأشجارَ لمسوا جلدَ الحقائبِ لأوَّلِ مرَّةٍ وحملوها بحسرةٍ إلي بلدانٍ قاسيةٍ ومجهولة. وضعوا فيها صُوَرَهُم مُبْتَسِمِينَ بجانبِ البابِ وقُرْبَ حوضِ الحَبَق، وحَمَّلوها بعضَ أنفاسِ الغُرَفِ، وأرسلوا نظرةً أخيرةً ومَضَوْا. أخبروني أنَّ ناسًا لم يجدوا الوقتَ لارتداءِ أحذيتِهِمْ قبلَ الرحيل. وصلوا حُفاةً وعُراةً إلي مُدُنٍ وقريً وصادَقُوا العراءَ للنومِ معه. قالوا إنَّ الموتَ وصلَ فجاةً وهم نيام، وإنَّ الموتَ وصلَ فجاةً بثيابِ أصدقاء، وإنَّ الموتَ وصلَ فجأةً من سماءٍ كانت قبلَ يومٍ تمطرُ عليهم وعلي حقولهم. وقالوا إنَّ ناسًا كثيرينَ سقطوا بعدَ خطوةٍ، وناسًا كثيرين سقطوا من دونِ خطوةٍ، ودروبًا كثيرةً لا تزالُ تسمعُ أنينًا هُناكَ، واُمَّهاتٍ نسيْنَ أطفالَهُنَّ علي الأسِرَّةِ من شِدَّةِ الرعبِ ورحلْنَ بدونهم. أظنُّها ستُمْطِرُ. الغيومُ تأتي من بعيد. علي الأرجحِ من سماءِ بلدانٍ فيها مُهاجِرونَ، ورُبَّما ستَذْرِفُ هنا بعضَ دموعِهِمْ. تَلَبُّدُها يشبهُ أنفاسَ المهاجرينَ، وفي تباطُؤها فوقَ البيوتِ شيءٌ من أشواقِهِمْ. أظنُّها ستُمْطِرُ. حينَ كُنَّا صغارًا كانَ المطرُ لعبتَنا المفضَّلة. أبي، الفلاَّحُ الفقيرُ، لم يكن معه ثمنُ ألعابٍ، فكُنَّا نلعبُ بأغراضِ الطبيعة. الماءُ والثلجُ والفراشاتُ والغصونُ كانت أغراضَنا. ولم تكن بينَ الأرضِ و بيننا قِسْمَة. لم أكن أعرفُ لماذا كانَ أبي ينهرُني عن عَدِّ النجوم. الآنَ أعرفُ أنَّ ذلكَ كانَ خوفًا من غيابِ أحدِ رفاقي. كان يعلمُ أنْ ليسَ كُلُّ الرفاقِ دائمًا سيحضرونَ، وأنَّ عددًا كبيرًا منهم لا بُدَّ يومًا سيغيب، وأنَّني سأنامُ، في تلكَ الخيمةِ العاليةِ المفتوحةِ للعراءِ، مرَّاتٍ عديدةً من دونِ رفيق. كان أبي بالتأكيدِ يعرفُ أعماقَ مشاعري، ويُحِبُّني فوقَ التَصَوُّر. حينَ افترقْنا، كانَ ذلكَ قُرْبَ شاطئ. بيتُنا الذي استأجرناهُ مُعَمَّرٌ فوقَ قناطرَ، علي صخرٍ بحريٍّ، والبحرُ كانَ واحدًا من أهلِ البيت. أبي ظَلَّ فوق، في الضَّيْعَةِ، مع بيتِهِ وشجرِهِ، ومع سُلَّمِهِ الخشبيِّ يقعدُ علي درجتِهِ السُّفْلي كُلَّ مساء، مُنْتَظِرًا بوسطةَ القريةِ الآتيةَ من المدينةِ علَّها تقفُ علي المفرقِ وينزلُ منها أحَدُ أولادِهِ. لكنَّ ذاكَ السُلَّمَ ظَلَّ، لسنواتٍ، لا يَري غيرَ رجلٍ منتظرٍ، ودخانَ سيكارة. حينَ ودَّعتُهُ لآخرِ مرَّةٍ، كان ذلك علي الشاطئ. ثُمَّ تصاعدَ من بيتنا دخانٌ كثيفٌ. و الدخانُ كانت له رائحةُ لحمٍ محروق. وصارَ أبي هيكلاً عظميًّا أسود... صَعِدْتُ و ألقيتُ نظرةً أخيرةً علي فحمِهِ، ومضيتُ حاملاً وحدي حطبَ الحياة. حطبَ الحياة؟ لا، أعتقدُ أنِّي كنتُ أحملُ براعمَ أيضًا. وكنتُ، أنا و بعضُ الأصدقاء، نظنُّ أنَّ شجرةً وارفةً ستخرجُ من تلكَ البراعمِ وتُظَلِّلُ مكانًا جميلاً. كان لنا أهلٌ آخرون: الأحلام. وفي حينِ كُنَّا نمشي مع أحلامِنا، كانَ هناكَ، في مكانٍ خفيٍّ، من يصطادُها، وكانت هي تسقطُ، مثلَ أهلِنا جميعًا. 5 كان مصنعُ الأسمدةِ يضخُّ في ذلكَ الوقتِ سمادًا من المفترض أن يحمله الفلاَّحونَ ويرشُّوهُ علي حقولِ الزيتون. وكانتِ الأشجارُ، كَكُلِّ سنةٍ، تنتظرُ غذاءَها، وغصونُها مائلةٌ نحوَ البيوتِ تترقَّبُ وصولَ أصحابِها. لكن فيما كان أملُ المواسمِ ينزلُ حبَّةً حبَّةً في الإهراءاتِ، كانتِ الحقولُ تُهْجَرُ حقلاً حقلاً، والأشجارُ تسقطُ مع سقوطِ أصحابِها في الهجرانِ وفي الحربِ وفي الموت. تمدُّ رؤوسَها نحوَ بيوتٍ حضنَتْها مُذْ كانت صغيرةً، وتنحني رويدًا رويدًا ، وتَيْبَس. في تلكَ الحقولِ كانَ ثمَّةَ نبضٌ آخرُ يجري في عروقِ النَّبات، نبضٌ بشريٌّ جنبًا إلي جنبٍ مع النُّسْغِ وروحِ الشمس والتراب. حتَّي العشبُ والأشواكُ كان بينها وبين الناس تفاهُم, حينَ ينظرُ أحدُهُمْ إلي السماءِ ترتفعُ معه عيونُ نبتة. وعلي الأرجحِ كانتِ الاشجارُ تنامُ حينَ يغمضُ الناسُ عيونَهم. وزهرةُ اللزَّانِ، الوحيدةُ في البراري، سعادتُها تأتي من لمسِ أيديهم. كانت حياتُهم تَعْني فرحَ نبتةٍ وشَبَعَ خروف، وتختلطُ حالاتُهم بحالاتِ أرزاقهم، تتكرَّرُ ولاداتُهُمْ مع ولاداتِ المواشي وانعقادِ الزهر ونُمُوِّ الخَضار، واللبنُ والنعناعُ بعضٌ من أجسادهم. كان مصنعُ السمادِ يضخُّ حبوبًا كأنَّهُ يضخُّ ذكري من الماضي. وكان هناكَ شجرٌ يجوعُ، وشجرٌ يَيْبَسُ، وشجرٌ يُحْرَقُ، وشجرٌ يُذْبَحُ، وشجرٌ يقاوِمُ منتظرًا ناسًا لا يستطيعونَ الوصولَ، وناسًا سقطوا علي الطريقِ، وناسًا رحلوا إلي بلدانٍ بعيدة. علي بوَّابةِ المصنعِ عُشْبَةٌ تكبرُ يومًا بعد يوم، كأنَّها تتمتَّعُ وحدَها بحياةِ السماد. وكانت تلك العشبةُ آخرَ ما نظرتُ إليهِ وأنا أغادر. ولكنْ لماذا أتذكَّر تلكَ اللحظاتِ من أيَّامٍ تبدو لي صَدِئَةً مثلَ لافتةِ طريقٍ مَدْروزَةٍ بالرصاص؟ إنَّني هُنا الآنَ، في هذه الغرفةِ الصغيرةِ علي كنبةٍ. وما عدا ذلك نوعٌ من أنواع الوهم. الماضي؟ كَمَنْ يحاولُ إيقافَ عابرينَ بالوَطْءِ علي ظلالهم. النافذةُ نفسُها، العُمَّالُ أنفسُهُمْ، وبعضُ غيوم. لا شيء تغيَّرَ منذُ الصباح، فقط عقاربُ الساعةِ تقدَّمَتْ بضعَ دقائق. أتمشَّي قليلاً في الغرفةِ. أقتربُ من المرآة. أُمشِّطُ شَعري. اسحبُ من المِشْطِ شعرتيْنِ وأُلقيهما في القُمامة. أظافري طويلةٌ وكانَ يجب أن أقُصَّها. كان يجبُ أن أفعلَ شيئًا مُفيدًا. أين الشعاع؟ قبلَ قليلٍ كانَ يتقدَّمُ نحوي ويكادُ يلمسُ جسدي. نظرتُ بشوقٍ إلي حَبْوه، إلي طفولتِهِ الأولي في بيتي. أنظرُ من النافذة. في السماءِ غيومٌ. أظنُّها ستُمْطِرُ. نص من ديوان »بسبب غيمة علي الأرجح « يقارب اللحظة التي نمر بها.