لا يسعي الكاتب إلي سرد تاريخ مصر (فهو متوافر في أماكن أخري) لكنه يُوظف التاريخ ليعيد طرح السؤال عن معني الإنسانية، وكيفية تمثلها في تلك اللحظة المشبعة بالألم، كاتب عاش داخل الكتابة فمنحته فيضا من الرحابة، لم يسع إلي الضجيج المصاحب لخروج رواية، وغالبا لم يهتم، فقد كتب لأنه يريد أن يكتب، تمكن من اللغة، ومن معني الحدوتة فجاءت روايته الأخيرة »جواد« (من منشورات ورشة الزيتون التي يشرف عليها الشاعر والناقد شعبان يوسف) محكمة في بناء مذهل. لكن ما يجعل لكل هذا البناء معني هو أن جمال زكي مقار لديه ما يقوله، فعمل علي طرح أفكاره من خلال تتبع مسار جودت بك وابنه نور في النصف الأول من القرن العشرين، أو بالأحري حتي عام 1948، حرب فلسطين. وبسبب الوضع الاجتماعي لجودت بك الذي حصل علي الباشوية مقابل بيع الخيول، ومن ثم تم تعيين ابنه نور في النيابة، من هنا أرسي الكاتب الأساس الاجتماعي لطبقة لابد أن تتماس في مجالها- الاجتماعي والمهني- مع طبقة مسحوقة من عمال وفلاحين وطلاب، وهي طبقة مسحوقة بشكل مضاعف: بالفقر، والاحتلال الانجليزي، وسلطة مصرية متواطئة معه. بذلك تقدم رواية »جواد« تجسيدا تاريخيا لمجتمع طبقي بامتياز في فترة حرجة من تاريخ مصر، تلك الفترة التي صالت فيها وجالت الجاليات الألمانية والايطالية والانجليزية في سعي محموم خلف مصالحها، وفي تناحر دائم من أجل إبقاء علاقات القوة كما هي في أحسن الأحوال، أو الاستئثار بالقوة بشكل مطلق، كما ظهر في الحرب بين الألمان والايطاليين من ناحية والانجليز من ناحية أخري في الحرب العالمية الثانية التي اتخذت من مصر (وبلدان أخري) مسرحا لاستعراض القوة. لكن الكاتب أراد أن يشير إلي هذا التاريخ عبر مسار الشخوص، وعبر منح الخيل دلالات متعددة وثرية، حتي أنها أصبحت معادلا موضوعيا للشعب المصري. أما الملمح الرئيسي الذي تعمل عليه الرواية بمهارة وحنكة فهو مسار الشخصيات التي تتقاطع مع جودت بك وابنه نور، ففي حين لا يتطلب الأمر إضفاء مستويات عدة علي حياة الباشوات (جودت وابنه وحافظ باشا...الخ)، يستدعي الأمر مجهودا في حياة »الآخرين« فحياتهم مليئة بتفاصيل الفقر والألم والموت والتعذيب والغبن، مما يجعل المبرر واضحا لاعتناق »المبادئ الهدامة« (كما أسمتها الحكومة آنذاك) للأيديولوجية الشيوعية والاشتراكية، التي بدأت مع الطلاب، يورد منهم الكاتب طلاب مدرسة ميكانيك الطيران وطلاب جامعة القاهرة (فتحي إبراهيم). تبدو هذه الأيديولوجية ضرورة واجبة في السياق الروائي (والتاريخي) في مواجهة سلطة غاشمة تكره مصر وتحتقر المصريين. إنها السلطة التي »تبعث الدفء في ذلك الوحش القديم الذي يسكن الإنسان«. يتوازي مع تلك الشخصيات حمحمة الخيل، وصهيلها، ثم رميها بالرصاص بدون هوادة ولا رحمة، تلك الخيل التي أبت أن يركبها من هو غير مدرب، والتي داومت علي الإخلاص لمن يحترمها، وتدريجيا ومع التراكم في الأحداث تتحول الخيل التي تبدأ وتنتهي بها الرواية إلي المعادل الموضوعي للشعب المصري، بكل أحزانه وآلامه وأزماته، ببيعه وشرائه، باحتلال أرضه وجلد شعبه. لا يسعي الكاتب إلي سرد تاريخ مصر (فهو متوافر في أماكن أخري) لكنه يُوظف التاريخ ليعيد طرح السؤال عن معني الإنسانية، وكيفية تمثلها في تلك اللحظة المشبعة بالألم، إن لم يكن ألم السياط فهو ألم الذل والمهانة. فهناك شخصيات في الرواية كانت مرشحة لفقدان الانسانية لكنها تماسكت وأبحرت في الداخل لتخرج نورا بدلا من »الوحش« إنه الاختيار الذي يمثل أكبر تحد. فمراد أفندي الأغا علي سبيل المثال اكتسب الحكمة في مواجهة قسوة وفجاجة جودت، أما ليلي كمال الدين الراقصة الجاسوسة تحولت إلي امرأة حقيقية بفعل الحب، وحتي لويجي بيانكا مدرب الرقص والجاسوس الايطالي شعر بلحظات دفء حقيقي تجاه ليلي. لكن يبقي إبراهيم الهواري- الجلاد السابق- والمجلود دائما، هو الشخصية التي لا تُنسي في هذا العمل. إنه إبراهيم الهواري الذي حاول امتطاء الفرس شهاب فرفسه الفرس ولم ينج من خلع كتفه (أي الفرس)، فظل الباشا يجلده حتي حلقت روحه خارج الجسد، ليعود ويظهر حينما فتحت قوات الاحتلال كوبري عباس. مشهد بارع وعميق، يموج بدلالات عميقة خاصة حينما يقرر إبراهيم أن يعود إلي بيته في وسط رصاص ينهمر من كل مكان. ولا يضاهي هذا المشهد براعة في إظهار معان جديدة للإنسانية سوي المشهد الذي جمع بين عفراء وشهاب، ومن هنا تكون المفارقة، فالإنسانية ليست من نصيب الإنسان وحده، بل لها مكانة عند الخيول. بذلك يلضم جمال زكي مقار طرفي الخيط فيؤكد علي كون الخيل معادلا موضوعيا للشعب المصري، الذي لم يتوقف عن تلقي الرصاص والسياط حتي آخر لحظة. وبشكل مشابه لهتاف »نموت نموت وتحيا مصر« ظلت الخيل تناضل من أجل البقاء حتي النهاية، أي حتي لحظة خروج نور جودت من السجن وقيامه بإطلاق الرصاص علي كافة الخيول في قصر والده بعين شمس، كان رأيه بسيطا: »إنهما لا يساويان شيئا« لكن كما واجهته أمه سمية هانم »تعيش حين تموت الأشياء من حولك« وكما واجهت أباه من قبل، يبقي المصري يواجه ويواجه، وتنتهي الرواية ببصيص أمل يدل علي مواصلة النضال، عبر مريدة وزوجها، وعبر الطلاب الذين يزداد غضبهم يوما بعد يوم. وبعد، هل تغير شيئ؟ عندما قال حافظ باشا لنور في لحظة ابتزاز تليق بكليهما »نحن نفعل بالبشر ما نريد فعله، وأنت نفسك منذ شهور قليلة كنت تفعل ما تحب وما يبدو لك« بدت الجملة وكأنها صاعدة من مصر الآن، فيتذكر القارئ أن السلطة لا تتغير، فقط تتغير الوجوه والأسماء، ويبقي الجواد منطلقا، وإن كان لكل جواد كبوة.