في أعقاب "ثورة" 25 يناير ظهر مصطلحان في السجال السياسي كما في التحليلات ذات الطابع الصحفي. المصطلحان كانا معبّأين بأحكام قيمة مسبقة تصادر غالبا علي التحليل الدقيق للواقع الفعلي، أحكام قيمة تعتمد علي المقارنات والاستعارات بكل ما تحمله هذه المقارنات والاستعارات من شحن عاطفي ، أما عن هذين المصطلحين فهما: "الدولة العميقة" و"الفلول". المصطلح الأول، الذي لم يكتب له الاستمرار طويلا (الدولة العميقة) لكنه عاد مرة أخري مع مأزق الإخوان في السلطة، كان نقلا مباشرا عن توصيف شائع للنظام السياسي التركي، ويشير أساسا إلي أوليجاركية عسكرية وأمنية مخابراتية إضافة إلي جماعات متنفذة ومجموعات مصالح أخري تتحكم في مشهد سياسي بشكل غير معلن، وتؤثر علي قراراته بعمق تحت غطاء ديموقراطي زائف. جري تطبيق المصطلح علي الحالة المصرية كلما بدا أن الثورة تنحرف عن مسارها بتأجيل مطالبها أو إساءة تفسيرهذه المطالب بشكل متعمد، منذ تولي المجلس العسكري الحكم عقب خلع مبارك. ويتضمن هذا الاستخدام لمصطلح "الدولة العميقة" بالطبع نوعا من الإدانة الضمنية لجهات بعينها أو لطريقة عملها. لكن هل هذه الجهات وطريقة عملها هو ما يمكن تسميته ب"النظام"؟ المصطلح الآخر هو "الفلول" الذي استخدم لوصف الطغمة الحاكمة والمتنفذة في عهد مبارك. وتوسع أحيانا ليعني كل من شارك وتواطأ مع "نظامه". كلمة "الفلول" أعلت من شأن استعارة أوحت بأمرين غير صحيحين (وهو ما أكدته الأحداث) الأول هو الهزيمة المؤكدة ل"النظام" الذي بات أفراده مجرد "فلول"، والأمر الثاني هو التعبير عن حجم ما تبقي من هذا النظام باعتباره ليس أكثر من قلة مندحرة يجب عزلها وفصلها عن الحياة السياسية. وكما هو واضح: يتقاطع المجالان اللذان يشير إليهما كلا المصطلحين "الدولة العميقة والفلول". وإن بدا الأول يتحدث عن "النظام" والثاني عن الأفراد المتورطين فيه. لقد كان الإصرار علي محاكمة أبناء النظام السابق وملاحقتهم قضائيا (وكأنه هو قضية الثورة الأساسية) ليس نابعا من فكرة الانتقام بما هي فكرة ماضوية بالأساس، بل هو نوع من طمأنة الذات علي مستقبل غامض، علي الأقل بنفي عناصر الإقلاق منه. كما لم يكن، في رأيي، حرصا علي أن تكون السيادة لدولة القانون بأكثر من كونه خشية العودة أو الانقلاب المظفر لهؤلاء "الفلول". المدهش ونتيجة هذين الخطأين بالذات، أن الجسم الأساسي للمعترضين علي النظام السابق وجد نفسه في معركته الأخيرة مع الإخوان المسلمين مضطرا للاعتماد علي "الفلول" وعلي "الدولة العميقة"، وبات الإخوان يعيرون الثوار باعتمادهم علي هؤلاء باعتبارهم خونة للثورة. مشكلات لا تكمن مشكلة هذين المصطلحين في مجرد الخطأ الاصطلاحي أو الوصفي إذ إن هذا الخطأ كان يكشف عن أخطاء أهم. بل لنقل عن طبيعة وعي منقوص أكثر منه عن أخطاء لهذا الوعي. وكان له أثره الفادح علي مسار ما سمي ب"ثورة يناير" وصولا إلي لحظة 30 يونيو. تكمن المشكلة الأولي في أن مصطلح "الدولة العميقة" وإن أمكنت مضاهاته جزئيا بما كانت عليه الدولة المصرية قبل الثورة وبعدها إلا إنه لا يكشف عن البني الأعمق التي جعلت هذا الشكل من تحالفات السلطة هو السائد. تتجاهل إذن طبيعة النمط الاقتصادي، كما تتجاهل صراع "الشرعية" ومفهومها وحدودها وتطورها التاريخي. كذلك فإنها تظهر الأمر، بتركيزها بالذات علي الدولة المحكومة بطغمة عسكرية، وكأن مشكلة هذه الدولة نشأت مع حركة "ثورة" يوليو 52، ومن ثم فهي تخسر إمكانية تفسير واسعة بإخفائها التاريخ الطويل الذي قطعته الدولة "العميقة" إذا وافقنا علي استخدام التعبير أصلا. يتجاهل التعبير جملة تعالقات النظام مع أنظمة أخري تحت ضغط الحداثة مثلا منذ مطلع القرن ال19، حيث اضطرت الدولة العربية الموسومة من قبل باحثين ب "التسلطية" أو "الضارية" أو "الخراجية شبه الاقطاعية" أو المعتمدة علي "النمط العسكري للإنتاج" علي إعادة تشكيل نفسها وبناء شرعيتها بشكل توافقي للحفاظ علي مصالح النخبة الحاكمة.. الخ. تتجاهل أهم عنصر في تطور هذا النوع من الدول الذي يصبح المحرك الأساسي فيه بحسب ما يقول د. نزيه الأيوبي في كتاب "تضخيم الدولة العربية" هو السياسة وليس الاقتصاد، وتصبح الدولة فيه متغلغلة ومهيمنة علي مفاصل المجتمع المدني، أو بالأدق لا يعود هناك مجتمع مدني بالمعني المفهوم، بينما تتوسع البيروقراطية بشكل مفرط مكونة دولة متضخمة وهشة في الآن ذاته، دولة تصبح هي الوسيط الأساسي في تعاملات مواطنيها، ولا تترك لهم مساحة إقامة روابط أو صلات أفقية إلا في أضيق نطاق وعلي شكل جيتوهات هامشية لا تلبث أن تبتلعها أو تحيّدها تماما. من المدهش أن هذا الجسم الإداري والتقني مفرط النمو للدولة هو الذي حافظ عليها تجاه الإخوان. فالبيروقراطية الإدارية، وهو شيء لم يلاحظه الإخوان ولا غيرهم، جسم علماني بشكل جزئي، نتيجة اهتماماته الدنيوية، واعتماده علي التخصص بعيدا عن أي غائية عامة غير المصلحة المباشرة أو أداء "المهمة". من هنا نفهم لماذا حافظ بيروقراطيو هذه الدولة علي ازدواج عاش طويلا بين العمل الإداري الوظيفي غير الغائي، وبين الورع الديني النسبي خارج ساعات العمل. وهو ما يمكن أن نرمز إليه مثلا ب"خاتم المصلحة" و"سجادة الصلاة" في درج الموظف الحكومي. حتي التسلسل الإداري الهيراركي لا يعتمد علي معايير أخلاقية بالمعني الديني بل معايير موضوعية تخصصية (إذا كان نزيها) أو معاير المصلحة الشخصية إن كان غير نزيه. ماذا يعني هذا؟.. تلك هي القصة. سفينة نوح إحدي سوءات الإخوان تمثلت طوال الوقت في الافتقار المعيب إلي الإبداع. ولا ينبع هذا من كونهم أقلية في صراع وجدل مع مجتمع، بل في كونهم أقلية تري نفسها هي المجتمع، وبالتالي تخسر كل يوم في صراعها معه فهم أفكاره ورصيد خبرته التاريخية، أو تتعامل معها براجماتيا وأداتيا فقط (مثلما تعاملت مع مفاهيم الديموقراطية والشرعية وغيرها) وهو ما لا يسمح لها بتراكم تحليلات خاصة وعميقة عن المجتمع موضوع التغيير أو الصراع. هكذا تقبل الإخوان وصف "الفلول" والدولة العميقة" وتعاملوا كما لو كان لديهم القدرة علي تغيير مسار جسد الدولة بمجرد الاستحواذ علي المناصب والتحكم بمفاصل البيروقراطية، وهو ما كان من المستحيل أن يحدث بدون الرضوخ لشروط هذه الدولة وطبيعة نظامها من جهة. ومن جهة أخري لا يتقبل هذا الجسم ذو المفاصل العلمانية الجزئية أي مغامرة غائية، ففكرة الأمة مثلا التي دفعت الاخوان للتعامل مع حماس أو غيرها مرعبة بالنسبة لهذه البيروقراطية التي تفقد معني الأرض، أي المكان العملي الطبيعي لتحققها وتدخل في إطار غامض يمكن أن يفككها تماما. هناك إشاعة تقول إن الجيش لم يتدخل إلا بعد تصريح مرسي حول الجهاد في سوريا ضد النظام السوري. فجيش نظامي "وطني"، ليس بالمعني التفضيلي للكلمة، لن يقبل مغامرة كهذه. الإشاعة صدقت أو لم تصدق تعطينا فكرة عن حدود المأزق الذي واجهه الإخوان. باعتقادي إن ال30 مليونا الذين خرجوا ضد الإخوان لم تكن لديهم فكرة عما يريدونه، لكنهم كانوا يعرفون جيدا ما الذي "لا يريدونه"، كانوا يشعرون بالرعب من تفكك الدولة نفسها، كانوا معتادين علي ترك رهانات "الغائية" للحياة الشخصية، والحفاظ علي جسم الدولة "علمانيا"، وهو ما لم تفهمه جماعة الإخوان التي جاءت بروابط تعود إلي ما قبل الدولة متصورة أو واهمة قدرتها علي ابتلاع الدولة والدفع بها إلي "سفينة نوح الدعوة"، لتكتشف أنها وحيدة في قاربها الصغير المثقوب وسط ناقلات عملاقة. بقي أننا نبدو الآن وكأننا نعود إلي نقطة تشبه "الصفر"، لكن هذا ليس صحيحا أبدا. فبغض النظر عن كون ما حدث في يناير أو يونيو ثورة أو شيئا آخر، فقد بتنا نعرف أكثر عن تفاصيل مجتمعنا ما لم يكن قد توفر لنا خلال قرون طويلة ومن خلال خبرة عملية مدفوعة الثمن.. كما لن ننسي أنها المرة الأولي منذ قرون طويلة أيضا التي تخرج فيها الشعوب العربية علي سكانها المحليين، وهو ما يعني شرخا لا يستهان به في مفهوم السيادة وقدسيته، لن ننسي أن حجم التسييس الذي انخرط فيه المجتمع قد جاوز كل حد، ووصل إلي حدود يمكن تسميتها بالديموقراطية المباشرة ولو جاءت في شكل سلبي هو الاعتراض أو الاقصاء. بقي أن هناك بني للسلطة أعمق كثيرا من "الفلول" وأكثر تعقيدا بكثير من "الدولة العميقة" مازالت في حاجة إلي تحليل وتفكيك.