في النصف الثاني من عام 1941 أي منذ حوالي ستة وستين عاما كنت أقضي الصيف وجزءا من الشتاء في سجن بالقلعة اسمه سجن مصر أو قره ميدان ، وأنا في السابعة عشرة من العمر طالباً بالسنة الأولي بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول القاهرة الآن مع مجموعة مثلي من الشباب اليافع ، متهما بمحاولة قلب نظام الحكم بالقوة المسلحة ، وذلك لمجرد أننا كنا في هذه السن المبكرة نتطلع إلي مصادر المعرفة المختلفة . فكنا نتردد علي ندوة ونحن طلبة بقسم الفلسفة نستمع فيها إلي شرح للمادية الجدلية وقوانينها التي تفسر تطور المجتمعات البشرية من المجتمع العبودي إلي الإقطاعي إلي الرأسمالي ... لبثنا في الاعتقال تسعة أشهر ، خرجنا بعدها دون أية محاكمة. وكانت مصر مهددة وقتها بزحف جيوش ألمانيا النازية بزعامة هتلر وإيطاليا الفاشستيه بزعامة موسوليني ، يُقاومها جيش الحلفاء بقيادة المارشال مونتجمري في الصحراء الغربية حيث كان هناك كرّ وفَّر بين الفريقين ، أحدهما يهاجم من الصحراء الليبية والآخر يقاوم في طريق الإسكندرية : مرسي مطروح ، وحيث أقام فيما بعد مقابر شهدائه في منطقة العلمين . في هذه الأثناء حل شهر رمضان ، فرأيت وأنا المسيحي أن أصوم هذا الشهر مع بقية الزملاء فلا أكون المفطر الوحيد بينهم . ذلك أن الطعام كان يصلنا ثلاث مرات يوميا عن طريق متعهد باتفاق مع أسرنا في مقابل مبلغ متفق عليه ، فالمحكوم عليهم فقط هم الذين يتناولون طعام السجن . وفي رمضان ، كان المتعهد يرسل لنا طعام الإفطار والسحور معا قبل أن يطلق مدفع الإفطار طلقاته بدقائق ، فنتناول طعام الإفطار ونحتفظ بطعام السحور لتناوله قبل أن يطلق مدفع الإمساك طلقاته . لكن حدث ذات ليلة أن استيقظنا فلمحنا من نافذة الزنزانة المرتفعة الضيقة ضوءا أشبه بضوء الفجر بحيث ظننا أننا لم نستيقظ قبل موعد الإمساك .. وأذكر جيدا أن الرفاق قرروا التمسك بصومهم وألا يمسوا طعام السحور رغم ما نحن فيه من ظروف استثنائية . وكانت المفاجأة أننا ما لبثنا أن ترامت إلي أسماعنا صوت طلقات مدفع الإمساك بعد ربع أو ثلث ساعة من استيقاظنا ونحن ننظر إلي طعام السحور أمامنا دون أن يمسه واحد منا، بينما أعلن أحدنا أن لنا أجرين ، وتساءل آخر: إذا كنا قد تناولنا سحورنا عندما استيقظنا فهل نعتبر صائمين أو مفطرين. فكان الجواب ممن تولي الإفتاء : نكون مفطرين فعلا صائمين شكلا لأن الأعمال بالنيات ، والله أعلم .