د. أحمد سخسوخ يبدو أن شيوخ الفتنة الذين طالبوا بتدمير إبداعات الأقدمين ، لم يقرأوا ما كتبه أمير الشعراء أحمد شوقي عن آثارنا المصرية القديمة : "وأنا المُحتْفيِ بتاريْخ مصر .. من يَصُنْ مجدَ قومه صان عِرضْاً وهذا ما قد فعله د. ثروت عكاشة وزير الثقافة الأسبق ، الذي وصف آثارنا، بأنها " تشمخ بين أروع وأخلد ما صنعة يد الإنسان منذ فجر التاريخ البشري ، ففي نهاية عام 1958، كانت الإدارة السياسية تتجه نحو تشييد السد العالي، وكانت آثار النوبة، مهددة بالغرق والإنهيار والضياع .. ونظراً للقيمة الحضارية الإنسانية والتاريخية والإبداعية للآثار المصرية، طمع فيها الغرب للاستحواذ عليها ، وهنا همس مستر روريمر مدير متحف المتروبوليتان بنيويورك في أذن ثروت عكاشة لشراء معبد أو بعض معابد النوبة ، بدلاً من تعرضها للغرق، وهنا انبري عكاشة غاضباً ومعاتباً لقائله : «إنه لجدير بمتحف المتروبوليتان»، أن يبادر بالعون العلمي لإنقاذ هذا التراث الإنساني بدلاً من التفكير في شرائه». وكان هذا بداية لمشروع عالمي تبناه عكاشة لإنقاذ آثار النوبة، وقد شارك فيه كثير من دول العالم . وبالطبع شتان بين رجل يؤمن بقيمة الحضارة الإنسانية ويدافع عنها ، وبين شيوخ قتنة تنادي بالتدمير والقتل، باعتبار آثارنا المبدعة دليل كفر وتكفير ودافعاً للإقصاء والقتل. صرخة بييرلوتي إنهم يملأون الفراغية التي تقع بين السماء والأرض ، بالصراخ والضجيج لتدمير كل ما هو مبدع ، فالإبداع لديهم- بدعة ، والبدعة ضلال ، والضلال كفر، ومن يكفرون يُباح قتله، وهم يكفرونه كل من يختلف معهم، ويلقون بمصيره في الآخرة إلي حيث جهنم، وبذلك يتحدثون باسم الرب، رغم أنه لم يعين وكيلاً نيابة عنه في الأرض ، - فقد كان محمد (ص) آخر الأنبياء المرسلين . لقد كان عكاشة يقرأ كتاباً باللغة الفرنسية، عنوانه (موت فيله) للمؤلف بييرلوتي، وكان المؤلف قد أنهي كلمات كتابه بصرخة مدوية : "بصرخة فاجعة يتمني فيها علي المصريين أن يُهرعوا إلي الحفاظ علي تراثهم الخالد كي يبقي نبعاً تستلهمه إلي الأبد الأجيال القادمة." وبالطبع يدرك القاريء هنا الفارق بين الصرختين، صرخة شيوخ الفتنة التي تحمل شهوة التدمير والقتل، والصرخة التي تؤكد علي الحضارة الإنسانية. مشروع إنقاذ آثار النوبة كان عكاشة هو أول من نادي بتنظيم الحملة الدولية الأولي لمشروع إنقاذ معابد فيلة، وهي الحملة التي بدأها نهاية عام 1958 وبالفعل تبنت منظمة اليونسكو هذا المشروع ، وبعدها قامت بإنقاذ مدينتي فلورنسا والبندقية . وكان عكاشة قد تقدم بمشروعه لإنقاذ الآثار إلي فيتورينو ونزي المدير العام لمنظمة اليونسكو، بعد موافقة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر . وبذلك أرسل بداية عام 1959 خطاباً إلي مدير المنظمة يطلب فيه رسمياً إمداد المنظمة لوزارة الثقافة بالعون الفني والعلمي والمالي لتحقيق الأعمال التي يتطلبها إنقاذ تراث النوبة . وبالفعل تم الاتفاق بين الوزارة والمنظمة الدولية علي خطوات البدء في تنفيذ المشروع لإنقاذ الآثار من أسوان حتي الحدود المصرية السودانية . نداء إلي العالم أقامت منظمة اليونسكو حفلا في بروكسل لتوجيه نداء دولي إلي العالم لإنقاذ تراث مصر، وقد أكد المدير العام لمنظمة اليونسكو- أمام حشد من الشخصيات العالمية في كلمته علي أن :- " هذه الآثار ملك للعالم كله، وللعالم الحق في ضمان بقائها مثل رسائل سقراط وصور أحاتا الجدارية، وسيمفونيات بيتهوفن".. وقد انتهي في ندائه إلي القول بأن " عبارة هيرودوت مصرهبة النيل، هي أول عبارة يونانية تعلم ترجمتها عدداً لا حصر له من الطلاب، فلنتحد اليوم جميع شعوب العالم، لكي لا يطوي النيل في قاعه بسبب المشروعات البناءة الرامية إلي زيادة الخصب ومنابع القوي والروائع التي ورثناها نحن الأجيال الحاضرة ، من أجيال طوتها الدهور منذ أزمنة سحيقة." هكذا ينظر العالم إلي آثارنا باعتبارها ملك للحضارة البشرية أو هكذا يتحرك العالم لإنقاذها من الغرق والضياع، في الوقت الذي يريد فيه شيوخ الفتنة تدمير الحضارة التي ينتمون إليها . تنفيذ المشروع : ومنذ عام 1960 حتي عام 1963، تم المسح الأثري والتنقيب والتسجيل للمعابد، إلي جانب إنقاذ معبدي طافة ودابور، وتم نقل معبد كلابشة من موقعه القديم جنوبي أسوان بحوالي 57 كيلو متراً إلي موقعه الجديد بعد 7 كيلو مترات جنوبي أسوان علي الضفة الغربية للنيل ، مواجهاً للسد العالي. كما تم إنقاذ ثلاثة من آثار النوبة، وهي معابد بيت الوالي ووادي السبع ومقبرة بنوت، وقد أعيد معبد بيت الوالي في منطقة كلابشة، وأعيد تشييد مقبرة بنوت في منطقة عمدا، وأخري نقل معبد وادي السبوع إلي ما بعد أربعة كيلومترات من موقعه القديم، وأعيد بناء معبد قرطاس بجوار معبد كلابشة وأصبحت بذلك هذه المنطقة أول منطقة تَجَمَعُّ لآثار بلاد النوبة في أماكنها الجديدة فوق منسوب بحيرة السد العالي . وفي منطقة وادي السبوع، أقيم معبد البركة والمحرقة ومعبد وادي السبوع . ويعد إنقاذ معبدي أبو سمبل (نقلها وإعادة بنائهما فوق هضبة أبي سنبل) أعظم إنجاز ثقافي في مجال الآثار، ساهمت فيه أكثر من خمسين دولة من دول العالم. وفي 22 ديسمبر عام 1968 تم الاحتفال بإنقاذ آثار مصر، وإنقاذ معبدي أبو سمبل في أماكنهما الجديدة . وقد أناب دكتور ثروت عكاشة عن عبد الناصر في هذا الاحتفال، وفي كلمته قال : " ما نحن بمغالين حين نؤكد أنه ليس ثمة مكان غير مصر يحتضن مثل هذا العدد الكبير من الإنجازات الهائلة علي مدي طويل من التاريخ . لقد خلف الفراعنة والإغريق والمسيحيون والمسلمون آثاراً خالدة صنعتها مصر بطابعها المتميز ، إذ إن لمصر كياناً خاصاً وذاتية فريدة تتميز بهما منذ خروج الملك مينا من الجنوب ليوحد بين وجهي القطر البحري والقبلي، منذ أكثر من خمسة آلاف عام." الحضارة الفرعونية .. رسول الحضارة المصرية كانت معارض الآثار الفرعونية القديمة في أوروبا بمثابة رسول دائم لحضارتنا القديمة، وعلي أثرها كانت تصدر الكتب عن مصر وعن آثارها، وتحفها التي تباع في كل مكان ويتهافت علي شرائها الجميع، وكما يقول عكاشة "لقد بات الأسلوب المصري الفرعوني القديم، مصدر إلهام لبيوت الأزياء ورسامي الكاريكاتير ومصممي رقصات الباليه والفنون الاستعراضية التي كان من أشهرها عرض مسرح الفولي پرجير وقتدال (يقصد معرض توت عنخ آمون عام 1967 في فرنسا)- كما أصبح مادة رئيسية للنقد الفني في الصحف والمجلات الفرنسية، وكان من أثر ذلك كله ارتفاع حصيلة إيرادات المعرض إلي نسب غير متوقعة من العملات الصعبة اللازمة لتمويل مشروع الإنقاذ". آثار النوبة وآثارها الإبداعية أبدع الأقدمون آثارنا القديمة، وقد تأثر العالم بها، وعن إنقاذ آثار النوبة كتبت المقالات والدراسات والكتب في جميع أنحاء العالم " وقد أنتجت إحدي شركات التليفزيون الفرنسية فيلماً خاصاً عن مشروع إنقاذ آثار النوبة، عرض في معظم محطات التليفزيون العالمية، وصورت منظمة اليونسكو فيلماً سينمائياً عن آثار النوبة، عرض بدور السينما في دول متعددة ، كما أصدرت مجموعة شرائح ملونة عن معابد النوبة، هذا إلي ما قامت به شركة فوكس للقرن العشرين من تصوير فيلم سينمائي عن المشروع، كذلك دفعت الحملة الدولية بعض دور النشر في أنحاء مختلفة من العالم إلي إصدار كتب لا حصر لها عن النوبة وحضارتها وآثارها". ناهيك عن الكتب والمنشورات والمطبوعات لوزارة الثقافة المصرية أثناء فترة تولي عكاشة وزارة الثقافة، وما قامت به شركات الطيران العالمية في الترويج لهذا المشروع، مما جعل السياح يقبلون علي البلاد والتعريف بحضارتنا وتراثنا . ويروي عكاشة كم الرسائل التي تلقاها تأييداً لمشروع إنقاذ آثار النوبة، فيقول" لقد تلقيت رسائل تشجيع ومؤازرة من أطفال لم يشبوا عن الطوق بعد، ومن أشخاص لا يجيدون القراءة ولا الكتابة ومن بلاد بعيدة في أوروبا وأمريكا، وكم مست مشاعري رسالة بسيطة من عامل بعث بها إلي من بلده النائي، وضمنها مبلغاً زهيداً يعتذر عن ضآلته، أو أن أتلقي كلمات التقدير والمساندة من علماء التاريخ، ومن فنانين كبار ناشئين يرون في آثارنا منبعاً غزيراً للإلهام، ومن قبيل ذلك طفلة فرنسية أرفقت برسالتها إليَّ عدداً من طوابع البريد تبرعاً منها، وأرفقتها بعبارة (كي لا تختفي معابد النوبة)، وأرسلت إليَّ جدة فرنسية بضعة فرنكات، وقالت لي في رسالتها، إنها حرمت نفسها من العشاء سبع ليالي لتتبرع بهذا المبلغ حتي لا يُحرم أحفادها من رؤية تلك الآثار الشامخة في مكانها لا يصيبها البلي". فأي آثار يكفرونها ويريدون تدميرها؟ وماذا سيكون موقف العالم من هذه الفئة البربرية التي تريد تدمير حضارة تعتز بها البشرية جمعاء ؟