ظهر هذا الكتاب بعنوان جديد يعكس عدة اعتبارات : أولاً : لغتنا العربية بما يحكي مشهدًا من الاعتزاز اللغوي العربي بلغة الأمة كلها، ويؤكد مقولة ابن خلدون الخالدة بأن عزة اللغة من عزة أهلها. الثاني : انشغال المؤلف بالمنهج وتجديده إيمانًا منه بأن العيب ليس في اللغة، ولكنه في أهلها حين يعجزون عن تطوير مناهجها وتحديث سبل تعليمها وتعلُّمها لدي الناشئة وشباب الأمة. وكأن العنوان يوحي برغبة المؤلف في إبراء ذمته العلمية وذمة اللجنة التي يترأسها في ضرورة النهوض - فعلاً - بالعربية من خلال برامج تطبيقية ورؤي علمية وعَمَلية قابلة للتنفيذ علي أرض الواقع العربي الذي درسه بهدوء وأناة، مما دفعه إلي تجاوز ضجيج تشخيص (الحالة اللغوية) إلي البحث العَمَلي عن الحلول المنهجية ممكنة التطبيق. وانتقالاً من عنوان الكتاب إلي منهجه تلقانا مقدمة غير نمطية حيث تحكي فصلاً من جدة الرؤية وجدة المنهج معًا، في حديث يشبه فن المقال حول منزلة العربية وتفرُّدها بين لغات الأرض، ودورها العلمي والإبداعي في تاريخ الأمة، إلي جانب كونها لغة الوعي والفكر والهوية والأصالة والانتماء. ولذا دعا المؤلف في مقدمته إلي ضرورة مراجعة تراثنا العربي من خلال المساءلة والمراجعة والحوار والإحياء والتجديد، مع التركيز علي عالمية العربية في عصر نهضة أهلها حين أنتجوا بها العلم، وصنعوا المعرفة، ورادوا العالم شرقًا وغربًا عبر معابر النهضة من صقلية إلي الغرب الأوربي مع الامتداد الشرقي إلي حدود الصين. كما يركز المؤلف في (المقدمة / المقال) علي دور العربية في كشف قدرتها علي تطوير نفسها، مع استمرار حاجتها إلي أهلها وسدنتها ممن يتحملون مسئولية الذود عنها في أعتي عصور العولمة الثقافية وطغيان لغات أخري علي حسابها، مع مراعاة الفروق الواجبة بين أهمية تعلُّم اللغة وبين مسألة التعليم بها، مما يتطلب مراجعات دقيقة وآمنة لتوطين التكنولوجيا ونقل المعرفة، بما يكشف المزيد من ثراء لغتنا التي مازالت دررها كامنة تنتظر إنتاج أبنائها، وعندئذ ستظل تعلن عن عطائها المتجدد من خلاله. ومن مقدمة الكتاب ينتقل المؤلف إلي ما أسماه (مداخل ضرورية) حيث قسمها إلي : مدخل (1) : بعنوان : هل العربية في أزمة ؟ حيث ينطلق فيه من ضرورة نقد الذات عبر ثقافة الاعتراف بتدهور الحالة اللغوية علي ألسن الأجيال الجديدة، مع البحث عن سبل الخروج من الأزمة بتجاوز مرحلة التعب الحضاري وحالة التبعية للآخر، أو الاكتفاء بالدهشة والانبهار أمام منجزاته أو التماهي معه في مسألة الاستيراد والاستهلاك دون إنتاج العلم. ومن ثم ينتهي إلي طرح اثني عشر سؤالاً استنكاريًا، وكأنما يقصد عتاب أبناء اللغة داعيًا إياهم إلي استدعاء عصور ازدهار ثقافتهم وعلومهم العربية يوم أن تكلم العلم بالعربية لأكثر من تسعة قرون من عمر الزمان. ويمتد استنفاره لوزراء التعليم العرب والجامعة العربية والمؤسسات المعنية بالشأن اللغوي لأن تراجع أدوارها في تحديث مناهج العربية عبر مشروعات عصرية، علي غرار، معمل اللغة العربية، وقناة لتعليم العربية بما يسمح للناشئة بتلقي مواد قرائية ونصوص منتقاة من الأدب العربي تسمو بالوجدان وتنمي منظومة القيم العليا، إلي جانب تهيئة المادة التراثية حول تاريخ العلم العربي، وبيان دور العلماء العرب في عصور النهضة بما يدعو للاستنفار واستنهاض الهمم لاستدعاء تاريخ الشوامخ من أساطين العربية. وينتهي هذا المدخل لدي المؤلف إلي مناشدة المؤسسات التعليمية والإعلامية والشبابية والتربوية للقيام بدورها الحقيقي في رصد (الحالة اللغوية) ومتابعة برامج الإصلاح والتحديث بالصورة العصرية الملائمة. والمدخل الثاني : حول مجامع اللغة العربية ومناهج التعليم بدءًا من دور المجامع في الرصد اللغوي وإعداد المعاجم المتخصصة والمعاجم التاريخية، إلي تفعيل دورها في معالجة صور الضعف والتلوث اللغوي ومعالجة حالة التردي الكتابي والشفاهي، إلي جانب تعزيز دور المجامع في مراجعة مناهج تعليم العربية في ضوء الوثائق القومية المعاصرة بما لها من أهداف قومية ووطنية وإنسانية ومعرفية ونفسية، مع دعوة المجامع العربية لأن تمارس صلاحياتها الدستورية تجاه المحافظة علي هيبة اللغة في الشارع العربي، والمؤسسات العربية في محرراتها اليومية، إلي جانب المؤسسات التربوية والإعلامية والتعليمية بالطبع. والمدخل الثالث : حول سلبيات التربوية والإعلامية والتعليمية. أهمية تعلّم اللغة الأجنبية وضرورة تعليمها لاستيعاب تكنولوجيا العصر وتنمية مهارات الأجيال بعيدًا عن استشعار الدونية أو احتقار لغتهم، وبمنأي عن استباحة ساحتها بشيوع العامية والرطانة علي حساب الفصحي المعاصرة، مع تصحيح المفاهيم حول قدرة العربية علي الوفاء بمصطلحات العلوم إذا ما استطاع أبناؤها أساسًا إنتاج تلك العلوم، وهذا هو التحدي الأساسي الذي تأمله الأمة في وجود منتج عربي، وصناعات عربية تحمل اسم بلادنا العربية لصدورها عن أبنائها من علمائها وخبرائها وباحثيها. والمدخل الرابع : حول العربية في التعليم العام والتعليم العالي حيث يشخص المؤلف واقعها المتدنيِّ من خلال المناهج، وأداء المعلمين، والقصور التكنولوجي في هندسة اللغة ومعاملها، إلي جانب متطلب مراجعة الوثائق القومية بما يكفل تنمية المهارات اللغوية للمثقف العربي من غير المتخصصين في اللغة العربية، إلي جانب متطلب الكلية ومتطلب الجامعة بما يضمن سلامة اللسان العربي، وتنمية مهارات الكتابة والتحدث والإلقاء لكل المثقفين العرب. المدخل الخامس : حول التعليم واللغة وهوية الأمة حيث يركز علي أهمية التعليم في تأصيل الهوية، وأهمية اللغة في ترسيخها باعتبارها وعاء الفكر والمواطنة والانتماء ومرتكز الحوار مع الآخر، ومصدر المعرفة ووسيلة التلاقي والتواصل، مما يجعل الاهتمام بالتعليم وباللغة جزءًا لا يتجزأ من أمن الأمة حتي لا تُهمش أو يُغيَّب تاريخها، أو تفقد ذاكرتها. ولذا يطالب المؤلف بالانطلاق من إعادة قراءة الواقع الوطني والقومي في ضوء احترام الخصوصيات الثقافية للشعوب، دون اختزال المساحات المشتركة التي تضمن لها مداخل الوحدة والتلاقي والتكامل، مع الدعوة إلي وجوب التفاعل مع المتغيِّر الثقافي في سياق الرؤي المستقبلية الدافعة للتقدم. ويخصص المؤلف المدخل السادس للإبانة عن حجم المشكلة في التعليم ومناهجه بالمدارس العربية والجامعات من خلال تبادل التجارب والخبرات والدراسات التي قامت عليها الوثائق القومية للخروج بوثيقة قومية موحدة تعكس المشترك العربي العام وتحترم الخاص الإقليمي، مع وجوب التنسيق بين جهود المؤسسات والجمعيات المهتمة بقضايا اللغة وصولاً إلي مشروعات قومية كبري تتجاوز حالة التشرذم وثقافة الجزر المتباعدة، مع تجاوز ثقافة الكلام إلي الفعل وثقافة التوصيات إلي المشروعات العملية، وثقافة المؤتمرات والندوات إلي ورش العمل والملتقيات العلمية محددة الأهداف والنتائج. وبعد هذه المداخل يقف المؤلف عند مشروع الوثائق القومية لمناهج اللغة العربية داعيًا إلي دراسة النحو الوظيفي، ودراسة الجملة العربية من خلال النص، مع التركيز علي إنجاز مشروع المعمل اللغوي، واستعراض الجهود العصرية في دراسة اللغات الوطنية، وتنمية حاسة التذوق الجمالي والإبداعي مع دعم ثقافة الابتكار والتجديد والجودة والتميُّز، ثم ينتهي إلي عرض مستويات الإصلاح في مراحل التعليم بدءًا من الناشئة فيما قبل التعليم الابتدائي، بما يوجب وضعها في الاعتبار في الوثائق ومسابقات تأليف الكتب، ثم الإفادة من كتب تيسير النحو والبلاغة ونشر ثقافة القراءة والاطلاع، مع ضبط كتب اللغة العربية وتطوير أساليب الاختبارات وتقويم الطلاب والتوجيه إلي مراجعة وضعها في التعليم التكنولوجي وشبكة المعلومات الدولية. وينتقل المؤلف إلي طلاب التعليم العالي ليناشد الأساتذة بضرورة توصيف المقررات الجامعية وفقًا لمتطلب الجودة علي مستوي الفلسفة، والأهداف، والمفردات، وسبل التدريس، والتقويم، مع التوسع في سوق العمل للمتخصصين في اللغة العربية، واعتمادها معيارًا من معايير التوظيف واختيار الكفاءات، إلي جانب الدعوة إلي دراسة العربية مقررًا قوميًا لطلاب التخصصات العلمية المختلفة، مع إعادة النظر في اختبار قدرات الطلاب بما يعكس استعداد الطالب لدراسة تخصص بعينه في مسارات التعليم العالي. وتنتهي المداخل النظرية لينتقل المؤلف بعدها إلي تصحيح بعض المفاهيم من خلال قراءة نقدية في كتاب ( لتحيا العربية .. يسقط سيبويه ) حيث يرد علي الدليل بالدليل، والحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، فهي مجموعة ردود علمية منهجية دقيقة تصحح الكثير من الشطط الذي ظهر في الهجوم علي العربية، ومحاولة النيل منها دون مستند نصي أو دليل تاريخي دقيق. ويستكمل المؤلف جهوده في تصحيح بعض الأخطاء الشائعة في المكاتبات الرسمية، مما دفعه إلي استعراض الصور المبسطة لقواعد النحو العربي بدءًا من الجملة العربية بين الإعراب والبناء، إلي بعض حالات الإعراب ونواسخ الجملة الاسمية، وإنابة بعض علامات الإعراب حين تقدر بعض حركاته، إلي البناء للمجهول، إلي اللزوم والتعدي، وصور المنع من الصرف، وصيغ تمييز العدد، والكشف في المعاجم والإضافة والمشتقات، ثم التركيز في النهاية علي رصد بعض الأخطاء الشائعة وسبل تصحيحها من باب الإهداء لمن يكتبون المحررات الرسمية في مختلف مؤسسات الدولة. وخلاصة القول أن الكتاب جمع بين النظري والتطبيقي من قبيل حرص المؤلف علي عرض رؤاه وأفكاره في خدمة الجامعات العربية، والمدارس العربية إلي جانب مناهج تعليم العربية للناطقين بغيرها؛ وخاصة أن الكتاب جاء حصادًا لجهود كثيرة عرضها المؤلف في سياق مشاركاته في مؤتمرات دولية وعربية ومحلية، مع عرض بعضها في مؤسسات رسمية وجمعيات أهلية، إلي جانب الجهود المكثفة للجنة النهوض باللغة العربية التي شاركت بدورها معه في كثير من ملتقيات الفكر والحوار حول قضايا العربية بكل أبعادها، وهي تتوج الآن بهذا التعاون البناء بين اللجنة والمجلس الأعلي للثقافة أملاً في المزيد من تنسيق الجهود الهادفة إلي صناعة طوق النجاة للعربية، قبل أن تتأثر منزلتها أو تقل مكانتها علي ألسُن الناشئة أو كتابة شباب الأمة. ويظل ما ورد في الكتاب قابلاً لمزيد من الحوار والمناقشة والنقد والتحليل أملاً في مزيد من المبادرات الهادفة إلي مثل هذا الارتقاء بلغتنا، بقدر ما تستحقه منا، وما تنتظره من علمائها وخبرائها وباحثيها إلي حيث يكون التقدم والارتقاء حين تزدهر العربية لغةً للإبداع والبحث العلمي علي السواء.