لاشك أن هناك اقبالا واسعا من الشعب المصري، بمختلف طبقاته علي متابعة المسلسلات التركية بشغف واهتمام.. كمسلسل »فاطمة« مثلا أو »عاصي«.. أو »العشق الممنوع«.. أو »بائعة الورد« أو »سيدة المزرعة« أو »الأوراق المتساقطة«.. أو »حريم السلطان«..... إلخ وقد استلفتتني هذه الظاهرة لمتابعة بعض ما يعرض من هذه المسلسلات الآن لمحاولة الوقوف علي سر هذا الاهتمام من الشعب المصري بهذه الأعمال ، وعن المختلف في هذه الدرامات التركية.. عن الأعمال الدرامية العربية بشكل عام، والمصرية بشكل خاص، باعتبار أن المصرية منها.. هي الأقدم، والأكثر احترافية، والأطول تاريخا. وبرغم هذا، يبدو أن هذه المسلسلات التركية، قد سحبت البساط من تحت أقدام المسلسلات المصرية تماما!.. فما هو السبب يا تري (إذا كان هذا صحيحا)؟ وما سنقدمه الآن للاجابة عن هذا السؤال من اجتهادات وتصورات ورؤي، لا يخرج عن كونه مجرد اجتهادات في النظر والتفسير ليس إلا. وإذا بدأنا بالموضوعات، فتكاد تكون الموضوعات - تقريبا - المصرية/ العربية، التي تم لوكها واستنساخها وتقليبها علي شتي الوجوه.. منذ بداية تاريخ الدراما المصرية التليفزيونية، منذ بواكير الستينيات، مع بداية التليفزيون المصري وحتي الآن، بل لعل الكثير من المسلسلات المصرية التي تناولت بعض هذه الموضوعات، كانت أرقي في طرحها، وأكثر أصالة في تناولاتها، وأصدق في بناء الأحداث وتطورها الدرامي، وفي شتي جوانب المعالجات الفنية والتقنية والتمثيلية والإخراجية من بعض هذه المسلسلات التركية الآن! إذن، ما الذي حدث بالضبط؟! .. وهنا.. يجب أن ننوه.. أن هذه الإشارة إلي المسلسلات المصرية الجيدة والتي تفوق بعض الأعمال التركية الحالية، تشير - بالتأكيد - إلي زمن سابق، وإلي انجازات سالفة، وليس الآن! وهذا الحكم التاريخي العام (الآن) أيضا، له استثناءات مصرية معاصرة، لاشك في ذلك، فهناك أعمال مصرية ممتازة، ولكنها قليلة، وتعد علي أصابع اليد الواحدة، ولا تحدث بانتظام، وبإيقاع متقرب ومتواتر، بل تحدث علي مسافات زمنية متطاولة، وفترات متباعدة، وبمنطق مباغت أقرب إلي المفاجأة، من ثم يخلف في كل مرة شعورا بالدهشة والتعجب، لأنه يخرج عن السياق المتواضع عادة للدراما المصرية في مجموع حركتها الكلية في السنوات الأخيرة المنصرمة، وهو ما أضاف إلي رصيد المسلسلات التركية المزيد من التميز والأفضلية علي المصرية. ...... بمعني آخر، أن نقاط القوة التي تحققها المسلسلات التركية الآن.. لا تعود إلي عناصر بنيوية جوهرية ترجح كفة الأفضلية لهذه المسلسلات، بقدر ما يعود هذا الفارق إلي عناصر ضعف، تبدو بنيوية أيضا في المسلسلات المصرية الحالية! أظن أن من أهم عناصر القوة في المسلسلات التركية، قبل حديثنا عن الحبكة والموضوع والتمثيل والاخراج، أن هذه المسلسلات تشير إلي سمات عامة (وهامة) في المجتمع التركي المعاصر.. نفتقدها تماما في أعمالنا الدرامية، ربما لأننا نفتقدها في مجتمعنا نفسه! ... مثلا.. قيمة النظافة.. في الشوارع، والأحياء - مهما كانت فقيرة ومتواضعة - والبيوت، والمساكن (لمختلف الطبقات).. قيمة النظافة في المجتمع التركي، كما تبدو في هذه المسلسلات، قيمة أساسية مسيطرة، وطبعا، نحن كمصريين، الذين يستلفت أنظارنا ذلك، دون أن يبدو أن هذا البعد يعني القائمين بأمر المسلسل التركي من قريب أو بعيد، وإنما نحن المصريين ننشد إلي هذا الجانب بقدر افتقارنا لهذه القيمة في حياتنا المصرية العادية واليومية!.. هذا جانب. كما يلفتنا أيضا، في هذه المسلسلات التركية، النظام - بكل المعاني - واستقراره، كقيمة جوهرية في حياة هؤلاء الناس في الشارع والبيت والمؤسسة، فالبيوت حرمة وتقاليد بين ساكني البيت من الأجيال المختلفة.. مثلا.. احترام الصغير للكبير، واعتبار الكبير للصغير وتضحيات الأم والأب للأبناء، وتوقير الأبناء للوالدين، وتعاون الجميع في دفع عجلة الحياة داخل الأسرة، كبارا وصغارا، وقيام كل بدوره في هذه الحياة المشتركة.. ونظافة البيوت ونظامها وترتيبها علي فقر أصحابها أو غناهم .. فالبيوت، فقيرة أو غنية، جميلة، ومرتبة، تلفت النظر بما فيها من ذوق وجمال وهدوء وعناية، وإذا انتقلت إلي المؤسسات.. قسم البوليس - مثلا - المستشفي .. الشركات الخاصة.. ودواوين الحكومة.... الخ، تظل هذه القيم المشار إليها تلفتك باستمرار كمتفرج.. النظافة، والترتيب، والكفاءة، والجدارة، والنظام، والعناية، لا تشعر مثلا.. بقذارة المؤسسات الحكومية، أو بإهمال الموظفين، أو بالبيروقراطية أو الروتين المعطل لمصالح الناس، أو تزويغ الموظفين من الشغل، أو بتلقيهم للرشاوي لأداء الخدمات للمواطنين، بل علي العكس تماما، في المسلسلات التركية.. الجميع.. في قسم الشرطة، في المصلحة الحكومية، في المستشفي.. يؤدي عمله علي الوجه الأكمل، لأنه يحترم عمله جدا، ويحترم واجبه في القيام بهذا العمل، ويحترم دوره وكيانه وانسانيته، والأهم يحترم نفسه.. فلا مجال - علي الاطلاق - لتحسين الخدمة مقابل رشوة، أو للتجاوز عن القانون مقابل هدية.. أو مكرمة.... الخ، كما تشعر بإتقان الجميع لأعمالهم، زوجتي مثلا منبهرة، بروعة وعظمة ولمعان خشب الأرضيات في البيوت التركية، وتتحدي أن نجد لدينا مثل هذا الاتقان، هنا عند العامل أو الفني المصري، لدرجة أنها أصبحت علي يقين شبه تام، أن هذا الخشب لابد أن يكون من نوع خاص لا يوجد عندنا، فغير معقول جماله وصقله ولمعانه! والمسألة - في رأيي - هي في اتقان الصانع والعامل والنجار والمهني التركي لعمله اتقانا تاما ليس إلا.. وقد كان لدينا منذ قديم - من أيام سليم الأول - السلطان العثماني الذي هزم قنصوة الغوري حاكم مصر المملوكي في موقعة مرج دابق الشهيرة.. رصيد ضخم من العمال المهرة في شتي المهن والفنون.. استولي عليهم سليم الأول بعد انتصاره، وأرسلهم إلي الاستانة ليكونوا الأساس المكين لما وصلت إليه الآن الصناعات الفنية والمهن الحرفية من مستويات رفيعة.. في نجارة وحدادة وزخرفة..... الخ كما تلوح لنا هذه المعالم والنتائج الآن في البيوت والمصالح والشركات والمراكز الحكومية.. وتبدو في مختلف التفاصيل.. في الحوائط والأبواب والنوافذ والمداخل والديكورات الداخلية ..... الخ..... الخ. وفي هذه النقطة، لعل من أهم الملاحظات التي تشير إليها هذه المسلسلات التركية.. في البنية الاجتماعية العميقة، أنه لم يعد المجتمع ينظر إلي أصحاب المهن اليدوية والحرفية.. من نجار وحداد وسباك وكهربائي وصاحب مطعم وبواب.... الخ، نظرة دونية، تقلل من شأنه الإنساني، ووضعه الاجتماعي، بل المجتمع ينظر إلي أصحاب هذه المهن .. نظرة ندية، باعتبارهم أصحاب أعمال ضرورية ولا غني عنها، ولا تقل في أهميتها عن المدرس والمهندس والمحامي والطبيب.. كل ميسر لما خلق له، ولما يجيده دون نظرات طبقية، أو اعتبارات أفضلية، أو استعلاءات ارستقراطية، خصوصا، وأن النظر إلي بيوت أصحاب هذه المهن من الداخل، لا يشير إلي فوارق فادحة بينهم وبين أصحاب المهن الرفيعة، فكل البيوت مرتبة ومنسقة وجميلة ولا تخلو من عناية ونظافة وجمال، كل المسألة أن بيوت الطبقة الراقية مثلا.. قد تكون أوسع وأكبر وأكثر رحابة، ومتعددة الطوابق (فيللات) ومؤثثة بأثاث فاخر جدا.. نعم.. فالفوارق الاجتماعية والطبقية موجودة ولكنها ليست بالحدة التي توجد عليها عندنا بين أغنياء وفقراء.. وأصحاب مهن رفيعة (عقلية في الغالب).. وأصحاب مهن متواضعة (عضلية ويدوية في الغالب).. ولذلك، فالعلاقات العاطفية والغرامية والزواجية مفتوحة بين أفراد هذه الطبقا جميعا، فالمرء - لحد كبير - في هذا المجتمع المسلم الناهض.. بمواهبه وشخصيته وامكاناته، ليس - فقط - بموقعه الاجتماعي، وموقعه المرتفع في السلم الطبقي، وأصوله العائلية، ووزنه المادي!