هناك دائماً، وعلي مرّ العصور، رجال يحملون ضمائر حية مستيقظة، عصيون علي التنميط والقولبة.. هؤلاء هم »الخروجيون« الذين يدفعون بمناكبهم عجلة التقدم، ويحملون شعلة التنوير والتغيير.. ربما يدفعون ثمن »خروجيتهم« وكسرهم لمألوف ما اعتاده الناس، وما استناموا إليه، نفياً من قلب المؤسسة إلي هامشها، ولكنهم يكسبون أنفسهم، ولا يخسرون إلاّ قيودهم! وكتاب »سر المعبد.. الأسرار الخفية لجماعة الإخوان المسلمين« (نهضة مصر/ نوفمبر 2012) وثيقة مهمة لواحد من أولئك الخروجيين هو الأستاذ »ثروت الخِرباوي« الذي ثار علي الروح الجمعيّ الذي يهيمن علي الجماعة فكراً أو ممارسة.. وانتصر لحرية الكيان الفرديّ واستقلاله، وهو الذي ما جاءت الرسالات إلا لحمايته من الذوبان في الآخر أيَّاً من كان! »سر المعبد« تشريح لعقل الجماعة، وتحليل لخطابها السياسي والأخلاقي والاجتماعي عبر شهادة حية.. صارخة.. متألمة، يروي فيها »الخرباوي« بحس مأساوي وقائع تجربته من قلب جماعة الإخوان.. كيف بدأت الرحلة بانضمامه إليها، بحثاً عن كنز مفقود، ومحاولة لتحقيق أسطورة خاصة.. وفي سبيل ذلك نزف »ثروت« في الجماعة نفسه، وسكب لها نفسه، وفيها أذاب نفسه، وبعد مواجهة أسرارها الرهيبة، انشق عليها، واستنقذ منها- أخيراً- روحه ونفسه! الكتاب يجمع- علي صعيد- بين التوثيق والتشويق.. التوثيق لوقائع وأحداث حقيقية، وشخوص حقيقيين، ومع ذلك- أو ربما بسبب ذلك- تكاد تحبس أنفاسك وأنت تقفز معه من فصل إلي فصل، ومن سرّ إلي سر، من خلال سارد آثر في سرده ضمير المتكلم، بلغة تحمل حميمية البوح الإنساني، الذي يرفّ حتي يصل، في بعض الأحيان، إلي حال من أحوال الوجد الصوفي. تضعك المقتبسات التي صدّر بها »ثروت الخِرْباوي« كتابه، مباشرة في مواجهة نموذج بشريّ مغرور متكبر، يدّعي احتكار الحقيقة وحده.. وإذن فلابد من مواجهته بحقيقته، علّه يفيق ويخفض من سقف غروره: »أنت، أيها الإنسان مثل قبض الريح«. خفف الوطء ما أظن أديم ال .. أرض إلا من هذه الأجساد »إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً«.. »هل أتي علي الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا« صدق الله العظيم (ص : 5-7). وربما يبدو غنياً عن التنبيه أن الإنسان الذي تخاطبه هذه المقتبسات، وإن ورد في لفظ مطلق، فإنه مقيد الدلالة، إن المعنيّ به هو »إنسان الجماعة« الذي تدور حوله وقائع الكتاب الكاشفة عن المفارقة الشاسعة بين سمو الأفكار والشعارات المجردة التي يرفعها، وبؤس الممارسة العملية لها علي صعيد الواقع العمليّ الحيّ المعيش، هنا يكشف »الخِرباوي« بعض الأسرار التي ينطوي عليها صندوق الجماعة. عسكرةٌ.. وانتهازيَّة! تبدو الفلسفة العسكرية، في مجالها الطبيعي، بما تقوم عليه من »هيراركية« توجب الطاعة والانضباط والخشونة، تبدو أمراً مفهوماً ومقبولاً ومقدراً.. ولكن لماذا تحاول جماعة مدنية فرض هذا الطابع العسكري علي أعضائها، الذين ينبغي أن تسود بينهم روح التفاهم والحوار والإقناع العقليّ؟! وكيف إذا كانت هذه الجماعة دينية النشأة تريد أن تضيف إلي الصرامة العسكرية، قداسة دينية؟! ماذا ينتج وضع كهذا؟! لعل هذا ما كان يدور في ذهن صاحب »سرّ المعبد« وهو يربط في بداية كتابه بين جنود الأمن المركزي وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين: »قوات الأمن المركزي، وعساكر الشرطة مصريون مثلنا، طيبون مثلنا، ومطيعون مثلنا، كل واحد منهم بين يدي قائده كالميت بين يدي من يغسله، يقلبه كيف يشاء، وجنود الإسلام الذين يبحثون عن دولة الخلافة مصريون مثلنا، طيبون مثلنا، مطيعون مثلنا، كل واحد منهم بين يدي مرشده كالميت بين يدي من يغسله يقلبه كيف يشاء« (ص: 13-14). الجماعة.. والماسونية تستبد الحيرة، الممزوجة بالدهشة والاستنكار، بالأستاذ »ثروت الخِرباوي« وبقارئه، وهو يتساءل: »كيف يلتقي الدين مع اللادين؟ كيف يلتقي الإسلام الذي تعبر عنه جماعة ربانية بالصهيونية التي تحارب الإسلام وتحارب جماعة الإخوان؟« (ص:28) وحُقّ له، ولنا، أن يتحير.. فالقضية جدّ خطيرة ولا يكاد يستوعبها العقل: الجماعة ماسونية؟! أو بصيغة أخفّ: الجماعة علي صلة، أو هي مخترقة علي رغمها من التنظيم الماسوني العالميّ؟! لا يدّعي »الخِرْباوي«- بالطبع- امتلاكه الدليل الدامغ القاطع علي صحة تلك الدعوي.. ولكنه يستقرئ الوقائع.. ويسائل المعلومات والشذرات المنثورة هنا وهناك.. محاولاً استنتاج الأدلة منها.. هناك مثلاً تلك التشابهات اللافتة: »وعند بحثي في الماسونية استلفت نظري أن التنظيم الماسوني يشبه من حيث البناء التنظيمي جماعة الإخوان، حتي درجات الانتماء للجماعة وجدتها واحدة في التنظيمين«!! قرأت عن درجات أعضاء الماسون، فقد كانوا: »أخ مبتدئ، وأخ زميل من أهل الصنعة، وأخ خبير« فقد كان في الإخوان مثل هذه الدرجات: »أخ مبتدئ أو منتسب، أخ، وأخ عامل، أخ مجاهد«، وأعلي درجات الماسونية هي »الأستاذية« وحسن البنا نفسه استخدم هذه الكلمة للدلالة علي أعلي درجة يريدها لتنظيم الإخوان هي درجة »أستاذية العالم« ولم تكن هذه الكلمة مستخدمة قبل ذلك في هذا السياق.. وثمة تشابه كذلك في »الشعار« حيث »هناك صلة قوية من ناحية التشكيل الهندسي بين شعار الإخوان وشعار الماسون، شعار الماسون يطلق عليه من ناحية التشكيل الهندسي »الخاموسي« وشعار الإخوان ينتمي أيضاً إلي »الخاموس« خمس نقاط تتصل ببعض.. السيفان المتقاطعان، والمصحف وسط السيفين حيث يشكل المركز!! (ص ص:26، 226-227). ولم يقف الأمر عند مجرد التشابهات، ولكن هناك ما قد يرقي إلي مستوي الدليل الموثق. »وعندما كنت طالباً في السنة النهائية بكلية الحقوق وقع تحت يدي طبعة قديمة لأحد كتب الشيخ محمد الغزالي، وإذ جرت عيني علي سطور الكتاب وجدته يتحدث عن أن المرشد الثاني حسن الهضيبي كان ماسونياً!«.. ووقتها وقعت تحت يدي مقالات كان الأستاذ سيد قطب قد كتبها في جريدة »التاج المصري« وأثناء بحثي عرفت أن هذه الجريدة كانت لسان حال المحفل الماسوني المصري!! و»كانت لا تسمح لأحد أن يكتب فيها من خارج جمعية الماسون«.. و»مصطفي السباعي مراقب الإخوان المسلمين في سوريا كان ماسونياً هو الآخر« (ص : 26، 27، 28). وبالإضافة لما سبق هناك الطقوس الغريبة التي تصاحب أخذ البيعة سواء في الجماعة أو الماسونية حيث الغرفة المظلمة والقسم علي مسدس وكتاب مقدس وملابس خاصة ( ص: 223، 226) وهو ما سبق لنا أن اطلعنا عليه وعرفناه من كتاب الدكتور عبدالعزيز كامل: »في نهر الحياة« حين اعترض علي هذه الطقوس الغريبة ووصفها بالماسونية. شيفونية.. وكراهية وقف »ثروت الخِرْباوي«، طويلاً، مشخصاً للأدواء التي أصابت قلب »الجماعة« ومنه انتقلت إلي »الأعضاء«.. بيسر، لأن مجتمع الجماعة تسوده ثقافة الكُتل، ومن هذه الآفات التي واجهها »آفة الشيفونية« والشوفيني هو الذي يري أن قوميته أو جماعته وتنظيمه وحزبه هي »النقاء« المطلق والحق الذي لاشك فيه والجمال السرمديّ، ولأنهم يرون هذا فإنهم يتعصبون لجماعتهم أو قوميتهم تعصباً مقيتاً غبياً لا عقل فيه، ولأن التعصب هو الآخر آفة، فقد أصبح من باب اللزوم أن تتحول »الشيفونية« من مشاعر حب إلي مشاعر كراهية، قطعاً مشاعر كراهية، فلأنك تري الحق معك وحدك، فغيرك هو الباطل.. الشوفيني باختصار هو من ينظر للعالم من خلال مرآة فلا يري إلا نفسه وما عداه باطل.. كل العالم باطل إلا أنت يا إخوان« (ص: 72). جذور الاستبداد فيما يشبه التشريح النفسي، يسلّط »ثروت الخرباوي« الضوء الغامر علي نفسية إنسان جماعة الإخوان، فيخبرنا أنها »نفسية من يعيش عمره أسيراً »تحت التوقيف« في جماعة الإخوان، أو بالأحري في جماعة سرية لا تعرف كيف تمارس الاختلاف في الرأي بل وتعتبره ذنباً كبيراً، الجماعة السرية هي جماعة »إلغاء العقول« (ص:59). »وإذا كان الاختلاف ذنباً، فإن النقد، من باب أولي، محظور، خاصة لمن يتسنمون ذروة التراتب الهرمي السلطويّ لجماعة الإخوان، فلم يحدث في تاريخ الجماعة أن جلس أحد الإخوان مع إخوانه في جلسة إخوانية ينتقد فكر المرشد« (ص:158) فماذا تفرز هذه الثقافة المهيمنة علي البنية الفكرية للجماعة سوي الاستبداد وإعادة إنتاج الاستبداد، فالمقهور يعيد إنتاج القهر، تلك قاعدة سيكولوجية معروفة.. »لذلك فإن أي جماعة ظلت عمرها تحت ركام الاستبداد والقهر لابد أن تتحول إلي جماعة مستبدة إذا ما حكمت، ستتحول دون أن تشعر إلي نسخة أخري من المستبد الذي قهرها، كل التاريخ كان كذلك« (ص: 188) وها قد وصلت الجماعة إلي الحكم فعلاً، فكيف تبدو الصورة؟ لعل الواقع الذي تحياه البلاد في هذه اللحظات الراهنة أبلغ من كل وصف! لقد حقق »ثروت الخِرْباوي« أسطورته الخاصة.. وعثر علي كنزه المفقود: »حريته«!