لا شك أن بهجوري من أبرز الفنانين المصريين والعرب المعاصرين وهو يعيش في منفاه الاختياري منذ أكثر من أربعة عقود مستقرا في ضاحية قريبة من باريس حيث أقام هناك محترفه الذي عمل فيه، حيث أنتج أعماله التي رأيت منها القليل وأبهرتني بالفعل. عندما رأيته لأول مرّة وهو يسرع خطاه ليلحق بمصعد مبني روز اليوسف بشارع القصر العيني، وإن كان الشعر واللحية علي سواد، أيام كان الشارع يتميز بنظافة تميزه، وبيوت علي الطرز الأوروبي، حيث مجلس الوزراء والمجمع العلمي ودار الحكمة والمستشفي الفرنساوي ببداية الشارع، وفي المنتصف مبني روز اليوسف بأدواره الخمسة، ذلك الذي شهد معارضة قوية لنظام الملك والحكومة قبل الثورة، تزعمتها صاحبة المجلة السيدة فاطمة اليوسف وابنها الصحفي الناشئ وقتها إحسان عبد القدوس. مقدمة طويلة أعلم ذلك، لكن لابد منها حتي نعرف كيف بدأ هذا العدد الهائل من فناني الكاريكاتير، فقد كان لروز اليوسف مدرسة لا شك، منها من النجباء كثيرين إلي أن جاءت مجلة صباح الخير بعدها، حيث العدد الوافر من رسامي الكاريكاتير، وكان چورچ أحدهم، خط لنفسه أسلوباً تميز به، أجاد هو وحجازي وإيهاب ورجائي، لذا كنت حريصا علي اقتناء المجلة لما فيها من مواضيع وقصص ورسوم تفردت بهما علي أغلب المطبوعات وقتها، الظهور الثاني لبهجوري في حياتي عندما شاركنا برسومه بمجلة ماجد، وكانت مراسلاته تأتيني لأنه كان يعتقد إنني رئيس لتحرير المجلة، ظل يراسلنا وننشر له لمدة قصيرة، في نفس الوقت تقريباً كان قد ترك مصر بفعل السياسة، واتخذ من فرنساً سكناً له، وكذلك عدد من الكتّاب والرسامين، وكان أن ظهرت رسوم كاريكاتير له ولصلاح الليثي وغيرهما بمجلة 23 يوليو، تلك التي اتخذوا لندن مستقراً لها، وكان يرأس تحريرها محمود محفوظ ومحمود السعدني، اللذان استخدما أغلب من عملوا بمجلة صباح الخير، للتهكم علي نظام السادات، بتمويل من ليبيا غالباً، فكان أن صدرت المجلة وكأنها صورة طبق الأصل لمجلة صباح الخير بزمانها الجميل، إلي أن ظهر بعد عدة عقود كفنان تشكيلي وبعدما غادر باريس التي أحبها، لكن بصفة مؤقتة، وقد أصبح له جمهور عريض وشهرة. مصوّر من الطراز الأول، أبهرني بالفعل عندما رأيت أعماله بأحد الجاليرهات بالزمالك، قيل لي وقتها إنها أعمال كان قد اشتغل عليها أثناء إقامته بباريس، تنوعت محتويات المعرض، فقد استعرض المعرض المسيرة المهنية الطويلة والمميزة لبهجوري في عالم الإبداع الفني، إذ يسلط الضوء علي الأعمال الفنية والمنحوتات والرسم والطباعة، بالإضافة إلي دفتر الفنان ونسخ أصلية ومحدودة لقطع فنية كانت تعرض لأول مرة، التي أنتجها الفنان بداية الثمانينات وحتي نهاية العقد بالقرن الفائت، واختفت بعدها! ففي تجربة انخلاع عن المكان وحالة ابتعاد عن القضايا السياسية، انصب اهتمامه علي مسائل الأشكال الجمالية فأخذ يكتشف الشكل واللون بنمط ثلاثي الأبعاد، وعمق دراسته للمخطوطات والطباعة الفنية بغية تطوير العلاقة بين الصورة والنص بشخوصه التي يعتبرها سمة مميزة برسمه للحارة المصرية، فلم تفارقه روح الهوية التي أخذها من بعض من جيل الرواد، حيث لم يكن الوحيد أيضًا في محاولة بناء تفرده عن الآخرين، ولأنه ابن حضارة نشأت بمصر جعلته كأنما حارس علي صرح ضخم وعظيم تركه أجداده ممن جاورهم سنوات طوالا (البهجوري من قرية بهجورة في صعيد مصر). عرفت چورچ عن كثب منذ سنوات، فكلما زار مصر التقينا، الرجل رغم سنه المتقدمة 86 عاماً كما أسرّ لي مازال به وهج وألق، ذهنه حاضر، سألته إن كان غاضباً لأن ذهبت جائزة النيل للفنون لفنان آخر، لم يخف شعوره بالغبن والغضب، والإخفاق لتجاهل الدولة له وهو المستحق، وقال لكم تمنيت أن أحيا وأموت بباريس، رغم عدم إحرازه لنجاح مأمول هناك .