د. محمد أبو الفضل بدران »العارفون يحترقون بالحب في الدنيا» هكذا صاح الشبلي صديق الحلاج في إحدي شطحاته، وعندما رأي الشبلي رجلا يبكي موت حبيبته عاتبه قائلا: يا مسكين، لماذا تحب من يموت؟ أي يوجهه إلي حب وجه الله تعالي كما صرح: وجهك المأمول حجَّتنا يوم يأتي الناس بالحجج وإذا كان هذا حال الشبلي صديق الحلاج فكيف كان حال الحلاج؟ مدارج الحلاج ها هو الطفل الحسين بن منصور المولود في قرية الطور (244ه= 858م) شمال شرق مدينة البيضاء بمقاطعة فارس بإيران يلهو في شوارع هذه القرية التي تقع علي بعد ثلاثين كيلومترا من مدينة شيراز، ولم ترق الحياة للحلاج بهذه القرية إذ سرعان أن قُتل والده علي يد عمرو بن الليث الصغار فانتقلت الأسرة إلي واسط ثم تُسْتَر وهناك يلتقي أحد كبار الصوفية في القرن الثالث الهجري سهل بن عبدالله التّستري ويبدو أنه نصحه بالتوجه إلي بغداد ليأخذ عن شيخ الطائفة الجنيد البغدادي (ت 298ه=910م) ولكن الأجواء تنقلب بين الأستاذ الجنيد وتلميذه الحلاج فيفترقان لأن الحلاج كان يزهو بنفسه وبآرائه، "ويُحكي أنه عندما طرق باب الجنيد، سأل الشيخ: من هناك؟ فقال: أنا الحق" ولذلك تنبأ له الجنيد بنهاية سيئة؛ ويقصد الحلاج مكة حاجا ويصاحبه في رحلته الثانية للحج أربعمائة مريد وربما كان عدد المريدين مزعجا للخليفة المقتدر بالله العباسي ولوزرائه وسدنة الحكم في عصره ويعود للأهواز واعظا ويتنقل بين خراسان وفارس والعراق ويقيم في بغداد ثم الهند ويوضح الحلاج لأهله سبب رحلته للهند دعوة الوثنيين لعبادة الله الواحد، وقد كان لرحلته هذه آثار كبيرة علي شعراء الهند ونظرتهم للتصوف وجمال أدبياته ويزداد علما بالتصوف الهندي، ويتجه نحوالصين ويعود أخيرا إلي المقام الأخير ببغداد في عام 290ه=903م وقد ألَّف الحلاج تسعة وأربعين كتابا والعجيب أنّ له كتابين في السياسة منهما "الساسة والخلفاء والأمراء" ولم يتبق من كتبه سوي كتابه "الطواسين" وبعض قصائد منسوبة إليه. اضطراب الدول والأفكار قَوِي شأن القرامطة الجناح العسكري للحركة الفاطمية الاسماعيلية في عهد الدولة العباسية واضطربت البلاد ويُلقي القبض علي الحلاج سنة (301ه=913م) بتهمة القرمطة وعندما كان الحلاج في السجن سأله أحد الدراويش قائلا: "ما الحب؟" فقال: "ستراه اليوم وستراه غدا وستراه بعد غد" وفي اليوم نفسه قتلوه وفي اليوم التالي أحرقوه، وفي اليوم الثالث نثروا رماده في الرياح علي نهر دجلة. ومن العجب أن أبا العلاء المعري بعد مائة عام من مقتل الحلاج يقول إن عددا من الناس يأتون نهر دجلة انتظارا لعودته! أنّمّاري شيمل والحلاج في كتاب المستشرقة الألمانية أنماري شيمل عن تاريخ التصوف (ترجمة محمد اسماعيل ورضا حامد) وكتابها "الحلاج شهيد الحب الإلهي" توقفت حول الأجواء السياسية المضطربة في عصره وكيف كان الحلاج ضحية البوح بأسرار الحب وأشادت بما كتبه ماسينيون عن الحلاج وكيف قدمه للغرب ومن ثم للعالم وقد كرّس ماسينيون كل حياته في بحث الحلاج وعالمه الروحي وينشر سيرة الصوفي الشهيد بعد مقتل الحلاج بألف عام. وتنقل أنماري شيمل الآراء المتناقضة حوله فمنهم من يراه محتالا كابن النديم الذي يقول عنه في كتابه الفهرست: "كان الحسين بن منصور الحلاج رجلاً محتالاً مشعوذًا، يتعاطي مذاهب الصوفية، وينتحل ألفاظهم ويدعي كل علم، وكان صفرا من ذلك كله وكان يعرف شيئا من صناعة الكيمياء، وكان جاهلاً مقداماً متدهورا جسورا علي السلاطين مرتكبا للعظائم، يروب أقلاب الدول..". وقد تزوج الحلاج من ابنة أحد الصوفيين وهي امرأته الوحيدة التي أنجب منها ابنهما حمد. كرامات الحلاج ربما جرّت الكرامات علي الحلاج الكثير من المشكلات، ويبدو أن زهوه بنفسه وجرأته في قول الحق وكثرة أتباعه وشطط آرائه جرّ عليه من الاتهامات الكثير فرُمِي بالكفر والزندقة. ويري أبو طريف الشَّيْبي في مقدمة ديوان الحلاج أنه حاول أن يدعو إلي مذهب سياسي وروحي يقوم علي فقه معين ورياضات صوفية تتميز كلها بالشدة والإصرار علي الوصول إلي الهدف مستهينا بالعقبات ولو بلغت الموت نفسه. ومن كراماته التي تحكي عنه أنه في مكة أحضر حلوي من اليمن في يوم واحد؛ وحاول أن يجد له أنصارا بين الفقراء والطوائف. محكمة الحلاج شُكلت محكمة الحلاج من قضاة بعض المذاهب ويبدو أنه كان مستهينا بهم وأنه آثر الموت ليحكم عليه قاضي القضاة أبو عمر الحمادي وأبو جعفر البهلول وأبو الحسين الأشناني بالإعدام فيضرب ألف جلدة ثم قطعت أطرافه وفصلت رقبته وأحرقت جثته وألقوا برمادها في نهر دجلة ليتحول الحلاج إلي رمز لمحاربة الظلم وجرأة الرأي وشهيد الحب الإلهي الذي كان يردد: تعوّدت مسّ الضرّ حتي ألفتُهُ وأسلمني حُسن العزاء إلي الضرّ وكان يردد وهم يقتلونه: اقتلوني يا ثقاتي/ إن في قتلي حياتي وقد شكل القدر حيزا كبيرا في فكره ويُنسب له قوله: ما حيلة العبد والأقدار جارية.. عليه في كل حَالٍ، أيها الرائي؟ ألقاه في أليم مكتوفا وقال له.. إياك إياك أن تبتل بالماء! وقيل إنه ظلّ يرقص بينما يساق للمحكمة وهو مكبّل في أغلاله وأخذ يترنم برباعياته الشعرية. ولم يتناقض الناس حول شخص كما كان حالهم تجاه الحلاج فمنهم من يراه وليا ومنهم من رآه زنديقا. طواسين الحلاج من الكتب التي كتبها في سجنه الذي جاوز عامين ويتكون من ثمانية أبواب كل باب منها يسمي طاسين، وينثر الحلاج فيه آراءه بشيء من الغموض والتلاعب بالألفاظ والتلميح دون التصريح فهو مجموعة من الترانيم في تعظيم النبي صلي الله عليه وسلم الذي يري "أن الله لم يخلق أحبّ إليه من محمد وآله". ويقول عن النبي صلي الله عليه وسلم وعن شمائله: أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، همته سبقت كل الهمم، ووجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم، قبل أن يخلق القلم، لأنه كان قبل الأمم، ما كان في الآفاق ووراء الآفاق وخارج نطاق الآفاق أظرف، وأشرف، وأعف، وأرأف، وأخوف، وأعطف مِن صاحب هذه القضية، وهو سيد البرية، العلوم كلها قطرة من بحره، والحكمة كلها حقنة من نهره، والأزمان كلها ساعة من دهره. وقد دافع عنه الامام الغزالي والشيخ عبد القادر الجيلي، وتلقفه الأدباء رمزا للحب والحرية ومنهم صلاح عبدالصبور وأدونيس والبياتي وعز الدين المدني وغيرهم. وقال الإمام عبدالقادر الجيلاني: عثر الحلاج ولم يكن في زمانه من يأخذ بيده.. ولو أدركتُه لأخذت بيده. صلاح عبدالصبور: مأساة الحلاج من أجمل مسرحيات صلاح عبدالصبور تأتي مأساة الحلاج التي أقتطف منها: -لا يا أصحابي لا تلقوا بالا لي أستودعكم كلماتي - أحببنا كلماته أكثر مما أحببناه فتركناه يموت لكي تبقي الكلمات في البدايات تتجلي النهايات قال الحلاج: والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت إلا وحبّك مقرونٌ بأنفاسي ولا خلوتُ إلي قوم أحدّثهم إلا وأنت حديثي بين جُلاسي ولا ذكرتك محزوناً ولا فَرِحا إلا وأنت بقلبي بين وسواسي ولا هممتُ بشرب الماء من عطش إلا رَأَيْتُ خيالاً منك في الكاس ولو قدرتُ علي الإتيان جئتُكمُ سعياً علي الوجه أو مشياً علي الراس ويا فتي الحيّ إن غنيت لي طربا فغنني واسفا من قلبك القاسي ما لي وللناس كم يلحونني سفها ديني لنفسي ودين الناس للناسِومن العجب أن أبا العلاء المعري بعد مائة عام من مقتل الحلاج يقول إن عددا من الناس يأتون نهر دجلة انتظارا لعودته!