» قِشر السفندي مستخبي وَرَاه إيدين عريضه وقلب اسوِد بلون فحيم مكتوب علي واجهته »كاتب« بناب عريض وصُرَّه بتسقَّط علي البلاط شلنات والفضه لمَّا ترن يسلِّموا البهوات ويقلَعُوا ......« عندما تقرأ هذه الأبيات الاستهلالية من ديوان مسعود شومان الجديد »ماتقفش عند بداية الحواديت« تكون قد فعلت شيئين: الدخول في طقس القصيدة / الديوان ثم الدخول في التجربة الإنسانية التي تفرد لك مساحات من العالم ليس علي سبيل الاختزال وإنما علي سبيل المكاشفة التي تتسلح فيها بوعيك أولا وبقدرتك علي متابعة سلسلة تمثل فيضا من الصور المحكمة . في نفس واحد يجد المتلقي نفسه مدفوعا لتلقي نص لا يتضمن عتبات داخلية، فليس ثمة نصوص يجمعها ديوان وليس ثمة ديوان تتعدد قوافيه بتعدد قصائده، وإنما هو إزاء ديوان يقوم علي قصيدة واحدة تجمع بين تعدد القوافي الداخلية وتعدد اللوحات التي تشكل في تضامها جدارية نصية، لك أن تراها لوحة واحدة تتعدد مراحل تلقيها بتعدد مراحل الوعي بإنتاجها معتمدا حضور الزمن في تواليه، ولك أن تراها ملحمة شعرية تجمع بين أشتات مختلفة من الأحداث والأشخاص، ولكنك في النهاية أنت أمام جدارية شعرية تجمع بين تعدد الألوان وتعدد التفاصيل المكانية والبصرية والزمنية، تلك التفاصيل التي تلزمك بمساحة زمنية ليست طويلة لتلقيها عبر معطياتها النصية ولكنها منفتحة في مساحة يتطلبها التأمل الكاشف لماهو كائن وراء الصور. في إبداعه قصيدة العامية يجمع مسعود شومان بين خبرتين ناجزتين تنتجان خصوصيته وتمنحه قدره من التميز: 1- منجز إبداعي قوامه سبعة دواوين علي التوالي : - أول بروفه ديوان الفتافيت- الهيئة العامة لقصورالثقافة- القاهرة1996. - بيجرب المشي علي رجل واحدة - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 2002. - رجلي أتقل من سنة 67- الهيئة العامة لقصور الثقافة-القاهرة 2003. - قبل ما يردموا البحيرة - الأمل للطباعة ط1، علي نفقة الشاعر ، 4002. مكتبة الأسرة ط، 8002 إخلص لبحرك 2007. صاحب مقام- نهضة مصر القاهرة 2010. - ما تقفشي عند بداية الحواديت إيزيس للإبداع والثقافةالقاهرة 2011. يمثل كل منها مرحلة لها طابعها الإبداعي وهي مراحل تمتد عبر خمس عشرة سنة، يضاف إليها ديوان للأطفال . 2- منجز علمي: يتمثل في عشرات الدراسات وأوراق البحث العلمي والنقدي التي قدمها للمؤتمرات وجلها تدور حول القصيدة العامية خاصة والأدب الشعبي عامة، دارسا التجربة العامية المصرية من ابن عروس حتي شعراء العامية المتفرقين في أقاليم مصر، وهي تجربة تكشف عن جهد تطبيقي كاشف عن خريطة الإبداع في محافظات مصر المختلفة. في ديوانه الجديد »ما تقفشي عند بداية الحواديت« تبرز للوهلة الأولي ملامح التجريب التي يشتغل عليها الديوان، تمنحه خصوصيته ويمنحها قدرتها علي إنتاج الدلالة، والتجريب هنا خطوة تكون بمثابة القفزة المحسوبة بدقة، فالشاعر لم يقم ديوانه علي عدد من القصائد كما هو الأمر في التشكيل التقليدي للديوان، وإنما هو يعمد إلي تقديم نص له فرادته في التشكيل، نص يقوم علي تقنية الجدارية الشعرية (راجع : مصطفي الضبع : القصيدة الجدارية في الشعر العربي دراسة قيد النشر) حيث القصيدة تأخذ طابع الديوان ذي القصيدة الواحدة أو القصيدة الواحدة ذات العتبة الاستهلالية التي يتطابق فيها عنوان الديوان مع عنوان القصيدة . القصيدة الجدارية القصيدة الجدارية مرجعيتها في المعلقة العربية القديمة، لك أن تراها معلقة تأخر ظهورها في قصيدة العامية بوصفها النص غير الرسمي بعد ظهورها في القصيدة العربية التي تعد الناطق الرسمي باسم الثقافة العربية، ولك أن تراها تطورا طبيعيا عن المعلقة تفرضه اللحظة التاريخية وتستلزمه طبيعة النص العامي، وللجدارية هنا طابعها الشعبي الأقرب إلي الجماعة الشعبية منها إلي النخبة، هي تنتقد النخبة من خلال الوعي الشعبي، وعي الجماعة التي تري أن الواقع المتعين هو واجهة جدارية في المقام الأول، لك أن تتخيل القصيدة لوحة جدارية تتعدد ألوانها وظلالها ، تتعدد تفاصيلها ، وعناصر تشكيلها ، تتعدد مرجعيات الصور وإطاراتها الفكرية، فإذا كانت المعلقة القديمة تعلق علي الخيمة وتعلق في الأذهان فالمعلقة الجديدة أو الجدارية الحديثة لها قدرتها علي اختراق طبيعة العصر مع الوضع في الاعتبار أن المعلقة قديما أتيح لها مالم يتح للمعلقة الجديدة ، قديما كانت القصيدة فنا لا منافس له في زمن كانت القصيدة الشعرية فن العربية ليس الأول ولكن الأوحد في شيوعه وانتشاره وإيمان المجتمع به وفي المقابل تأتي الجدارية الحديثة لتكون لوحة بالمعني التشكيلي للكلمة ، لوحة لها قدرتها علي منافسة فنون متعاصرة، ومتجددة الطرح. يمكنك التأكد من ذلك حال طرح السؤال بصورة تبادلية: ماذا لو كانت المعلقة قد ظهرت الآن؟ هل كانت تلاقي مالاقته قديما؟ وماذا لو كانت القصيدة الحديثة قد عاشت في زمن العربية الأول ألم يكن سيتاح لها ما تفتقر إليه الآن في ظل ظروف عصرية تتغلب عليها فيها فنون متعددة تجعل منها فنا أقل شيوعا وأضعف انتشارا وأقل قدرة علي المنافسة . بالطبع ليس للمعلقة الجديدة أن تنتهج نهج المسطرة القديمة أي تكون أمينة لنموذجها الأول ولكن كان عليها أن تنتج نموذجها الخاص القادر علي أن يجعلها تتجاوز النموذج القديم محققة ذاتها الخاصة بوصفها ابنة عصرها . ثماني سمات فنية وفق الرؤية المؤسسة علي مفهوم الجدارية ، تتحقق في الديوان سمات القصيدة الجدارية ومن أهمها : أولا : التكرار حيث يتكرر العنصر الواحد عددا من المرات الكافية لتجعل المتلقي قادرا علي اكتشاف التكرار بسهولة بوصفه عنصرا ملحا في الظهور، تماما كما تتكرر الألوان في الجدارية منتجة إيقاعاتها الخاصة ، تتكرر عناصر الجدارية ويمكن للقارئ رصد ثلاث علامات تمنحه دليلا واضحا وكاشفا علي عنصرالتكرار الذي يكون بمثابة المادة الخام في خلفية الجدارية يبرز في منطقة ويختفي في أخري ، ويكون لتواتره في الظهور والاختفاء مجال خاص لإنتاجه دلالته (الأنا الشمس الرقم سبعة )، وتكرار العناصر ليس معناه فقط أداء العنصر لدلالته فقط لمجرد التكرار، وإنما هو يقوم بوظيفة مزدوجة حال إفراده وحال تركيبه ولنجرب ذلك مع عنصر »الأنا« علي سبيل المثال : 1 - »أنا قلت عندي م الكلام أندر بس الكلاب بيفتوا لحم القول ويتفوا في الأنجر« (ص 9 ) تبرز الأنا هنا مدافعة عن حقها في القول، فإذا كان الاستهلال يطرح جانبا من دفتر أحوال الوطن ، ويكشف عن قوتين أساسيتين : الكاتب بنابه العريض وقلبه الأسود، والسلطان صاحب صرة الشلنات والفضة ، تلتقيان في بلاط السلطة ، فإن الذات تطرح نفسها وقد مهدت لظهورها بإبراز المجروحين والتشويق بوصف الحكاية بالندرة، هنا تبرز الذات بوصفها سلطة تمتلك القدرة علي القول ، قول الحكاية في طابعها الملحمي ، والشاعر يضع قوة الذات في امتلاكها الحكاية النادرة في مقابل الكلاب بما يحمله اللفظ من طاقة رمزية . 2 - »وانا لسه جوه الخلا قلبي ملان بالرمل وحروفي بتحفَّر عِتْرِت في ورده بجناحين« ( ص10) الأنا الثانية تستهل مجموعة من العلامات المشتركة في علامتين لغويتين : الواو السابقة لمفردة الأنا ، والأنا حال وقوعها جملة للحال، جملة تعبر عن موقف الذات ورؤيتها لذاتها في سياق مجموعة النصوص التي يتعين علي الذات فيها أن تظهر قدرا من الحفاوة بنفسها كاشفة عن قوتها دون أن تعلن عن ضعف العالم أو القوي التي يضمها هذا العالم من حولها . 3- » وأنا الصياد وصيد البحر مش معلوم في غيب الموجه والعافيه بخاف منها إذا قدرت علي) «ص 29) وفي محاولة جديدة عبر التشبيه تطرح الذات رؤيتها لنفسها دون أن تؤسطر هذه الرؤية وإنما تعمد إلي محاولة تشكيل عالم له منطقه علي المستوي الإنساني ، فالذات شأنها شأن البشر لها غرائزها كما لها مخاوفها ، فهي تخاف من الموجة ( بما تحمله المفردة من طاقة رمزية ) والشاعر يطرح الصورة بما تحمله من مراعاة النظير بالمعني البلاغي ( الصياد البحر الموجة ) منتجا عبره ما يمكن تسميته بالمحيط المنطقي لرؤية العالم ، حيث المفردات الثلاثة تتشكل من ثلاثة أضلاع وثلاثة زوايا أيضا ، بمعني أن القوي الثلاث التي تتشكل وفق طبيعة المثلث تعد نوعا من التآلف فيما بينها وهو ما يوحي بأن الصورة تنتج معني من معاني قدرة الشاعر علي رصد هذه الأبعاد في الوقت الذي يربط نفسه بهذه الصورة من خلال التشبيه (المشبه به تحديدا) وهو يراوح بين الظهور والاختفاء . 4- »وانا منهم جريت بحصاني جنب الوهم صابني السهم« ( ص 41) للوهلة الأولي يشعر المتلقي أن الشاعر في تعبيره عن ذاته يدرج نفسه في سياق الآخرين وأنا منهم ولكن الفعل التالي (جريت بحصاني) يغير من مجري التعبير من الملازمة إلي الانفصال ، وهو ما ينتج حالة من الدراما في تموجاتها بين قوة الهروب (جريت) وضعف الإصابة (صابني السهم ) . 5 - »وأنا في الحزن ده من كام ولا عارف لكن شايف مديرهم «(ص5)يؤكد ضمير الأنا وجوده وتعبيره عن صوته الكاشف عن طبيعة الشخصية التي تفيد القدرة علي التخلص من الحزن لكنها تقوم بفعلها التعويضي (الإدراك ) الدال علي احتفاظها بوعيها عبر مدركها الخاص . 6 - » حروف الظلم تبني مقام وانا صاحبه خيال مركون علي الحيطه مجرد رسمه علي جملين وشايل م التعب حملين »وراء الرؤية بوصفها واحدة من وسائل الإدراك تكمن العلامات القارة للثقافة الشعبية ، فالصورة الجدارية الطابع الممثلة في »رسمة الجملين« تتكشف عن سياق جمالي للعلامة