أسعار اللحوم والدواجن اليوم 17 مايو    الشرطة الأمريكية تفض اعتصاما داعما لغزة بجامعة ديبول في شيكاغو (صور)    رد مفاجئ من «نتنياهو» على حقيقة استقالته بعد خلافات مع بايدن.. ماذا قال؟.. عاجل    «القاهرة الإخبارية»: جالانت يشدد على ضرورة حماية المدنيين في رفح الفلسطينية    قلق في إسرائيل بعد إعلان أمريكا التخلي عنها.. ماذا يحدث؟    «الأرصاد» تحذر من طقس ال 6 أيام المقبلة.. تعلن عن الأماكن الأكثر حرارة    مواعيد القطارات الجمعة على خطوط السكك الحديد    مهرجان إيزيس لمسرح المرأة يكرم مبدعات المسرح العربي    نجوم الفن يحتفلون بعيد ميلاد عادل إمام.. «شكرا يازعيم»    يوسف زيدان : «تكوين» استمرار لمحاولات بدأت منذ 200 عام من التنوير    بسمة وهبة عبر: يجب إعداد منظومة لمعرفة خط سير كل سائق في «أوبر»    دعاء تسهيل الامتحان.. «اللهم أجعل الصعب سهلا وافتح علينا فتوح العارفين»    الأزهر للفتوى يوضح سنن صلاة الجمعة    موعد مباراة ضمك والفيحاء في الدوري السعودي    بسبب عدم انتظام الدوري| «خناقة» الأندية المصرية على البطولات الإفريقية !    بسبب زيادة حوادث الطرق.. الأبرياء يدفعون ثمن جرائم جنون السرعة    النمسا تتوعد بمكافحة الفساد ومنع إساءة استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي    شريف الشوباشي: أرفض الدولة الدينية والخلافة الإسلامية    الاستخبارات العسكرية الروسية: الناتو قدم لأوكرانيا 800 دبابة وأكثر من 30 ألف مسيرة    بركات: الأهلي أفضل فنيا من الترجي.. والخطيب أسطورة    أضرار السكريات،على الأطفال    هل يشارك لاعب الزمالك في نهائي الكونفدرالية بعد وفاة والده؟    ملف يلا كورة.. موقف شيكابالا من النهائي.. رسائل الأهلي.. وشكاوى ضد الحكام    شبانة يهاجم اتحاد الكرة: «بيستغفلنا وعايز يدي الدوري ل بيراميدز»    بعد قفزة مفاجئة.. سعر الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم الجمعة 17 مايو 2024 بالصاغة    مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17 مايو 2024    الذكاء الاصطناعى.. ثورة تكنولوجية في أيدى المجرمين الجدد    من أجل بطاقة السوبر.. ماذا يحتاج برشلونة لضمان وصافة الدوري الإسباني؟    فودة ووزيرة البيئة يوقعان بروتوكول أعمال تطوير مدخل أبو جالوم    يوسف زيدان يهاجم داعية يروج لزواج القاصرات باسم الدين: «عايزنها ظلمة»    تحرك جديد.. سعر الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 17 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 17 مايو: "جوائز بانتظارك"    أحمد السقا يكشف عن مفاجأة لأول مرة: "عندي أخت بالتبني اسمها ندى"    فصائل عراقية تعلن استهدف موقع إسرائيلي حيوي في إيلات بواسطة الطيران المسير    " بكري ": كل ما يتردد حول إبراهيم العرجاني شائعات ليس لها أساس من الصحة    بعد اختفائه 12 يومًا.. العثور على جثة الطفل أدهم في بالوعة صرف بالإسكندرية    «واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن والمرافق العامة» .. موضوع خطبة اليوم الجمعة    محافظ الغربية: تقديم الخدمات الطبية اللائقة للمرضى في مستشفيات المحافظة    تركيب المستوى الأول من وعاء الاحتواء الداخلي بمفاعل محطة الضبعة النووية    الدراسة بجامعة القاهرة والشهادة من هامبورج.. تفاصيل ماجستير القانون والاقتصاد بالمنطقة العربية    براتب 1140 يورو.. رابط وخطوات التقديم على وظائف اليونان لراغبي العمل بالخارج    شروط الحصول على المعاش المبكر للمتقاعدين 2024    المظهر العصري والأناقة.. هل جرَّبت سيارة hyundai elantra 2024 1.6L Smart Plus؟    طارق مصطفى: استغللنا المساحات للاستفادة من غيابات المصري في الدفاع    عاجل - واشنطن: مقترح القمة العربية قد يضر بجهود هزيمة حماس    باسم سمرة يُعلن انتهاءه من تصوير فيلم «اللعب مع العيال» (صور)    براميل متفجرة.. صحفية فلسطينية تكشف جرائم إسرائيل في غزة    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الجمعة 17 مايو 2024    كارثة تهدد السودان بسبب سد النهضة.. تفاصيل    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    كلمت طليقى من وراء زوجي.. هل علي ذنب؟ أمين الفتوى يجيب    ترقب المسلمين لإجازة عيد الأضحى وموسم الحج لعام 2024    ماذا قالت نهاد أبو القمصان عن واقعة فتاة التجمع وسائق أوبر ؟    بنده السعودية.. أحدث عروض الهواتف المحمولة حتى 21 مايو 2024    كاميرا ممتازة وتصميم جذاب.. Oppo Find X7 Ultra    طريقة عمل بيكاتا بالشامبينيون: وصفة شهية لوجبة لذيذة    للحفاظ على مينا الأسنان.. تجنب تناول هذه الفواكه والعصائر    تنظم مستويات السكر وتدعم صحة العظام.. أبرز فوائد بذور البطيخ وطريقة تحميصها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصورة الفنية "المأذونة"
نشر في أخبار الأدب يوم 30 - 06 - 2012

كُتب الكثير عن "تحريم الصورة" في المجتمعات الإسلامية القديمة، إلا أنه جري فحصها، هي والإنتاجات المصاحبة لها، ما صحح وعزز المعرفة التاريخية بحقيقة هذا التصوير. وإذا كان الأمر يحتاج إلي مزيد من التنقيب والفحص والدرس، فإن الدارسين لا يختلفون في أن السياسات العثمانية، بما فيها في الولايات العربية، اتجهت وجهة أخري، ولا سيما في القصور والدور، أو في إنتاج الصورة الفنية "المأذونة" للسلطان أو الوالي وصولاً إلي الأعيان. ماذا عن هذه التغيرات؟ ما موجباتها؟ ما صلاتها بإنتاج اللوحة في المجتمعات العربية المختلفة؟ ما صلة الفن بالهيئة الفردية، الزمنية، الماثلة؟ ألنا أن نجد في هذه السياسات والإنتاجات بناء كيان اللوحة الحديثة العربية؟
قام الكاتب الفرنسي جيرار دو نرفال (Gérard de Nerval)، في العام 1834 برحلة "شرقية"، وشملت جولاته ومعايناته جوانب مختلفة من حياة المجتمعات، ما جمعه في كتاب بعنوان: "رحلة إلي الشرق"، وضمَّنه مقالات تناولت الفن أحياناً، منها: "فنون لدي الشرقيين" و"تصوير الأتراك".
إذا كان دو نرفال ينحو منحي سابقيه من الرحالة بالحديث عن "كراهية الإسلام" للتصوير، فإنه لا يلبث أن يعدِّل ويصوِّب هذه النظرة، متنبهاً إلي أحوال ظاهرة للصورة في النطاق العثماني، سواء في استانبول أو القاهرة أو بيروت... هذا ما لخَّصه في القول: "لدينا مواقف مسبقة تُظهر الأمم الشرقية عدوةً للوحات والتماثيل (...) فيما نشاهد، في إحدي صالات السراي، في القسطنطينية (استانبول)، مجموعة من الصور الوجهية للسلاطين" وهو ما يكرره في كلامه عن الصور في القاهرة: "حللت في القاهرة (معززاً) بموقف أوروبي مسبق، (قوامه) أن المسلمين لا يُقرون بتصوير أي كائن حي، فأصابتني الدهشة، بداية، إذ وقعت في مقاهٍ علي فهود مصورة في جداريات، وعلي درجة موفقة من الشبه. وزادت دهشتي إثر دخولي إلي قصر محمد علي، فوقعتُ، بداية، علي صورة لحفيده معلقة علي جدار، ومصورة ب(ألوان) زيتية، ومنفذة حسب الفن الأوروبي (...). ولقد علمتُ منذ ذلك الوقت (بوجود) مجموعة من صور السلاطين في القسطنطينية وهو ما يلحظه من صور وجهية في صالات أخري في قصور أخري لمحمد علي... كما يذكر معرضاً في استانبول تعدَّت الأعمال الفنية المعروضة فيه الخمس مائة عمل، وآخر في القاهرة أيضاً بلغت معروضاته المئات بدورها...
ما يلحظه دو نرفال لا يقتصر فقط علي القصر ومعروضاته، وإنما يتعدّاه إلي الشارع، بل إلي محلات باتت معنية بالأعمال الفنية: يتحدث عن معرض لوحات في منطقة "غالاتا" في استانبول، وعن "ساحة سيراسكين" ومحلاتها، التي يرتادها سكان استانبول لشراء لوحة، وربما لتصوير هيئاتهم الشخصية؛ كما يذكر أحد الملاهي في "بيرا" (ضاحية استانبول) المزيَّن بأعمال فنية... وكان قد انتبه إلي وجود الصور في أحد المقاهي في بيروت؛ وهو ما تحدث عنه لاحقاً مستشرقان آخران، آزايس ودومرغ ، في العام 4481، في معرض حديثهما عن جدرانيات فنية في غرف "فندق بيل فو في بيروت.
بين الجلسة والوقفة
يكفي، للتدليل علي ما أقول، الوقوف عند كتاب عربي (صادر قبل العام 1961، تاريخ مقدمته، وقد غاب عنه تاريخ طبعه) بعنوان: "تاريخ مصر من الفتح العثماني إلي قبيل الوقت الحاضر"، ويشتمل علي عشرات الصور الفنية، التي تعود إلي محمد علي وإلي عدد من السلاطين العثمانيين، فضلاً عن صور للوحات أخري. ما يستوقف في المعلومات المثبتة في هذا الكتاب هو ورود اسم المصور، علي (أفندي) يوسف، وورود مكان وجود هذه اللوحات: "دار الكتب السلطانية". لم أتوصل في تحقيقاتي الخاصة إلي معرفة شيء من سيرة هذا المصور، المصري علي الأرجح؛ إلا أنني تحققت بالمقابل من أن غالب هذه الصور معروف، وتمَّ بالتالي تصويرها من جديد . ومع ذلك، أطرح السؤال: ألا نملك عدا هذه المعلومات القليلة والقيَّمة في آن أخباراً أوفي عن سلوك الحكام، ولا سيما في الولايات العربية، وخصوصاً في مصادر عربية؟
أقع علي أخبار تفيد أن الحاكم الجزائري علي بن أحمد طلبَ، في العام 1864، من الفنان المستشرق المعروف تيودور شيسيريو ، الإقامة في قصره، في قسطنطينية، وتنفيذ رسمه الشخصي (وهو ما قام به الفنان الفرنسي، ونفذ الرسم في شهرين). وهذا ما سعي إليه الأمير بشير الشهابي الثاني، حين طلب من المصور الإيطالي المعروف قسطنطين غويستي ، أن يكون حسب بعض الأخبار "رسام القصر" .
اللوحة تنتقل بيُسر أقوي مما سبق، حتي لا أقول عنها إنها "تتوطن"، إذ باتت مستساغة الحضور بعض الشيء، ما يلاحظه دو نرفال في معايناته بالقول: "اليوم، لا توجد سوي قلة من الأتراك تطلب تصوير هيئاتها، (إلا أننا ننتبه، بالمقابل، إلي) أنه لا يوجد واحد منهم يمتنع عن أن تكون هيئته، أو زيّه موضعَ تصوير (في حال طلبَ منهم أحد الفنانين ذلك)، بل (نراه) يحافظ علي جلسته بصبر كامل (عند قيام الفنان بتصويره)، وبنوع من التباهي".
لا يجد الزائر أو الدارس، اليوم، في متحف أو في كتاب، ما يجمع هذه الصور السلطانية، كما لا يجد متحفاً يستجمع صور أعداد من العرب في القرن التاسع عشر: يقع علي لوحات متفرقة تخص محمد علي، أو ابراهيم باشا، أو الأمير بشير الشهابي، أو أحد الحكام الجزائريين، أو أحد سلاطين المغرب وغيرها من الصور واللوحات المتفرقة لهذا أو ذاك. هذا الحضور متفرق لا يرسم سياسات بينة بالضرورة كما عند السلطان العثماني، ذلك أن عدداً من الحكام في الولايات العربية انشغلوا علي ما درستُ بأمور أخري غير الصورة الفنية، مثل تثبيت حكمهم المضطرب، عدا أن غالبهم ما كان يتمتع بالثقافة الفنية اللازمة. وإذا قيل أن الأمير بشير الشهابي اعتمد بعض المظاهر السلطانية في الحكم، كاعتماد شاعر للأمير، أو مصوِّر له (كما ذكرت)، فإن هذه السياسة حاكت غيرها، ولم تثمر إلا لوحات معدودة... بل يمكن القول إن ظهور لوحة الحاكم وافقَ سياسات الفنانين أكثر من الحكام أنفسهم، حيث أن الفنانين المستشرقين والرحالة راحوا يتجولون ويعرضون "خدماتهم" علي هذا الحاكم أو ذاك، علي ما نعرفه من أخبار بعضهم، أكثر مما كان الحكام يستدعونهم أو يطلبونهم.
أقع علي أكثر من لوحة، في المحفوظات الفنية المصرية، يظهر فيها محمد علي وفق النموذج العثماني المعتمد من قبل السلاطين، أي الحاكم فوق تخته، من دون أن يفارقه الطربوش، والسيف، وتعبيره المتجهم؛ بينما تظهر في خلفية إحدي اللوحات منارة أحد المساجد، وهو ما ظهر في فن نهايات القرن الثامن عشر، أي لزوم إبراز منظر طبيعي أو عمائر في خلفية الصورة الشخصية، ما سيستمر في تصوير السلاطين في مطالع القرن التاسع عشر. إلا أن محمد علي يتخفف من سيفه في لوحة أخري، ويبرز فيها مستريحاً، أي في وضعية أقل رسمية من اللوحات "الرسمية"، إذا جاز القول.
يمكن الوقوع علي عدد من صور محمد علي، وابنه: ابراهيم باشا، منشورة في كتاب: "ذكري البطل الفاتح ابراهيم باشا، منها لوحة تُظهر ابراهيم جالساً علي كرسي، وهي غير صوره الأخري الوجهية، عدا أنه يبدو فيها في "جلسة تصوير" لا في هيئة ووضعية "رسميتين"؛ كما يَظهر في لوحة أخري متقدماً جيشه، من دون أن يتضح تاريخ رسمها، أو اسم الفنان الذي رسمها.
من يتابع اللوحات عن محمد علي يتحقق من انبناءاتها وفق نمطين، هما: "الجلسة" العثمانية، و"الوقفة" الأوروبية. ففي غير لوحة يَظهر محمد علي جالساً بل ممدداً فوق أريكة أو تخت أو سرير، بلباسه الإسلامي (إذا جاز القول)، وهو ما ظهر عليه السلطان العثماني سابقاً وتحدث عنه ابن خلدون؛ كما يَظهر في لوحات أخري واقفاً بلباس أوروبي، حاملاً سيفه، وفق تقاليد أوروبية في ظهور الحاكم، علي ما تحققت. هذا ما وجدتُ أثراً ظريفا ودالاً عليه في مراسلات محمد علي مع ابنه ابراهيم باشا: لا يوافق محمد علي، في رسالة منه إلي ابنه ابراهيم باشا في العام 1822، علي "تقلُّد السيف الذي وردَ من أوروبا، ولا علي ارتداء الكسوة الجديدة، لأن شكلهما لا يتوافق ونصوص الشرع الشريف" ؛ وهو اللباس الأوروبي الخاص بالحكام، كما يظهر في عدد من لوحات ذلك العهد، ولا سيما مع نابوليون الثالث وغيره، ممن جري تصويرهم، وهم يحملون وهم واقفون - سيوفهم. إلا أن هذا لا يمنع محمد علي في مراسلة أخري إلي ابنه ابراهيم، في العام 1853، من تنبيهه إلي أنه كان يتوجب عليه الوقوف لتحية المارشال مرمون، فيقول له: "إن الزمان تبدَّلَ، والعهد تحوَّل. وقد اضطررتُ أن أستقبل هذا الشخص في وسط الغرفة"؛ ثم يذكِّر ابنه بما جري من تغيير في بلاط السلطنة عند استقبال السفراء، حتي أن السلطان ما عاد يدري كيف يكرمهم: "تارة يكون واقفاً قبل شخوصهم (ظهورهم)، وطوراً يحاول اكتساب قلوبهم بتواضعه، فيقوم لهم خصيصاً" .
بين الصورة الفوتوغرافية واللوحة
انساقت الكتابات الفنية صوب اللوحة، صوب الفنان، لسؤالها عن تاريخ الفن في الولايات العربية (العثمانية) المختلفة، ولم تُعنَ في الغالب بدرس سياق وأحوال المجتمعات المختلفة المعنية، ولا سيما ظهور المطبعة بإنتاجاتها المختلفة (الجريدة، الكتاب، المنشور...)، من جهة، وظهور آلة التصوير الفوتوغرافي بحاجاتها المختلفة (الصحفية، الثبوتية، المظهرية...)، من جهة ثانية. ويحتاج دخول آلة التصوير الفوتوغرافي إلي هذه المجتمعات وعاداتها وطلباتها إلي درس غير متوافر بعد، للتعرف علي أشكال الدخول والقائمين به، وعلي قبوله (أو رفضه) من قبل الأفراد والجماعات، وعلي مترتبات هذا الدخول في أكثر من صعيد، ولا سيما علي مستوي القيم والسلوكات الاجتماعية المختلفة. وما يجده الدارس يقتصر في الغالب علي معلومات متفرقة، هنا وهناك، ولا سيما علي أسماء بعض المصورين الفوتوغرافيين. كتب المصور الفوتوغرافي الفرنسي إدمون دوتي ( "لقد فرحنا شديد الفرح إذ تمكنّا من التقاط بعض الصور. وإذا كنا قد استطعنا التقاطها فذلك لأن المتفرجين يجهلون كل شيء عن آلة التصوير (الفوتوغرافي)" .
آلة التصوير الفوتوغرافي تُخفي ما تَعرضُه يد الرسام أو المصور الزيتي من خطوط وألوان وهيئات، إلا أن الأكيد أيضاً هو أن رفض الأهل لدخول الآلة "البصّاصة" علي عالمهم بات أقل عداوة من السابق، أو أكثر تقبلاً ربما. إلا أن أخباراً متفرقة ومختلفة تفيد عن مجيء، أو عن توطن، أجانب في عدد من المدن العربية، لا سيما في القاهرة وبيروت، بل عن فتحِهم محلات للتصوير الفوتوغرافي. هذا ما كان يلبي حاجات أوروبية في المقام الأول، وتتعين في تلبية طلبات مستجدة عند فئات مختلفة منهم، ممن لا يسافرون بالضرورة خارج بلدانهم، ولكنهم يحلمون بها، عبر بطاقات سياحية وغيرها، مما يشكل لهم "نوافذ مصغَّرة"، و"بصّاصة" بدورها، علي هذا العالم القريب والغريب والمختلف والمثير في بعض أوجهه. هذا ما كشفته كتب ودراسات متأخرة عن "البطاقة السياحية" واستعمالاتها المختلفة، بما يُظهر أوجهاً وأحوالاً ووجوهاً "نمطية"، بما فيه إظهار عالم "الحريم" الإسلامي...
كما كشفَ البحث عن أسماء بعض هؤلاء المصورين الفوتوغرافيين، أو عن رحلاتهم، أو توطنهم في مدن عربية: هذا ما نعرفه عن مجيء فيليكس بونفيس وزوجته ليديا وابنتهما أدريان إلي بيروت في العام 1877، وعن إقامتهم الممتدة فيها، وفتحِهم لإستديو للتصوير الفوتوغرافي، وعن تصويرهم الكثير الذي امتدت نماذجه في أكثر من مدينة عربية. وهو ما نعرفه، في بيروت أيضاً، عن اضطلاع عائلتين من أصل أرمني بهذا التصوير، وهما عائلتا: صرافيان وصابونجي. وهو ما قام به بدوره الفنان الفلسطيني خليل رعد، الذي افتتح محلاً للتصوير الفوتوغرافي في القدس في العام 1859، بعد عودته من بازل (سويسرا)، التي اطلع فيها علي تقنيات هذا الفن...
بات وجود التصوير الفوتوغرافي ميسَّراً أكثر من اللوحة الزيتية، فما عاد السكان يرشقون هذا الفنان أو ذاك بالحجارة أو يطلقون عليه الرصاص، مثلما حصل لدولاكروا بعد 41 يوماً علي وصوله إلي طنجة في سنة 1823. اختلفتْ الأيام، إذاً، عدا أن دخول التصوير الفوتوغرافي يبقي أخفي من الحمّالة المسندية نفسها، وباتت ترافقه "أذونات" دينية لا تحرمه أبداً، مثل فتوي جواز هذا التصوير التي أطلقها أحد رجال الدين المغاربة ، أو مثل إقدام السلطان المغربي المولي عبد العزيز علي ممارسة التصوير الفوتوغرافي (كما السينمائي)، وعن تصويره حتي بعض نساء القصر .
جري هذا في الوقت الذي تشكَّلت فيه، في أوساط متأثرة بسبل الحياة الأوروبية وعلاماتها، سلوكات ناشئة، مثل شراء نسخ من البطاقات السياحية، أو التزود ببطاقة الزيارة التي كانت تشتمل علي صورة صاحبها، أو الاعتياد علي تصوير الهيئة لأسباب ثبوتية (في جواز السفر الذي سيبصر النور)، والذي بلغ ببعضهم تكبيرَ صورته ورفعَها فوق جدران البيت. هذا ما تنقله كتابات مختلفة، عربية وأجنبية، تتحدث عن هذه العادة الناشئة في البيوت العربية؛ وهو ما بلغَ رفعَ صورة الميت كذلك.
هذا ما يمكن التعرف عليه في لوحات وصور فوتوغرافية نادرة عن مصر في كتاب عبد الرحمن الرافعي: "عصر اسماعيل"، الصادر في العام 1923؛ ويمكن الوقوف فيها علي اللوحات الخاصة بمباهج افتتاح قناة السويس في العام 1896، وهي للفنان ريو، والتي كانت قد ظهرت في كتاب خاص بالمناسبة: "افتتاح قناة السويس" للكاتب نيكول ويمكن العودة إلي صور أخري كثيرة في كتاب زكي فهمي: "صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر من عهد ساكن الجنان محمد علي باشا الكبير، متوَّجاً برسم صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر والسودان..."، مستكملاً ذكر أسماء بل فئات المذكورين مع صورهم، من: رؤساء وزراء حاليين وسابقين ورؤساء أحزاب ووزراء ووكلاء وزارات وسفراء ومستشارين ومدراء ونواب وأعضاء مجالس شيوخ ورؤساء روحيين وشعراء وصحفيين وأطباء وأعيان وتجار، و"كل ذي حيثية ومقام من أبناء وادي النيل".
هكذا أمكن التعرف في كتاب "صفوة العصر..." علي صور فوتوغرافية نادرة، مثل صورة سعد زغلول وهو يقرأ خطبة العرش أمام الملك ونواب الأمة، وهي من تصوير: المسيو أنطون أنتيبا (شارع كامل نمرة 8)؛ وهناك صورة فوتوغرافية ثانية لزغلول من تصوير: هنزلمان، وثالثة من تصوير: المسيو شارل... ويمكن العودة كذلك إلي كتاب "تاريخ الصحافة العربية"، لفيليب دو طرازي، للوقوف علي صور أعداد من الملوك والأباطرة والأمراء ورجال الدين والأدباء والشعراء والصحفيين وغيرهم من "وجوه" القرن التاسع عشر خصوصاً. وهو ما يرد منذ عنوان الكتاب: "يحتوي علي أخبار كل جريدة ومجلة عربية ظهرت في العالم شرقاً وغرباً مع رسوم أصحابها والمحررين فيها وتراجم مشاهيرهم" (11). ويرد في الكتاب رسم لمحمد علي، وورد توقيع فيه: مخائيل فرح نقاش في بيروت. وترد في بعض الصور أسماء مصورين فوتوغرافيين، مثل: خوري الذي يرد في توقيع آخر ، وله صور مختلفة تعود إلي: خليل سركيس (في العام 1921 ونقولا نقاش وأديب اسحاق وسليمان البستاني ورامز سركيس وأمين الخوري ورجل الدين يوسف داود؛ وهناك صور تعود إلي صابونجي الذي صور الأديبة مريانا مراش، علي سبيل المثال؛ وإلي جدعون (بالعربية، كما ورد اسمه في أحد تواقيعه، مرفقاً بأنه يعمل في بيروت)، الذي التقط صورة لويس صابونجي والبطريرك غريغوريوس الرابع وغيرهما. وهي صور تتعدي اللقطة الوجهية أحياناً، إذ نتعرف علي جمال الدين الأفغاني في سريره، "في مرضه الأخير"، أو علي أحد الصحفيين في مكتب جريدته...
يَظهر الشيخ ناصيف اليازجي بعمامته وجبته جالساً إلي جانب طاولة، فيما يبرز الكثيرون من أقرانه بلباس "الأفندية" (أي مثقفي العلوم "العصرية")، وممن وقف أمام آلة التصوير الفوتوغرافي: يبقي الطربوش ماثلاً فوق الرؤوس، فيما تظهر علامات الزي الأوروبي، من سترة وصدرية، وسلسلة للساعة معلقة في أحد أزرار الصدرية، فضلاً عن ربطة العنق، والمنديل الأبيض في الجيب العلوي من السترة، والنياشين وغيرها... فيما يمثل حفيد محمد علي، الأمير محمد علي، أمام آلة التصوير الفوتوغرافي، في زيه الماسوني بوصفه رئيس المحفل الأكبر الوطني المصري. وهو ما يتحدث عنه عبد الرحمن (بك) سامي إذ يكتب، في كتابه المذكور، أن البعض أخذ "في التسرول، أو لبس البنطلون، وأخصُّ من يلبس البنطلون خَدَمَة الحكومة" . ويتحقق العائد إلي صور كتاب "صفوة العصر..."، المذكور أعلاه، من ورود 93 اسماً في قائمة "أعلام الأدب في عصر اسماعيل"، فلا يظهر سوي 31 منهم مع صورهم، فيما ترد غالبيتهم المتبقية من دونها. وهذا ما يصح في قائمة علماء الهندسة والرياضيات في العصر نفسه: 7 مع صورهم من أصل 18 عالماً؛ وفي قائمة علماء الطب والجراحة: 4 مع صورهم من أصل 51 عالماً...
اللوحة "الوجهية" الفنية
يرد في كتاب "عصر اسماعيل" لعبد الرحمن الرافعي كلام مقتضب عن "النهضة الفنية" (21): "إن النهضة الفنية تشتمل علي الظواهر المعروفة بالفنون الجميلة، وهي الفنون التي تستثير في النفس إحساس الجمال، وتنمي فيها ملكته (م. ن.، ص 892). و"الكلام عن الفنون الجميلة يتناول الموسيقي أو الغناء، والتمثيل، والرسم والتصوير، والنقش والزخرفة والعمارة. أما الرسم فقد بدأت المدارس الهندسية والصناعية والبعثات تعني به من عهد محمد علي، فتخرج فيها طائفة من الرسامين تولوا تدريس الرسم في المدارس العالية والثانوية والابتدائية، ولكن نهضة الرسم والتصوير لم تنل حظاً من الازدهار في ذلك العهد" (م. ن.، ص 992). ويتبين الدارس في "المدارس الصناعية" أن الخديوي اسماعيل أسس عدداً منها، مثل: "مدرسة الفنون والصنائع"، التي عُرفت بمدرسة "العمليات"، في العام 8681، لتخريج الصناع الفنيين؛ ومن جملة مواد التدريس فيها: الرسم وفن العمارة (في السنة الأولي)، ورسم الآلات البخارية (في السنة الثالثة)، كما يوجد في المدرسة "قسم لتعليم التلوين بالألوان المختلفة".
أمكن التعرف، في هذه السِّيَر، علي وجوه قد يكون بعضها مغموراً أو غير معروف كفاية في عداد من كان لهم دور في تنمية الفنون في مصر، مثل:
-عمر سلطان (باشا)، ابن محمد سلطان (باشا)، الرئيس المصري الأول لأول برلمان مصري، ممن عرفوا بتجميعهم مواد الفن الإسلامي؛
-أحمد (باشا) كمال، "أمين شرف" المتحف المصري، فضلاً عن نجاحه في العام 0191 في تأسيس قسم لتعليم فن الآثار المصرية في مدرسة المعلمين العليا، وعن مؤلفاته الكثيرة (بالفرنسية) عن الآثار المصرية، وعن عمله في تأسيس سلسلة متاحف في المدن المصرية المختلفة؛
-شفيق (بك) شاروبيم، الذي مارس التصوير، وتعلَّم علي أيدي الأستاذ نييسستون كول والأستاذ سر جوفس في مصر، ثم سافر إلي إيطاليا في العام 2191 ودرَس فيها الفنون الجميلة، وكان أول مصري يفوز بشهادة المعهد الفني العالي، وشارك في معارض التصوير المختلفة في القاهرة (ويظهر في صورة مرافقة لسيرته صورة افتتاح الملك فؤاد لهذا المعرض إلي جانب الفنان المذكور)؛ كما ظهرت في المادة الخاصة به صورة لافتة يَظهر فيها أمام حمّالته المسندية ماسكاً بريشة التصوير، ومما ورد في النبذة عنه: "قد يمتاز الأستاذ شفيق (بك) شاروبيم علي غيره من المشتغلين بالفنون الجميلة بمصر بعمل "البورتريا"، أي صور الأشخاص. فهو تلميذ للأستاذ كورمالدي الإيطالي الشهير، والأخصائي في هذا النوع من التصوير. ولقد زرنا محلَّ عمله، وسررنا كثيراً من رؤية صور بعض الأشخاص الذين لنا بهم سابق معرفة، والذي يسهل بمجرد النظر إليهم من رؤية محياهم بما فيه من خصائص طبيعية وأخلاقية. وهذه مقدرة لم يصل إليها إلا كبار المصورين الذين بلغوا شأواً عظيماً من الفن" .
يتحقق العائد إلي كتب مختلفة من أن تاريخ البدايات التشكيلية في البيئات العربية لا يزال يفتقر إلي مصادر ووثائق تُعرِّف به، فيما يقوي الدارس علي العثور علي بعضها حيث لا يتوقعه، كما في سيرة عدد من أدباء العربية. هذا ما جمعتُ أخباره في سِيَر أعداد منهم، في نهايات القرن التاسع عشر أو في العقود الأولي من القرن العشرين؛ وقد يكون أبرز هذه الوجوه هو ابراهيم اليازجي. فماذا عنه؟
هذا ما يقوله عنه دو طرازي: "أظهرُ قرائحه (ابراهيم اليازجي) الإتقان الفني. فإنه كان متأنقاً في إتقان ما يتعاطاه من صناعة أو أدب أو شعر، سواء اصطنعه بيده، أو أنشأه بقلمه، أو نظمه بقريحته، بما يعبر عنه الإفرنج بقولهم (artist). فكنت تري التأنق والإتقان ظاهرين في كل عمل يعمله، حتي في لباسه وجلوسه ومشيه وكلامه وطعامه. وكل ذلك فرعٌ من تأنقه في الصناعة اليدوية، فكان حفاراً ماهراً ومصوراً متقناً (...). وكثيراً ما كان يحفر الأختام علي سبيل الغية، ثم حفرَ الصور والنقوش (...). علي أن تأنقه ظهرَ في خط يده، فكان جميل الخط من حداثته (...). ومن هذا القبيل تأنقه في التصوير باليد، حتي صوَّرَ نفسه عن المرآة صورةً ناطقة، رأيناها معلَّقة في منزله". هذا ما يرد أيضاً، في تاريخ دو طرازي، عن علم آخر من أعلام "عصر النهضة"، وإن في مثل فني وحيد، وهو لويس صابونجي، الذي عرفت عائلته (كما سبق الذكر) التصوير الفوتوغرافي في بيروت: "من مآثره، التي تستحق الذكر، أنه رسم صورة طولها أربعة أمتار، وعلوها ثلاثة أمتار بألوان الزيت. وهي تمثل تسلسل جميع الأديان من عهد آدم إلي يومنا هذا. وفيها 066 شخصاً، من جملتها تصاوير جميع الذين أنشأوا ديناً أو مذهباً مع طريق عبادتهم ورموز عقائدهم وطقوسهم. وكلها منقول عن آثار قديمة اكتشفها الحفارون في بلاد مختلفة. وهذه الصورة التي ليس لها نظير في كل الدنيا قد اشتغل الأستاذ صابونجي في أمرها منذ كان في أمريكا سنة 7281 حتي أكملها سنة 0991، فجاءت فريدة في نوعها. وقد ألَّف رسالة باللسان الإنجليزي هي بمثابة دليل أو مفتاح للصورة المذكورة، وما فيها من الرسوم، مع ذكر تاريخ تلك الأديان، وزمان اكتشاف الآثار الدالة عليها، والأماكن التي كانت مطمورة فيها، إلي غير ذلك من الأمور المهمة" .
قد يكون مثال جبران خليل جبران هو الأظهر والأعرف في سِيَر هؤلاء الأدباء الذين تعاطوا التصوير (ما لا حاجة لعرضه هنا)، إلا أن البحث يقتضي الحديث عن زملائه، مثل: أمين الريحاني وميخائيل نعيمة، علي ما انتهيت إلي التحقيق والدرس. فقد وقعتُ، في أحد كتب الريحاني، علي رسوم أنجزها بنفسه؛ كما تحققتُ مما هو أقوي دلالة علي هذا المنحي، وهو أن كتابته، لا سيما في الرحلة، تقوم وتشدد علي المعاينة البصرية تحديداً. كما لا يمكن تغافل الأمر التالي وهو أن أمين الريحاني يمكن أن يعد من أوائل الأدباء الذي اعتنوا بنقد الأعمال الفنية، فضلاً عن أنهم "نحتوا" العديد من ألفاظ هذا النقد في العربية. وهو ما يمكن التعرف عليه كذلك في أعمال فنية لميخائيل نعيمة: يمكن الوقوع في كتابه الشعري "همس الجفون" علي لوحات، وقَّعها باسم: "نعيمه"، من دون أن أعرف تاريخها؛ وتبدو الأعمال أقرب إلي طريقة رسم جبران، لجهة أنها تقوم علي تخطيط الشكل خصوصاً، كما تقوم علي رسم وجوه في الغالب، من دون أن نعلم ما إذا كانت مرسومة بالقلم الرصاص أو غيره، أم ملونة.
هذا ما يمكن معرفته أيضاً عن سيرة الشاعر جبرائيل الدلال من حلب، إذ "درس قليلاً فن التصوير، فأصاب شيئاً منه" (51). وكذلك الشاعر التونسي سعيد أبو بكر، الذي كان هاوياً للتصوير والتصوير الفوتوغرافي... وهو ما يقوم به أمين وخليل الخوري في "الجامعة"، إذ يشيران إلي عدد من أعلام بيروت، فيذكران في "مصوري الهيئة باليد": داود القرم، وفي "مصوري الهيئة بالشمس": بونفيس وديماس، وفي "كتبة الخطوط العربية": الشيخ ابراهيم البربير والمعلم علام وغيرهم كما يذكر محمد بهجة الأثري، في: "أعلام العراق"، في ختام كتابه، أن له كتابين معدين للطبع، أحدهما هو: "أشهر مشاهير العراق"، بما فيهم "مشاهير الفنون الجميلة" (حسب لفظه) منذ القرن الثالث عشر (الهجري، أي التاسع عشر الميلادي)، وكان قد نشر علي ما يذكر نماذج منه في مجلة "لغة العرب" وفي "المعرض" في بغداد؛ كما يذكر أن قائمة المشاهير ستشمل "أهل الفنون الجميلة، أعني الخطاطين والرسامين"، وهم: سفيان (أفندي)، وعبد الوهاب نيازي، وخلفه نعمان الذكائي، وعبد القادر الرسام، ومحمود الثنائي، وبكر (أفندي)، وميرزا موسي، وميرزا هادي، وعلي صابر" (71).
عدوي الفنون التشكيلية، التي أصابت أعداداً من الشعراء، لم تكن بغريبة بعد أن سارع النقاد كما الشعراء إلي نسبة الشعر إلي "الفنون الجميلة"، ما يجد صداه في كثير من الكتب والمقالات، سواء عند شعراء المهجر، أو عند شعراء رومانسيين مثل أبي القاسم الشابي، أو عند شعراء مجدِّدين مثل معروف الرصافي الذي يقول بأن الرسم والنحت والموسيقي "تشارك الشعر في كونها منعكَساً لصور الطبيعة، ولكن لا بواسطة الألفاظ، بل بواسطة الخطوط والألوان في الرسم، والأشكال البارزة في النحت والألحان والأنغام في الموسيقي". ويتابع القول: "فقولُنا بواسطة الألفاظ قيدٌ احترازي يخرج به قسماء الشعر من الفنون الجميلة المسماة عند القوم بالآداب الرفيعة كالرسم والنحت والموسيقي" .
الفن مدونة زمنية
يفيد عبد الرحمن (بك) سامي في كتابه: "القول الحق في بيروت ودمشق"، إثر رحلته في العقد الأول من القرن العشرين، أن أهل دمشق كانوا "يُعلِّقون علي الجدران المرايا، أو القطع الجميلة الخط، أو الصور إن كانوا غير مسلمين" وهو ما يقوله الفنان العراقي عطا صبري واصفاً حال بغداد في مطالع القرن العشرين، إثر احتكاك أهلها بالإنكليز: "تولدت لدي الأسر عادةُ تعليق صور الأجداد علي الجدران، وهي معمولة بطريقة التصوير الفوتوغرافي"، ثم تطورَ الأمر إلي تحميل غرف الاستقبال "بالصور المنقولة من مناظر طبيعية أوروبية علي العموم" وهو ما يدل في حد ذاته إلي صلة أكثر من تكوينية بين الصورة الفوتوغرافية واللوحة، حتي إن الدارس لا يقوي علي التمييز بينهما في فحصه لصور مطبوعة بالأسود والأبيض في عدد من الإصدارات العربية. وقد يكون التشابه أوسع في عدد من الأمثلة إذ يشير إلي "جلسة" متشابهة للتصوير بين هذا وذاك؛ أو قد يعمد التشكيلي أحياناً إلي صنع شبه للصورة الفوتوغرافية في لوحة زيتية، كما في أعمال فنانين فلسطينيين عديدين، مثل: داوود زلاطيمو وزلفة السعدي وغيرهما؛ وهو ما فعله بدوره العراقي عبد القادر الرسام وغيره.
ذلك أن من يتابع اللوحات الوجهية الأولي (المتوافرة)، ويفحصها، يتحقق من أن الفنانين العرب الأوائل تقيدوا بمعني من المعاني بموجبات ومقتضيات الصورة السلطانية "المأذونة"، أي بما يأذن به المصوَّر ويسمح به. ويمكن الترجيح أن أعداداً ممن يَظهرون فوق أقمشة اللوحات هم الذين طلبوا ذلك، واستدعوا الفنان إلي دورهم، وربما طلبوا منه هذه الجلسة أو تلك. وقد يكون الوقوف عند أعمال المحترِف العربي الأول في التصوير الزيتي، وهو اللبناني داوود القرم ، مناسباً لملاحظة التشابه بين بناء الصورتين، حيث لا تعدو اللوحة الوجهية أن تكون شبهاً للصورة الفوتوغرافية (21). وهي صورُ الأعيان، بمن فيهم زوجاتهم أحياناً، من دون أن تفارق صورتهم الماثلة فوق الحامل ما يكون عليه جلوسهم أمام آلة التصوير الفوتوغرافي: صورة وجهية ووجاهية، مثل صورة جواز السفر (كما يُقال اليوم)، ولكنها مزينة بعلامات القوة أو الجمال (من حلي ونياشين وغيرها)، والمكانة في جميع الأحوال. هكذا تحدثتُ في أحد كتبي عن اللوحات الوجهية العربية الأولي عند فنانين مثل: القرم المذكور، واللبنانيين الآخرين حبيب سرور وخليل صليبي، والتونسي أحمد عصمان، والمصري أحمد صبري وغيرهم، واجداً في أعمالهم ما أسميته: "سجل نفوس" لعدد من الأعيان (22). ولا يلبث الدارس المدقق أن يلحظ تحولاً في عمل صبري، حيث تتنوع الجلسات، وتصبح أكثر "صالونية" ، إذا جاز القول، وهو "مجتمع الهوانم والأفندية والأغاوات، مجتمع الصالونات والندوات والزيارات الأسبوعية"، حسب الناقد عينه.
هذا ما كان علي فنان شاب، مثل مصطفي فروخ، أن يجرِّبه ويمارسه في بيروت، إذ يَطلب منه (علي ما يَذكر في مذكراته) عددٌ من الأعيان المحليين، من طوائف مختلفة، تصويرَ هيئاتهم. هذا كان يتعين في أعمال وجهية، وأخري "علي طولها" (أي لكامل الجسم)، وفق لفظه، مشدداً علي أنه مارس "تصوير هيئة الأشخاص لأنها هي التي تُثمر في بيئتنا".
هذا ما يتذمر منه فنانٌ طالبٌ للتجديد، مثل العراقي جواد سليم، إذ يقول في محاضرة شهيرة له في بغداد: "ترفع رأسك للجدران، ماذا تري؟ إن لم تكن الجدران عارية، فهي مُحلاّة بصورة كبيرة للجد. صورة أكبر لرب العائلة في شبابه. صورُ الأولاد في إطارات جميلة. صورُ الأحفاد... صورٌ كثيرة. هذا يكفي".
أخلص إلي القول: لم ينقطع "تحريم التصوير" تماماً في عدد من المجتمعات العربية، إلا أنه عرف حتي في أنظمة متشددة منها تكييفاً له بما يوافق احتياجات الحاكم، ولا سيما صورته الرسمية. فدول عربية عديدة رفعت فوق أوراقها المالية صورة قادتها، من ملوك ورؤساء، من دون مناقشة تذكر، بخلاف الجدل القديم الذي قضي في الخلافة الأموية إلي منع ما كان معمولاً به في العقود الإسلامية الأولي، وهو إباحة ظهور صورة الخليفة فوق القطع النقدية.
هكذا أمكن القول إنه انبثق الوجه الفردي، الاجتماعي، التاريخي، وإن المأذون فقط، سواء للسلطان أو للأعيان، بعد عهود وعهود من الصور الموهومة-المتخيلة. وهو ظهور ربط الفن بالزمن، بالمكانة، ما يعين التصوير المدني بالتالي، بعد عهد طويل من التصوير الديني. وهو ما عاشته أوروبا، إذ أقامت لفن "البورتريه"، ثم لفن "الموديل"، كياناً تصويريا لا يلبث أن يتسع ويتعدد في أنواعه وأساليبهً. كما أن هذا كله فتح كوة وإن صغيرة في بوابة التصوير العربي الحديث، وفي الأبنية التمثيلية للقيم والكائن.
الهوامش
1 . Gérard de Nerval : uvres complètes, T 2, Gallimard, Paris, 4891 .
2 . عمر الإسكندري وسليم حسن : "تاريخ مصر من الفتح العثماني إلي قبيل الوقت الحاضر"، راجعه: الكبتن أ. ج. سفدج، من دون ذكر سنة الطبع، ولا مكان الطبع: نسخة مصورة، مكتبة مدبولي، القاهرة، 0991.
3 . حلَّ في جبل لبنان بتدبير من الرهبانية اليسوعية، وعملَ علي مدي أربعين سنة في التصوير في لبنان، وأقام مَرسماً له في بيروت، ونفذ العديد من "الطلبيات" الفنية، كتصوير لوحات دينية في كنائس، أو بعض وجوه الأعيان وغيرها.
4 . "ذكري البطل الفاتح ابراهيم باشا، 4881-8491"، من إعداد: الجمعية الملكية للدراسات التاريخية، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1948.
5 . عدتُ إليها منشورة في أربعة مجلدات، تحت عنوان: "المحفوظات الملكية المصرية"، قام بجمعها وتحقيقها: أسد رستم، وصدرت عن منشورات المكتبة البولسية، مجلد 2، ص 831-931
6 . Edmond Doutté : En tribu, Comité du Maroc, Paris, 5091, p 66.
7 . هذا ما يمكن الاطلاع عليه في مقالة: لويس صابونجي: "تقدم الصنايع في بيروت"، مجلة "النحلة"، بيروت، العدد 61، 9781؛ كما يمكن العودة إلي: جرجس طنوس عون: "الرد المكنون في الصنايع والفنون"، استانبول، مطبعة الجوائب، 3881.
كما يَذكر عبد الرحمن (بك) سامي : جرجي (أفندي) صابنجي، "المصور المشهور"، في عداد المتميزين من صناع بيروت: عبد الرحمن (بك) سامي : "القول الحق في بيروت ودمشق"، دار الرائد العربي، بيروت، ص 82.
8 . يمكن العودة إلي: محمد المنوني : "مواقف مغربية وأعمال في مبادرات المرحلة الأولي بعد الحماية"، مجلة "الموقف"، عدد 4، دجنبر-كانون الثاني-يناير 7791، 046
9 . ترد أخباره في: فريد الزاهي : "العين والمرآة: الصورة والحداثة البصرية"، منشورات وزارة الثقافة، الرباط، 5002، ص 57
01 . كتاب زكي فهمي : "صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر من عهد ساكن الجنان محمد علي باشا الكبير، متوجاً برسم صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر والسودان..."، عدت إليه في طبعة جديدة: مكتبة مدبولي، القاهرة، 5991
11 . فيليب دو طرازي : »تاريخ الصحافة العربية« (مجلدان)، بيروت، المطبعة الأدبية، 3191
21 . عبد الرحمن الرافعي : "عصر اسماعيل"، القاهرة، 2391، صص 892-992
31 . أمين الريحاني : "النقد الأدبي: أدب وفن"، دار الجيل، بيروت، طبعة سادسة، 9891.
41 . ميخائيل نعيمة : "همس الجفون"، مكتبة صادر، بيروت، 3491.
51 . قسطاكي الحمصي : "أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر"، حلب، المطبعة المارونية، 5291، ص 21
61 . عدتُ إلي الكتاب في : هيام جورج ملاط : "قصة أول دليل مطبوع في العالم العربي: دليل بيروت لعام 8881"، جريدة "النهار"، بيروت، 71 أيلول-سبتمبر 9002
71 . محمد بهجة الأثري : »أعلام العراق«، المطبعة السلفية، القاهرة، 5431 ه (6291)، صص 472-482
ووجب التنبيه إلي أن أحد المذكورِين، عبد القادر الرسام، يُعدُّ، حسب المعلومات الفنية المتوافرة، "أولَ" المصورين التشكيليين العراقيين؛ وكان قد مارسَه بعد خروجه من الجيش العثماني، وبعد تعلُّمه، في إعداد الضباط العثمانيين، علي بعض تقنيات الرسم. وهي حال أكثر من ضابط (عثماني) عراقي في أعداد المصورين العراقيين الأوائل.
81 . معروف الرصافي : "الشعر"، في: الجزء الثالث، المجلد الأول، مجلة "الناشئة"، بغداد، منشوراً في "سحر الشعر" لرفائيل بطي، المطبعة الرحمانية، 2291، كما ورد في: "نظرية الشعر: 3 مرحلة الإحياء والديوان"، القسم الأول: المقالات، تحرير وتقديم: محمد كامل الخطيب، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 7991، ص 923
يمكن العودة المزيدة لدرس هذا الجانب من اندراج فن الشعر في نظام "الفنون الجميلة"، في كتاب شربل داغر : "الشعر العربي الحديث : القصيدة العصرية"، منتدي المعارف، بيروت، 2102، صص 222-722
19 . مجلة "المثقف"، عدد 72، تموز-يوليو 4591، ورد في: شاكر حسن آل سعيد: "فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق"، الجزء الأول، دائرة الشؤون الثقافية والنشر، بغداد، 3891، ص 66
02 . هذا ما تابعَه بالدرس كمال بلاطة في أعمال عدد من الفنانين الفلسطينيين في كتاب: "استحضار المكان: دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر"، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 0002.
12 . نادين ح. محاسب : "داوود القرم : ولادة فن الرسم المحترِف في لبنان"، علي نفقة المؤلفة، من دون ذكر مكان الطبع، 8991
22 . شربل داغر : "العين واللوحة: المحترفات العربية"، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، 6002، ص 761
32 . أطلقَ الفنان والناقد المصري حسين بيكار علي أعمال هذا الفنان صفة: "فن الصالونات"، في الكتيب الفني: "أحمد صبري"، في سلسلة "وصف مصر المعاصرة من خلال الفنون التشكيلية"، الهيئة العامة للاستعمالات، القاهرة، دون تاريخ، ص 02
42 . مصطفي فروخ : "طريقي إلي الفن"، مؤسسة نوفل، بيروت، 6891، ص 54
52 . ورد في : جبرا ابراهيم جبرا : "جواد سليم ونصب الحرية"، وزارة الإعلام، مديرية الثقافة العامة، بغداد، 4791، ص 391-491


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.