عبد الرازق يرفع الجلسة العامة لمجلس الشيوخ    صحتك تهمنا .. حملة توعية ب جامعة عين شمس    تنظيم ندوة عن أحكام قانون العمل ب مطاحن الأصدقاء في أبنوب    أهالي قرية النقب بطابا يوجهون الشكر للرئيس السيسي لتلبية مطالبهم    دول الاتحاد الأوروبي تتبنى قواعد جديدة للديون وعحز الميزانيات    وزير النقل يبحث إنشاء مصنعين في برج العرب بالإسكندرية مع ألستوم الفرنسية    حصيلة شهداء حرب غزة ترتفع إلى 34 ألفا و488.. وبدء انتشال الجثامين في الشمال    حصيلة مبدئية.. مق.تل 42 شخصا داخل كينيا في انهيار سد بسبب الأمطار    جولة حاسمة للصعود للممتاز.. بتروجت 1 - 0 وادي دجلة.. غزل المحلة 1 - 1 لافيينا    محمد مصيلحي ليلا كورة: وقف مستحقات اللاعبين لحين تحسين النتائج    كفر الشيخ.. تحرير 16 محضرا تموينيا بالرياض    تأجيل محاكمة المتهمين في حادث قطار طوخ إلى شهر يونيو للمرافعة    أخبار الفن.. أول ظهور ل أحمد السعدني بعد وفاة والده.. ممثلة لبنانية شهيرة ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان    خالد جلال يعقد اجتماعا لمناقشة خطة الموسم الجديد للبيت الفني للمسرح    دينا الشربيني ضيفة كلمة أخيرة غدًا    النشرة الدينية .. أفضل طريقة لعلاج الكسل عن الصلاة .. "خريجي الأزهر" و"مؤسسة أبو العينين" تكرمان الفائزين في المسابقة القرآنية للوافدين    أفضل طريقة لعلاج الكسل عن الصلاة.. سهلة وبسيطة    وزير الصحة يناقش مع نظيرته القطرية دعم الأشقاء الفلسطينيين وفرص الاستثمار في المجال الصحي    المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل المرحلة الأخيرة    مقترح برلماني بدعم كليات الذكاء الاصطناعي بالجامعات الحكومية -تفاصيل    وزير المالية: نتطلع لقيام بنك ستاندرد تشارترد بجذب المزيد من الاستثمارات إلى مصر    بعد أنباء عن ارتباطها ومصطفى شعبان.. ما لا تعرفه عن هدى الناظر    إيران: وفد كوري شمالي يزور طهران لحضور معرض تجاري    باركود وتعليمات جديدة.. أسيوط تستعد لامتحانات نهاية العام    وزير التجارة : خطة لزيادة صادرات قطاع الرخام والجرانيت إلى مليار دولار سنوياً    "البحوث الإسلامية" يطلق حملة "فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا" بمناسبة عيد العمال    مقترح برلماني بدعم كليات الذكاء الاصطناعي بالجامعات الحكومية    الصين فى طريقها لاستضافة السوبر السعودى    عضو مجلس الزمالك يعلق على إخفاق ألعاب الصالات    رئيس الوزراء الإسباني يعلن الاستمرار في منصبه    تجليات الفرح والتراث: مظاهر الاحتفال بعيد شم النسيم 2024 في مصر    أمير الكويت يزور مصر غدًا.. والغانم: العلاقات بين البلدين نموذج يحتذي به    شروط التقديم في رياض الأطفال بالمدارس المصرية اليابانية والأوراق المطلوبة (السن شرط أساسي)    حكم رادع ضد المتهم بتزوير المستندات الرسمية في الشرابية    المشدد 5 سنوات والعزل من الوظيفة لرئيس حي السلام ومهندس بتهمة تلقي «رشوة»    «للمناسبات والاحتفالات».. طريقة عمل كيكة الكوكيز بالشوكولاتة (فيديو)    بث مباشر.. مؤتمر صحفي ل السيسي ورئيس مجلس رئاسة البوسنة والهِرسِك    عامر حسين: الكأس سيقام بنظامه المعتاد.. ولم يتم قبول فكرة "القرعة الموجهة"    إزالة 22 حالة تعديات على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة بالشرقية    «القومي لثقافة الطفل» يقيم حفل توزيع جوائز مسابقة رواية اليافعين    «التضامن»: دعم مادي وتوفير فرص عمل لذوي الاحتياجات من ضعاف السمع    بشرى سارة لمرضى سرطان الكبد.. «الصحة» تعلن توافر علاجات جديدة الفترة المقبلة    مركز تدريب "الطاقة الذرية" يتسلم شهادة الأيزو ISO 2100: 2018    "سنوضح للرأي العام".. رئيس الزمالك يخرج عن صمته بعد الصعود لنهائي الكونفدرالية    السيسي عن دعوته لزيارة البوسنة والهرسك: سألبي الدعوة في أقرب وقت    عواد: كنت أمر بفترة من التشويش لعدم تحديد مستقبلي.. وأولويتي هي الزمالك    515 دار نشر تشارك في معرض الدوحة الدولى للكتاب 33    الأنبا بشارة يشارك في صلاة ليلة الاثنين من البصخة المقدسة بكنيسة أم الرحمة الإلهية بمنهري    إصابة عامل بطلق ناري في قنا.. وتكثيف أمني لكشف ملابسات الواقعة    بالاسماء ..مصرع شخص وإصابة 16 آخرين في حادث تصادم بالمنيا    أسوشيتد برس: وفد إسرائيلي يصل إلى مصر قريبا لإجراء مفاوضات مع حماس    إصابة 3 أطفال في حادث انقلاب تروسيكل بأسيوط    فضل الدعاء وأدعية مستحبة بعد صلاة الفجر    لهذا السبب.. ريال مدريد يتخلى عن نجم الفريق    عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الاثنين 29-4-2024 بالصاغة بعد الانخفاض    "السكر والكلى".. من هم المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالجلطات؟    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التراث والاسطورة في أعمال القاص "حشمت يوسف"
كتاب القصة في الأقصر أهتموا بالأسطورة لكونها عقيدة الجماعة

تقف أعمال حشمت يوسف القصصية متميزة في تصويرها لعالم الأقصر مخنوقا بما يحيط به من تراث ومعتقدات لا يستطيع التخلص منها وتمثل تفسيرا لمعاناة الإنسان في مجتمعها.
لم يكن حشمت يوسف في تصويره لهذا العالم في قصصه فريدا، ولكنه كان ككثير من القصاص أبناء جيله في الأقصر: يحيي الطاهر عبد الله وبهاء طاهر وسيد مسعود وحسين خليفة عاشوا هم الإنسان وأزمة الوعي في مجتمع الأقصر. فالقبلية تحاصر الحياة ونزعات الثأر لا تهدأ، عبر عنها بهاء طاهر في رواية »خالتي صفية والدير« كما قدمها حسين خليفة في قصته »الحد الفاصل« صور فيها جليلة المرأة التي استطاعت أن تواجه ركابي قاتل زوجها عثمان، وقد عاشت تدبر للثأر منه بنفسها وهي لا تملك قوة ولا سلاحا لتقتحم عليه أرضه وبيته، فاستطاعت أن تبعد عنه كلاب حراسته، وواجهته وهو مستلق علي دكة في أرضه وأمام بيته، »وبخفة قط وثبت علي بندقيته وسحبتها من تحت رأسه وعندما فتح عينيه وجد الماسورتين مغروزتين في صدره«، نظر إليها وقد انهارت أحشاؤه وهو ينتظر أن تطلق عليه الرصاص غير أنها نظرت إليه نظرة فهم مغزاها وبصقت علي وجهه، ورمت البندقية علي البصقة ثم ذابت كما حضرت بالليل. رفع ركابي البندقية ليصوبها نحوها فوجد البندقية ملتصقة مع البصقة، لسعته البصقة الملتصقة علي وجهه كلسعة ماء النار. كانت بصقة المرأة أقوي من طلقة الرصاص فماذا يفيده أن يقتلها وقد قتلته في أرضه وأمام بيته وحوله كلابه عاجزة مشغولة بأكل جيفة نتنة، فما كان منه إلا أن أطلق العيار الناري علي صدره، واستيقظ النجع علي صراخها وزغاريدها معا، فقد ّان الأوان أن تقبل العزاء في زوجها (2).
العنف بين يحيي وحشمت
وفي قصة الطوق والإسورة ليحيي الطاهر عبد الله.. كان العنف والقتل صورة واضحة في عالم الكرنك، وفي مجموعة »الطردة« لحشمت يوسف أكثر من قصة تصور الثأر وحدته بطريقة ساخرة قاسية ترسم قصة »زهور الدم« صاحب الثأر يقيم وسط السكون وظلال الأشباح يتذكر مقتل أبيه وهو طفل، يتذكر جسده السابح في وحل الأرض وبحر الدم. الحزن الدائم يلف أحلام الطفل وتلعب الام دورها في إرضاعه الحقد الأبدي وحب الثأر. تنقل القصة طقوس الموت بالثأر فالقتل في ريف الاقصر وربما في جنوب مصر لا يكون ثأرا إلا إذا ضرب المقتول بالحديد المسنون، فبعد أن يضرب بالنار يهوي القاتل علي رأس المقتول ويمسح ساطوره في ثيابه. وهناك لا تتوقف حركة النار فهي دائرة يدخل منها القاتل عالما جديدا. يصبح بعدها هو المطلوب للثأر،فمن يقوم بدور القاتل عليه أن ينتظر ليكون المقتول. ولا يهم ما يحدث، فقد محا عار السنين وسيعود القاتل تكلله زهور الدم إلي أزمنة الماضي وثكلي المستقبل لتشرق شمس حمراء بلون الدم«(3).
لقد صبغت الشمس بلون الدم وجسد القتيل ينمو عليها فطر عند الفم يمتد ليغطي دم المقتول. والفطر طوفان جارف يمتد في كل مكان يكتسح اَلام الرجال. ولوجود هذا القتيل تعيش القرية حلما مرعبا فلابد أن تتكرر قصة هذا القتيل ولابد أن ينمو الفطر من دم القتيل لتشرق الشمس ثانية حمراء بلون الدم وتنمو زهور الدم في القرية. ولقسوة الإحساس في القرية في انتظار مقتول جديد وقاتل هو نفسه سيكون المقتول الجديد. يأخذ حشمت يوسف في السخرية وتصوير أحاسيس الناس حتي يجدوا قتيلا لا يعلن عن قاتله. وتزداد سخريته سوة في قصة ز الورطةس حيث يسري خبر عن قتيل بحري البلد يتمدد تحت سنطة الشيخ »خير«. ينزل الخبر علي العمدة حمد كالصاعقة.. تدور السماء والأرض وتغيب الوجوه فالدنيا خرم إبرة. لا شمس ولا قمر.. لا ليل ولا نهار.. جبل أسود من الهم يحط علي رأسه.... يجري العمدة في بحر يشده إلي القاع يسقط علي الأرض.. يجري ويسقط.. المصيبة جبل علي رأسه يدفعه إلي الغرق.. لو مات في هذه اللحظة لرتاح من اللي جاي / الطوفان يتدفق علي سنطة الشيخ خير.
السخرية من القانون!
يسقط العمدة إلي جوار الجثة وبقايا عروش الجلبان تلتف حول ساقيه، الناس دوائر كبيرة حوله. ومع ذلك لم يجرؤ أحد أن ينظر إلي الجثة... رأس القتيل ناحية الغرب وناحية الشرق مدة الساق الملفوفة في طرف الجلابية. لم يدرك العمدة إن كان للقتيل ساق واحده أم ساقان فالسنطة هي الحد الفاصل بين زمام قريته وزمام قرية العمدة دياب... فالقتيل ممدد علي حدود القريتين، رأسه داخل حدود قرية العمدة دياب، وباقي الجسد علي حدود قريته. لو تزحزح الجسد خطوة أصبح داخل زمام قرية العمدة دياب فكر في نقل الجثة بجوار الرأس الملفوف ولا سيما أنها في الظل ولكن الناس ذكروه أن هذه مسئولية لو عرفت النيابة نقل الجثة من مكانها ولكن العمدة تشجع ولعن النيابة والقانون والعمدية. وصرخ أن هذه الجثة ليست في زمام بلده. فلو بلغ أن القتيل في زمام قريته فإنه لن يسلم من الحكومة وعسكر الهجانة،سيتحمل أعباء زيارتهم لقريته شهرا كاملا مسئولية إطعامهم وإطعام جمالهم وتحمل أخلاقهم الشرسة. وضرب الكرابيج السوداني للبلد وغلاسة المخبرين. يتحرون عن القاتل ويفرضون الإتاوات.. مرتع أكل وشرب وسجاير وشاي. تحريات تظلم ناس وتبرئ ناس.. هم، سببه الأول جبن عمدة القرية المجاور حمد الملعون. ومن حق العمدة حمد أن يتحمل مسئولية القتيل وتوقف العمدتان بجوار الجثة، القدم ملفوفة والجثة كذلك الرأس ملقاة منفصلة ملفوفة، ولا أحد يجرؤ علي النظر إليها، يتردد العمدة، يتقدم فلا مفر من المواجهة، نمل يصعد في جسده حتي أطراف شعره، يتحسس الجسد فيجده صلبا لا يشعر بليونة اللحم الآدمي. ويتشجع فيلمس الأصابع فيجدها لا تغوص في اللحم، شئ صلب تسمرت عليه الأصابع. يقلب الجسد علي ظهره يضغط الأصابع يحس بصلابة أكثر.. لا ملامح للقتيل لا وجه وإنما عمامة كبيرة لفت الملامح في لحاء فرع سنط والجسد باقي فرع السنط، أكمام الجلباب الذراعان جريدة نخيل ألبست أكمام الجلباب إنسابت علي باقي الفرع ( ص19 22)
أرادت هذه القصة أن توضح كيف يثير الثأر الفزع كما انها أخذت تسخر من السلطة والقرية ومن القانون والنيابة والحكومة... فالثأر لن توقفه نيابة وحكومة وقوة عمدة خائف أن ينظر إلي جثة ميت. فالقصة تكشف السخرية من عالم السلطة في مواجهة قسوة الثأر. حتي لو انتهي الأمر في أن تقوم الجماعة برسم تمثال لجثة تختفي داخل الجلباب ولكن الذي لا يختفي هو الذعر مما يمكن أن يحدثه مقتول عند السلطة وعند الناس.
لقد تحول هذا الأسي الذي يعيشه الناس إلي أسي للسلطة التي يسخر منها الناس ويصنعون تمثال جثة ليتحول الحدث إلي نكتة تدعو إلي الضحك وشر البلية ما يضحك.
وتكتمل حلقة الثأر في قصة »لوجه الله« بسخرية من عالم الثأر وطالبيه وصانع يهيرويها حشمت يوسف بخفة دم ظهرت في معظم قصصه. وفي هذه القصة تظهر المفارقات واضحة تروي بحس ساخر فتكون أقرب إلي قصة نكتة تمثل حكاية من الحكايات التي يرويها أهل الريف في الأقصر تحمل مفارقتها الضحك والدموع. وطالبة الثأر في القصة امرأة شابة فقدت زوجها الذي تحبه وتحترم رجولته. إنها مازالت تذكر يوم دخلتها في يوم الثلاثاء هذه الليلة طلقات النار تسكت ويكف الرش عن الاصطدام بخوص النخل وكل النجع في سكون تام ينتظر لحظة خروج »حساني أبو موسي« يلوح بالمنديل الأبيض عليه بقعة الدم ويعلن أن العروسة صانت شرف أبيها حتي تعود للبنادق طلقاتها. في تلك الليلة فاجأها دم الحيض ليلة عرسها. وكان زوجها حساني رجلا يحمل المسئولية علي عاتقه ولا يهمه إن كانت عروسه حافظت علي شرفها أم لا ولكن ما يهمه أن يثبت للناس أنه رجل عاص المنديل الأبيض بدم الحيض ليخرج علي الناس به وعليه بقع الدم.
سخرية المجتمع
هذا الزوج الذي يحمل كل الصفات التي يمكن أن تحبها المرأة في الرجل يقتل. وليس لها ابن ولا أخ يمكن أن يثأر لها فكان عليها أن تذهب لتؤجر قاتلا مأجوراً يقوم بأخذ ثأرها. ففي المجتمع القروي في كثير من قري صعيد مصر هناك قتلة يقومون بدورهم في الثأر للضعاف والعجزة غير القادرين علي القيام بهذا العمل بأنفسهم بثمن. هذه سخرية لم يصنعها المؤلف وإنما صنعها المجتمع القروي وغير القروي.
ذهبت المرأة إلي القاتل المأجور، وقد عرفت مكان مسكنه في حي العبابدة وهو معروف هناك واسمه يجلب الرعب لكل من يسمع عنه. لفت المرأة جسدها النحيل بقناع الصوف الأحمر المغزول من صوف الغنم فمنذ أن رحلت روح زوجها إلي السماء وهي لا تلبس إلا صوف الغنم الخشن وستظل تلبسه حتي يسكت دمه الذي يصرخ طالباً لثأره، وتسمعه في منامها يطرق الباب ويناديها زإنت نمت علي تاري ز وتخشي أن تفتح الباب وتواجهه وقد طال الزمن خمس سنوات ودمه يتعذب في الأرض.
خرجت من بيتها بالليل خفية والنجع كله في نوم عميق. فتخشي أن يراها أحد حتي لا ينتقل الخبر إلي قاتل زوجها فإنها ذاهبة إلي نجع العبابدة الذي يسكن فيه القاتل المأجور. كل نجع العبابدة يتجنب الخوض في سيرته ويتحاشون مقابلته ولو سمح لهم أن يلوكونه بألسنتهم لما ظل لفترة طويلة أهل ثقة لكل من يقصده. طرقت الباب علي الرجل، تركت فتحة صغيرة من القناع حتي تري بها من سيفتح الباب، فتح الرجل الباب نصف فتحه وبان منها طرف ماسورة بندقية أدخلها البيت ثم أعاد غلق الباب وجلس علي دكة خالية من أي فرش، وأسند البندقية إلي جواره وسألها عن طلباتها فطلبت منه مباشرة أن يقتل أمين الحرك وبسرعة، عرفها فهي زوجة »حساني أبوموسي« فسألها معاكي كامس ؟ فأخبرته: أن معها خمسمائة جنيه يقبضها بعد يوم السوق، علي أن يقتل أمين الحرك قبل نهاية الشهر العربي واختارت نهاية الشهر العربي حتي لا يغيب القمر قبل أن يستريح دم حساني في الأرض. وأمرها أن تحضر النقود قبل يوم الأربعاء يوم السوق وقال بإصرار لن يمر يوم الجمعة حتي يكون دم زوجك قد استقر في أرضه.
خرجت من دارها وهي تتمني أن يراها جميع الناس وأن يعرف أمين الحرك أنها تنوي قتله وأنها ذاهبة إلي نجع العبابدة لتكري علي قتله. كانت تتمني أن تري لحظة رعب في عينيه ولكن لم تشاهده ولم تشاهد أي أحد. لقد مر عليها يوم الثلاثاء، ولقد نذرت أول وليد لجموستها ثمناً لثأرها وكان المولود ذكرا، تركته سنتين تسهر عليه وتعلفه بالكسب والردة، وليلة الثلاثاء وضعتها كلها أمامه ليأكلها، كانت تريده أن يزيد النصف حتي تبيعه بالمبلغ المطلوب إلا أنه في الصباح كان قد نفق من كثرة ما أكل، لذا كان عليها أن تذهب لمحترف القتل لتخبره بأنها لم تستطع أن توفي بما التزمت به من اتفاق.
وهنا تأخذ القصة مساراً آخر فخيبة أمل المرأة في أن تحصل علي النقود يمثل مأساتها المعذبة لها. وكان إحساسها حين ذهبت إليه مختلفاً في هذه المرة فقد كانت فاقدة الأمل ينتابها إحساس قاس بالعجز، تشعر به إزاء زوجها وحبيبها الذي يعيش قاتله حياً حراً طليقاً وحين دخلت علي الرجل منزله ووجدته قابعاً خلف الباب ولم يكن هذه المرة هو الأمل وإنما كان خيبة الأمل، وكانت المفارقة أن الرجل كان يخشي أن يكون الحرك مات ميتة طبيعية ولذا جاءت المرأة لتحله من الاتفاق. والغريب أن هذا القاتل يتكلم عن الحرام والحلال فالقصة ركزت علي السخرية في دائرة التناقض فالقاتل يقول لها حرام أن يموت الرجل علي فراشه ودم الرجل يضيع هدرا. وعندما عرف حقيقة إفلاسها تغير موقف الرجل فهو فيما يبدو لا يظن أنه يصنع الحرام وإنما هو محقق للقصاص. لم تقل القصة إن ارتكابه لجريمة القتل ليس عقاباً للقتيل فهو لم يقتل بريئاً...
ولما كان في نظر نفسه طالب عدل فقد تغاضي عن ثمن القتل وقرر أن يصنع شيئاً خيرا هذه المرة فهو بعد حمده لله يخبرها أنه قرر أن يقتل هذه المرة لوجه الله وقد ظهر أن المرأة قد صعبت عليه فأراد أن يحقق لها ما أرادت. فقال: لقد قتلت كثيراً بأجر ولم أقتل مرة واحدة »لوجه الله«.. ليكن اتكالك علي الله: إن شاء الله ص22 لقد اكتملت السخرية بموقف هذا القاتل الذي جعل من القتل ثواباً يأخذه عند الله لقد كرمت زوجة القتيل بأخذها لثأرها من قاتله لتكتمل السخرية.
الجبناء خارج الميدان
الموت والقتل موضوع كبير في قري الأقصر ما إن يفتح باب الثأر حتي يعجز الجميع عن غلقه ولكن هناك القتل الذي لا يصاحبه ثأر (لا دم ولا دية) القتل في لعبة الطردة التي تتم في ميدان العارف إنها لعبة الحياة والموت لا ثالث لهما. لا يلعبها إلا فارس قادر علي امتلاك فرس رماح كرار وفيها يتحدي الفارس صاحبه و إذا قبل كل منهما التحدي للآخر ينزلان الساحة طاردا ومطرودا كل علي صهوة جواده يمسك بيده قطعة من جريد النخيل في طول ذراع لا تنقص ولا تزيد دببت لتصبح رمحاً قاتلاً. يتقدم المطرود الطارد عشرين ذراعاً ينطلق المطرود ويسبق الريح يلهب الفرس حتي ينهب الأرض رغبا في كسب السباق وحبا في الحياة. الثواني بالنسبة له تعني الموت، لا مفر من الموت إلا أن يركض الفرس ويركض حتي نهاية الميدان محتفظا بمسافة العشرين ذراعا بين الطارد والمطرود وعلي الطارد أن يختصر المسافة حتي يطول المطرود ليرشق رمح الجريد في ظهره. وإذا استطاع المطرود أن يفلت من الطارد تتغير الأماكن ويصبح المطرود هو الطارد. لا يجري في الميدان إلا صاحب قلب شجاع وفرس رماح أما الجبناء فلا مكان لهم في الميدان.
ويحكي الراوي هنا عن رجلين يمثلان نماذج القرية. أحدهما هو أمين النص رسمته القصة رسما كاريكاتيريا فهو بسلوكه وشخصه مثير للضحك والسخرية يقتل الوقت بمطاردة الحشرات في جسمه وهو في هذا اليوم يصبح اسم أمين علي كل لسان، ويسير خبره في دروب القرية والنجوع البعيدة والقريبة ويختلف فيه، كل لسان يقولون الرجل ليس به مس من الشيطان يغويه علي نفسه ويقولون إنه أشجع الشجعان ويقولون إنه دياب بن غانم الذي سيقتل الزناني خليفة ويتفرق الخلق شيعاً واحزاباً.
الشخص الآخر هو صاحب الصهباء، وهي التي نسب إليها وهي الفرس التي يعتز بها، يمتطي صهوتها يستعرض ما بها من حسن وجمال فاقت في جمالها أجمل بنات الناس. مهرة رهوانة تلمع كمرآة في وهج الشمس سبيبها أطول من شعر جنات الحور،لا حمراء ولا بيضاء كفرسة دياب بن غانم الخضراء.
و ينقل القاصي عن راوي الخبر وشاهد الواقعة أن صاحب الصهباء قتل في الميدان من الفرسان عشرة، وما كان فرس ولا مهرة يناظر الصهباء في السرعة، كانت سباقة في جولة الطردة بفضلها صار لصاحبها سمعة حتي كف الناس عن اللعبة وأصبح كل فارس يخشي علي نفسه من صاحب الصهباء حتي فرسان القري والنجوع المجاورة ما كانوا يقبلون نزول الطردة.
مفارقات الحدث
والمفارقة التي صنعت للحدث في القصة أهمية هو التقاء أمين النص بصاحب الصهباء فإنه حين وقعت عينه عليه يلاعبها بلا تفكير أو تدبر هب واقفا واتجه إليه. وقف أمامه تحت رقبة الصهباء مباشرة وقبل أن يسأل الرجل فاجأه أمين النص بقوله: أتنازلني في ساحة الطردة؟ ولما كان طلبه غريبا إذ لا يعرف عنه أنه فارس أو أن له حصانا يدخل ميدان الطردة إلا أنه أعلن أنه سينزل الطردة بحماره. والمفارقة واضحة تماما أمين النص يتحدي بحماره فارسا مجربا فرسه مشهور وقبل صاحب الطردة التحدي.
هذا القبول منه إهانه له، فارس بفرسه يواجه رجلا يركب حماراً لا علاقة له ولا للحمار بالفروسية.
يحاول الراوي أن يوضح سبب قبوله للنزال وسبب دعوة أمين النص للمنازلة وقبول صاحب الصهباء للنزال أسباب يتناقلها الناس إذ يقولون إن صاحب الطردة يعشق زوجة أمين النص فقرر أن يموت دفاعاً عن شرفة، وبمعني آخر زيا قاتل يا مقتول ز وبذا يتهرب من الثأر وقتل الغيلة. إنه يقتل أمام سمع الناس وبصرهم وبشكل قانوني لا حساب فيه، وهناك رأي آخر يخص صاحب الصهباء فالناس تقول إنه عشق امرأة صاحب الصهباء وأن هناك مكيدة لقتل الرجل بالاتفاق مع المرأة، أي أن صاحب الصهباء أيضا يريد قتل الرجل علي مرأي من الناس دون أن يلام أو يحاسب علي ما يفعل. ومع كل ما يقال يكذب بعض الناس هذه الأخبار حتي لتبدو وكأن أمين النص يريد الانتحار ولكن إذا كذبت الأقاويل فما الذي يدفع صاحب الصهباء إلي قتل أمين النص،أشياء لا تفسرها القصة وإن كان يفهم من الأحداث أن هناك أشياء لم تذكر لذا كان التفسير المنطقي أنه مجنون. وكذب بعض الناس الخبر وظنوا أن النص سيغادر القرية قبل أذان العصر موعد بدء اللعبة، ولكن النص لم يغادر القرية وإنما حضر إلي الميدان في الموعد المحدد له. وتصوره القصة ميتا جاء ومعه جموع المشيعين محمولا علي حماره وسط صخب وضجيج وصراخ زوجته، تلطم خدها وصدرها، حاسرة الرأس ولا تعلم حسرتها أهي علي أمين النص أم علي حماره الذي سيصبح ضحية لحماقة النص وقد أخذت تشد الحمار بعيدا عن الميدان، وأشياع النص يدفعونها ويخلون سبيلها أمام النص وحماره، وبدأت لعبة الطردة فاستخدمت القصة الإمكانات السردية الفكاهية لتجعل من منظر الصراع بين أمين النص وصاحب الطردة حكاية مسلية، حتي الحمار عبرت القصة عن آلامه في النزال. بدأت الطردة بنزول. صاحب الصهباء مطرودا وأمين النص طاردا. الصهباء تلاعب الريح وحماره طيب القلب كان يتمني أن ينزل الطردة مع الصهباء لتراه جموع الناس في القرية، المفارقة واضحة بين أمين النص وصاحب الصهباء وبينها وبين الحمار،وكان أمين النص رجلا أيضا طيب القلب وصاحب الصهباء ذو قلب جاحد لا يعرف الرحمة. وانتهت الجولة الثانية. والحمار عاجز متلكأ في سيره وقد أدرك الحمار أن عليه ألا يذعن لأمر صاحبه. كان الحمار يعرف الموقف جيدا وكان يتصرف بمفرده، فصاحبه لا يعرف المأساة التي أقدم عليها، كانت القصة تكشف عن حماقة النص وحماقة عالمه فهو لم يناقش الأمر مع نفسه كما صنع الحمار لقد كان النص يلهب جسده بالضرب حتي يفلت برأسه. والحمار يقاوم رغبة صاحبه ويتحداه ولكن لا يسمع حوافر الصهباء، ولولا انشغاله بما ينهال عليه من ضرب لالتفت إلي الخلف ليحث الصهباء علي السير إلي جواره ويصل النص إلي منتصف الميدان، وقد أخذت المسافة تضيق و تقصر ويرتجف خلف الحمار وصاحبه يزيده ضربا، وجموع المتفرجين من أهل القرية يزدادون استثارة وتهدر تحث الحمار علي الركض والحمار عاجز فلا حول له ولا قوة وفي لمح البصر يرشق صاحب الصهباء رمح الجريدة في ظهر أمين فينكفئ علي رقبة حماره يسقط من هول المباغتة ويتعثر الحمار في صاحبه، يصير صاحبه عثرة ينكفئ عليه إلي جواره وقبل أن ينظر إلي الصهباء تعثرالجسدان، ويغوص الحافر في بطن الحمار الطيب القلب، تتكئ الصهباء بحافرها علي أمعائه فيميل برأسه ويتمدد بكامل جسده علي الأرض (ص18) لقد تحولت السخرية من أمين النص ومن صاحب الصهباء إلي سخرية من أهل القرية وكان الضحية هو الحمار المسكين الذي استطاع أن يكسب شفقة قراء القصة أما المشاهدين من أهل قريته فكان صراع الصهباء متعة لهم.
الثأر متعة والقتل متعة سواء أكان ثأرا مفروضا أم موتا بالرغبة في اللعب، هذا العنف المتوحش كان يمثل قوة ناقدة من القاص، فقد نقله بأمانة وأضاف إليه إحساسه بعالم قريته المشهورة بهذه القوة القاسية التي يصورها.
لم يكن القاص (حشمت يوسف) يكتب لمتعة الكتابة أو يكتب لمتعة القارئ وإنما كان يثير القارئ إلي رفض هذه التقاليد والأعراف الاجتماعية القاسية والمدمرة.
نقد الأسطورة
لم يتوقف قصاص الاقصرعند حدود التقاليد لنقدها وإنما امتدوا للأسطورة وعالمها فكان لهم مواقف مختلفة. فالأسطورة عالم متسع فهي ليست خيال وليست مرادفا للكذب والإيهام كما أنها ليست مقابلا للواقع فهي حقيقة لا يتطرق إليها الشك بالنسبة لمعتنقيها. ولقد حدد لويس سنبس علم الأساطير بأنه دراسة للدين البدائي أو شكل من أشكاله الأولي عندما كان حقيقة معيشة(4) وتصور البعض بأنها الأديان غير الكتابية كما رآها البعض بأن كل ما لا نؤمن به هو أسطورة غير أن علم الأساطير يجاوز ذلك كثيرا ليشمل أديان الإنسان القديم والحديث والمعاصر إنسان ما قبل عصر الكتابة وما بعده(5).
فالأسطورة عقيدة ودين متكامل يبني علي أسس ثلاثة. التكوين والوجود والمصير. فالتكوين يبني علي تكون الكون والقوة الغيبية الحاكمة فيه. والوجود هو الحياة التي تكونت بعد التكوين وفيها مقدرات الإنسان وكل ما في الوجود. أما المصير فهو الحياة بعد الموت ومصيرالإنسان.
ولقد اهتم كتاب القصة في الأقصر بالأسطورة باعتبارها عقيدة الجماعة وأخذوا منها مواقف متعددة تقبلها »بهاء طاهر« وركز علي طبيعة العلاقة بين المسيحيين والمسلمين وجعل للدير مكانا في قرية الكرنك والمنشاة التي يعيش فيها أهله. وكان للدير وضع أساسي في أحداث القصة. فكانت الدلالة الواضحة أنه تقبلها ولم يقم بنقدها أو رفضها.
ولمس حسين خليفه الأسطورة و عدها واقعا معيشا في قصصه فهو لم يتوقف عن ذكر أسماء أولياء الأقصر الشيخ أبو الحجاج والشيخ أبو القمصان.
وفي قصة »النمل والحائط« استخدم الاعتقاد الشائع في الأقصر باستخدام الحرز الذي اشتراه والده من مولد الشيخ أبو الحجاج لتكون حرزا يحمي البيت من دخول الثعابين وألصقها بالحائط المجاور لفتحة الباب والمكتوب عليها أسماء الله الحسني وتحتها رسم لخنجر حاد. وتحت الخنجر الحاد يرقد ثعبان مشلول بغير حراك.
كما انه استخدم الأسطورة فيم يمكن أن يخرج عنها ليدخل دائرة الفانتاستك في قصته »سبحان الله« بناها علي تيمة الحدث الأسطوري الذي يجعل الحياة تجئ علي يد الموت.
فالزوج الشاب الغني يموت عنينا لم يقرب زوجته ولكن ما إن يوسد التراب حتي يخرج الحفار من القبر صائحا فقد وجد رجولة الميت قد انتصبت وكان لابد من حل وقام الشيخ حسن بالحل وتمت عملية جماع بين الزوجة وزوجها الميت، وقد زينت وكأنها عروس ليلة زفافها (ص60). وأعادوه إلي القبر بعد أن تأكدوا من موته تماما فدفنوه وبعد تسعة أشهر بالكمال أنجبت ولدا أسموه جابر الميت. أما يحيي الطاهر عبد الله فقد كفر بالأسطورة تماما وفسرها معدا إياها كذبا انها مدمرة للإنسان لوعيه واقتصاده ووجوده. وفي قصة طاحونة الشيخ موسي فكر الخواجة نظير وبنصف عين فقط عثر علي مكنة طحين نصف عمر وبعدها جاءتة المتاعب، فإنه ما إن اكتمل البناء وجاءت المكنة حتي هاجت القرية. فإن هناك أسطورة تقول إن مكنة الطحين لكي تدور لابد أن يرمي فيها طفل. وطبيعي هاج الناس، حاول أن يقنعهم بأن المكنة يمكن أن تدور دون طفل يرمي فيها. ولكي يتغلب نظير علي هذه المشكلة ليس أمامه إلا الشيخ موسي الذي يعتقد الناس في ولايته وكان الشيخ يري أيضا ان المكنة لازمها عيل صغير وطبيعي يحتال نظير علي الشيخ موسي فهو يطلب منه البركة والمدد وأن يدخل الطاحونة وبذلك تنفك أسطورة الطفل الملقي في الطاحونة وتتحرك المكنة وجمهور من الناس يصرخ فرحا وتهمهم الشفاه بالخلاص ويتشعلق الخواجة نظير علي أكتاف الزفة ليعلق لافتة كبيرة بأعلي الحائط.
(.. طاحونة الشيخ موسي لصاحبها نظير وابنه مقيد ).
وفي قصة »الطوق الإسورة« تتداخل الأساطير فيها. والقصة مبنية علي مأساة حدثت بسبب الأسطورة، وعذابات »حزينة« بطلة القصة ومأساة أسرتها سببتها الأسطورة. افقدتها ابنتها ثم حفيدتها وانتهت بفقدان ابنها لعقله.
لقد كانت حزينة تركيبة ممزوجه بالأسطورة تحركها في كل حركة من حركات حياتها لذا وصفتها القصة »بالمخرفة تتطير من رؤية النعال مقلوبة ومن الريح لو حملت قشر الثوم ومن قدم تدوس كسرة خبز مرمية« (ص 307). وتقف أمام الغجرية مصدقة لها لتعطيها ثلاث بيضات من طعامها مع أنها سارقة الكحل من العين ولكنها تصدقها وتشعر أن لها القدرة علي قراءة البخت.
لقد غاب ابن حزينة في سفره السلطة في فلسطين. وكانت تريد له السلامة لذا لجأت للغجرية لتعرف منها أخباره، كما لجأت للشيخ يوسف سليم نقيب الشيخ موسي في جمع النذور وطلبت منه أن يعطي الشيخ موسي باكو معسل وأن يطلب منه الدعاء لمصطفي بالسلامة في بلاد الناس، إنه في اعتقادها واعتقاد الكثيرين من أهل الاقصر خصوصا أهل الكرنك بلدة يحيي الطاهر عبد الله أنه رجل مبروك »يغلق باب حجرته عليه بالنهار ويظن الجاهل انه بداخلها يجوس هناك بمكة المكرمه حيث قبر الرسول، فالشيخ لايحب العلن في العبادة.. فحتي وقتنا هذا لم يشاهده مخلوق يصلي، لكن الشيخ يصلي. ويصلي الجمعة بالذات في المسجد النبوي ومن يقول غير ذلك فهو جاهل بمقام الأولياء«.( ص311).
وحين اعترض زوجها المريض بخيت البشاري علي إعطاء يوسف سليم باكو دخان المعسل. فهو يعرف أنه سيأخذه و هو في أشد الحاجة إليه اعترضت حزينة كما اعترضت ابنتها فهيمه التي فكرت بأن الشيخ كله بركة فهو في مثل سنها خلع ثوبه ورماه في الماء فطفا الثوب وقعد الشيخ عليه وعبر النهر من الشرق إلي الغرب وعاد ولبس قفطانه ولبس ثوبه الذي لم يبل ص311.
لم يكن الشيخ موسي وحده الذي لجأت إليه حزينة ولكن عالم الأولياء هو عالمها المتسع التي تطلب منه البركة وترجوه أن يحل مشاكلها فحين تزوجت ابنتها ولم تنجب شكت في أن بنتا من بنات الإنس زارتها فعملت عملا لها مستعينة ببنات الجن وتم الفعل الشرير. ورأت حزينة أن الشيخ العليمي ساكن البر الغربي يستطيع رد الشر وأنه سيفك الحبال التي تربط رجولة زوجها فذهبت إليه فأعطاها قلب هدهد أبيض وزجاجة صغيرة بها سائل عكر وورقة طويت تسعة وتسعين طية. وبالطبع أعطت حزينة نقودها لها قطعتين من العملة النحاسية وهي في أشد الحاجة إليها ولم يبقي أمام حزينة إلا المعبد القديم وأسطورته.التي يعتقد فيها الكثير من أهل الكرنك لقد أرادت القصة أن تدمر حزينة وأسرتها بالأسطورة.
وذهبت حزينة بنفسها لتقابل عرابي حارس المعبد الذي طلب من ابنتها أن تتبعه فأدخلها حجرة الإله المصري القديم، ردت فهيمه الباب. وفي ظلام حجرة الإله تحرك شبح الإله الضخم الأسود العاري المكشوف العورة. حاولت فهيمه أن تطلق صرخة ولكنها فشلت فقد شدتها المفاجأة التي هزت بدنها وهي تراه يتحرك ويخطو نحوها وهنا تكون مأساة فهيمة أكبر من الفقر والعوز والحاجة فقد أنجبت بنتا لتعيش مأساة أمها فتكون هي نفسها مأساة.
لقد صنعت الأسطورة العذاب الذي قيد أبطال الرواية بقيد مثل طوق وإسورة.
تقف أعمال حشمت يوسف القصصية متميزة في تصويرها لعالم الأقصر مخنوقا بما يحيط به من تراث ومعتقدات لا يستطيع التخلص منها وتمثل تفسيرا لمعاناة الإنسان في مجتمعها.
لم يكن حشمت يوسف في تصويره لهذا العالم في قصصه فريدا، ولكنه كان ككثير من القصاص أبناء جيله في الأقصر: يحيي الطاهر عبد الله وبهاء طاهر وسيد مسعود وحسين خليفة عاشوا هم الإنسان وأزمة الوعي في مجتمع الأقصر. فالقبلية تحاصر الحياة ونزعات الثأر لا تهدأ، عبر عنها بهاء طاهر في رواية »خالتي صفية والدير« كما قدمها حسين خليفة في قصته »الحد الفاصل« صور فيها جليلة المرأة التي استطاعت أن تواجه ركابي قاتل زوجها عثمان، وقد عاشت تدبر للثأر منه بنفسها وهي لا تملك قوة ولا سلاحا لتقتحم عليه أرضه وبيته، فاستطاعت أن تبعد عنه كلاب حراسته، وواجهته وهو مستلق علي دكة في أرضه وأمام بيته، »وبخفة قط وثبت علي بندقيته وسحبتها من تحت رأسه وعندما فتح عينيه وجد الماسورتين مغروزتين في صدره«، نظر إليها وقد انهارت أحشاؤه وهو ينتظر أن تطلق عليه الرصاص غير أنها نظرت إليه نظرة فهم مغزاها وبصقت علي وجهه، ورمت البندقية علي البصقة ثم ذابت كما حضرت بالليل. رفع ركابي البندقية ليصوبها نحوها فوجد البندقية ملتصقة مع البصقة، لسعته البصقة الملتصقة علي وجهه كلسعة ماء النار. كانت بصقة المرأة أقوي من طلقة الرصاص فماذا يفيده أن يقتلها وقد قتلته في أرضه وأمام بيته وحوله كلابه عاجزة مشغولة بأكل جيفة نتنة، فما كان منه إلا أن أطلق العيار الناري علي صدره، واستيقظ النجع علي صراخها وزغاريدها معا، فقد ّان الأوان أن تقبل العزاء في زوجها (2).
العنف بين يحيي وحشمت
وفي قصة الطوق والإسورة ليحيي الطاهر عبد الله.. كان العنف والقتل صورة واضحة في عالم الكرنك، وفي مجموعة »الطردة« لحشمت يوسف أكثر من قصة تصور الثأر وحدته بطريقة ساخرة قاسية ترسم قصة »زهور الدم« صاحب الثأر يقيم وسط السكون وظلال الأشباح يتذكر مقتل أبيه وهو طفل، يتذكر جسده السابح في وحل الأرض وبحر الدم. الحزن الدائم يلف أحلام الطفل وتلعب الام دورها في إرضاعه الحقد الأبدي وحب الثأر. تنقل القصة طقوس الموت بالثأر فالقتل في ريف الاقصر وربما في جنوب مصر لا يكون ثأرا إلا إذا ضرب المقتول بالحديد المسنون، فبعد أن يضرب بالنار يهوي القاتل علي رأس المقتول ويمسح ساطوره في ثيابه. وهناك لا تتوقف حركة النار فهي دائرة يدخل منها القاتل عالما جديدا. يصبح بعدها هو المطلوب للثأر،فمن يقوم بدور القاتل عليه أن ينتظر ليكون المقتول. ولا يهم ما يحدث، فقد محا عار السنين وسيعود القاتل تكلله زهور الدم إلي أزمنة الماضي وثكلي المستقبل لتشرق شمس حمراء بلون الدم«(3).
لقد صبغت الشمس بلون الدم وجسد القتيل ينمو عليها فطر عند الفم يمتد ليغطي دم المقتول. والفطر طوفان جارف يمتد في كل مكان يكتسح اَلام الرجال. ولوجود هذا القتيل تعيش القرية حلما مرعبا فلابد أن تتكرر قصة هذا القتيل ولابد أن ينمو الفطر من دم القتيل لتشرق الشمس ثانية حمراء بلون الدم وتنمو زهور الدم في القرية. ولقسوة الإحساس في القرية في انتظار مقتول جديد وقاتل هو نفسه سيكون المقتول الجديد. يأخذ حشمت يوسف في السخرية وتصوير أحاسيس الناس حتي يجدوا قتيلا لا يعلن عن قاتله. وتزداد سخريته سوة في قصة ز الورطةس حيث يسري خبر عن قتيل بحري البلد يتمدد تحت سنطة الشيخ »خير«. ينزل الخبر علي العمدة حمد كالصاعقة.. تدور السماء والأرض وتغيب الوجوه فالدنيا خرم إبرة. لا شمس ولا قمر.. لا ليل ولا نهار.. جبل أسود من الهم يحط علي رأسه.... يجري العمدة في بحر يشده إلي القاع يسقط علي الأرض.. يجري ويسقط.. المصيبة جبل علي رأسه يدفعه إلي الغرق.. لو مات في هذه اللحظة لرتاح من اللي جاي / الطوفان يتدفق علي سنطة الشيخ خير.
السخرية من القانون!
يسقط العمدة إلي جوار الجثة وبقايا عروش الجلبان تلتف حول ساقيه، الناس دوائر كبيرة حوله. ومع ذلك لم يجرؤ أحد أن ينظر إلي الجثة... رأس القتيل ناحية الغرب وناحية الشرق مدة الساق الملفوفة في طرف الجلابية. لم يدرك العمدة إن كان للقتيل ساق واحده أم ساقان فالسنطة هي الحد الفاصل بين زمام قريته وزمام قرية العمدة دياب... فالقتيل ممدد علي حدود القريتين، رأسه داخل حدود قرية العمدة دياب، وباقي الجسد علي حدود قريته. لو تزحزح الجسد خطوة أصبح داخل زمام قرية العمدة دياب فكر في نقل الجثة بجوار الرأس الملفوف ولا سيما أنها في الظل ولكن الناس ذكروه أن هذه مسئولية لو عرفت النيابة نقل الجثة من مكانها ولكن العمدة تشجع ولعن النيابة والقانون والعمدية. وصرخ أن هذه الجثة ليست في زمام بلده. فلو بلغ أن القتيل في زمام قريته فإنه لن يسلم من الحكومة وعسكر الهجانة،سيتحمل أعباء زيارتهم لقريته شهرا كاملا مسئولية إطعامهم وإطعام جمالهم وتحمل أخلاقهم الشرسة. وضرب الكرابيج السوداني للبلد وغلاسة المخبرين. يتحرون عن القاتل ويفرضون الإتاوات.. مرتع أكل وشرب وسجاير وشاي. تحريات تظلم ناس وتبرئ ناس.. هم، سببه الأول جبن عمدة القرية المجاور حمد الملعون. ومن حق العمدة حمد أن يتحمل مسئولية القتيل وتوقف العمدتان بجوار الجثة، القدم ملفوفة والجثة كذلك الرأس ملقاة منفصلة ملفوفة، ولا أحد يجرؤ علي النظر إليها، يتردد العمدة، يتقدم فلا مفر من المواجهة، نمل يصعد في جسده حتي أطراف شعره، يتحسس الجسد فيجده صلبا لا يشعر بليونة اللحم الآدمي. ويتشجع فيلمس الأصابع فيجدها لا تغوص في اللحم، شئ صلب تسمرت عليه الأصابع. يقلب الجسد علي ظهره يضغط الأصابع يحس بصلابة أكثر.. لا ملامح للقتيل لا وجه وإنما عمامة كبيرة لفت الملامح في لحاء فرع سنط والجسد باقي فرع السنط، أكمام الجلباب الذراعان جريدة نخيل ألبست أكمام الجلباب إنسابت علي باقي الفرع ( ص19 22)
أرادت هذه القصة أن توضح كيف يثير الثأر الفزع كما انها أخذت تسخر من السلطة والقرية ومن القانون والنيابة والحكومة... فالثأر لن توقفه نيابة وحكومة وقوة عمدة خائف أن ينظر إلي جثة ميت. فالقصة تكشف السخرية من عالم السلطة في مواجهة قسوة الثأر. حتي لو انتهي الأمر في أن تقوم الجماعة برسم تمثال لجثة تختفي داخل الجلباب ولكن الذي لا يختفي هو الذعر مما يمكن أن يحدثه مقتول عند السلطة وعند الناس.
لقد تحول هذا الأسي الذي يعيشه الناس إلي أسي للسلطة التي يسخر منها الناس ويصنعون تمثال جثة ليتحول الحدث إلي نكتة تدعو إلي الضحك وشر البلية ما يضحك.
وتكتمل حلقة الثأر في قصة »لوجه الله« بسخرية من عالم الثأر وطالبيه وصانع يهيرويها حشمت يوسف بخفة دم ظهرت في معظم قصصه. وفي هذه القصة تظهر المفارقات واضحة تروي بحس ساخر فتكون أقرب إلي قصة نكتة تمثل حكاية من الحكايات التي يرويها أهل الريف في الأقصر تحمل مفارقتها الضحك والدموع. وطالبة الثأر في القصة امرأة شابة فقدت زوجها الذي تحبه وتحترم رجولته. إنها مازالت تذكر يوم دخلتها في يوم الثلاثاء هذه الليلة طلقات النار تسكت ويكف الرش عن الاصطدام بخوص النخل وكل النجع في سكون تام ينتظر لحظة خروج »حساني أبو موسي« يلوح بالمنديل الأبيض عليه بقعة الدم ويعلن أن العروسة صانت شرف أبيها حتي تعود للبنادق طلقاتها. في تلك الليلة فاجأها دم الحيض ليلة عرسها. وكان زوجها حساني رجلا يحمل المسئولية علي عاتقه ولا يهمه إن كانت عروسه حافظت علي شرفها أم لا ولكن ما يهمه أن يثبت للناس أنه رجل عاص المنديل الأبيض بدم الحيض ليخرج علي الناس به وعليه بقع الدم.
سخرية المجتمع
هذا الزوج الذي يحمل كل الصفات التي يمكن أن تحبها المرأة في الرجل يقتل. وليس لها ابن ولا أخ يمكن أن يثأر لها فكان عليها أن تذهب لتؤجر قاتلا مأجوراً يقوم بأخذ ثأرها. ففي المجتمع القروي في كثير من قري صعيد مصر هناك قتلة يقومون بدورهم في الثأر للضعاف والعجزة غير القادرين علي القيام بهذا العمل بأنفسهم بثمن. هذه سخرية لم يصنعها المؤلف وإنما صنعها المجتمع القروي وغير القروي.
ذهبت المرأة إلي القاتل المأجور، وقد عرفت مكان مسكنه في حي العبابدة وهو معروف هناك واسمه يجلب الرعب لكل من يسمع عنه. لفت المرأة جسدها النحيل بقناع الصوف الأحمر المغزول من صوف الغنم فمنذ أن رحلت روح زوجها إلي السماء وهي لا تلبس إلا صوف الغنم الخشن وستظل تلبسه حتي يسكت دمه الذي يصرخ طالباً لثأره، وتسمعه في منامها يطرق الباب ويناديها زإنت نمت علي تاري ز وتخشي أن تفتح الباب وتواجهه وقد طال الزمن خمس سنوات ودمه يتعذب في الأرض.
خرجت من بيتها بالليل خفية والنجع كله في نوم عميق. فتخشي أن يراها أحد حتي لا ينتقل الخبر إلي قاتل زوجها فإنها ذاهبة إلي نجع العبابدة الذي يسكن فيه القاتل المأجور. كل نجع العبابدة يتجنب الخوض في سيرته ويتحاشون مقابلته ولو سمح لهم أن يلوكونه بألسنتهم لما ظل لفترة طويلة أهل ثقة لكل من يقصده. طرقت الباب علي الرجل، تركت فتحة صغيرة من القناع حتي تري بها من سيفتح الباب، فتح الرجل الباب نصف فتحه وبان منها طرف ماسورة بندقية أدخلها البيت ثم أعاد غلق الباب وجلس علي دكة خالية من أي فرش، وأسند البندقية إلي جواره وسألها عن طلباتها فطلبت منه مباشرة أن يقتل أمين الحرك وبسرعة، عرفها فهي زوجة »حساني أبوموسي« فسألها معاكي كامس ؟ فأخبرته: أن معها خمسمائة جنيه يقبضها بعد يوم السوق، علي أن يقتل أمين الحرك قبل نهاية الشهر العربي واختارت نهاية الشهر العربي حتي لا يغيب القمر قبل أن يستريح دم حساني في الأرض. وأمرها أن تحضر النقود قبل يوم الأربعاء يوم السوق وقال بإصرار لن يمر يوم الجمعة حتي يكون دم زوجك قد استقر في أرضه.
خرجت من دارها وهي تتمني أن يراها جميع الناس وأن يعرف أمين الحرك أنها تنوي قتله وأنها ذاهبة إلي نجع العبابدة لتكري علي قتله. كانت تتمني أن تري لحظة رعب في عينيه ولكن لم تشاهده ولم تشاهد أي أحد. لقد مر عليها يوم الثلاثاء، ولقد نذرت أول وليد لجموستها ثمناً لثأرها وكان المولود ذكرا، تركته سنتين تسهر عليه وتعلفه بالكسب والردة، وليلة الثلاثاء وضعتها كلها أمامه ليأكلها، كانت تريده أن يزيد النصف حتي تبيعه بالمبلغ المطلوب إلا أنه في الصباح كان قد نفق من كثرة ما أكل، لذا كان عليها أن تذهب لمحترف القتل لتخبره بأنها لم تستطع أن توفي بما التزمت به من اتفاق.
وهنا تأخذ القصة مساراً آخر فخيبة أمل المرأة في أن تحصل علي النقود يمثل مأساتها المعذبة لها. وكان إحساسها حين ذهبت إليه مختلفاً في هذه المرة فقد كانت فاقدة الأمل ينتابها إحساس قاس بالعجز، تشعر به إزاء زوجها وحبيبها الذي يعيش قاتله حياً حراً طليقاً وحين دخلت علي الرجل منزله ووجدته قابعاً خلف الباب ولم يكن هذه المرة هو الأمل وإنما كان خيبة الأمل، وكانت المفارقة أن الرجل كان يخشي أن يكون الحرك مات ميتة طبيعية ولذا جاءت المرأة لتحله من الاتفاق. والغريب أن هذا القاتل يتكلم عن الحرام والحلال فالقصة ركزت علي السخرية في دائرة التناقض فالقاتل يقول لها حرام أن يموت الرجل علي فراشه ودم الرجل يضيع هدرا. وعندما عرف حقيقة إفلاسها تغير موقف الرجل فهو فيما يبدو لا يظن أنه يصنع الحرام وإنما هو محقق للقصاص. لم تقل القصة إن ارتكابه لجريمة القتل ليس عقاباً للقتيل فهو لم يقتل بريئاً...
ولما كان في نظر نفسه طالب عدل فقد تغاضي عن ثمن القتل وقرر أن يصنع شيئاً خيرا هذه المرة فهو بعد حمده لله يخبرها أنه قرر أن يقتل هذه المرة لوجه الله وقد ظهر أن المرأة قد صعبت عليه فأراد أن يحقق لها ما أرادت. فقال: لقد قتلت كثيراً بأجر ولم أقتل مرة واحدة »لوجه الله«.. ليكن اتكالك علي الله: إن شاء الله ص22 لقد اكتملت السخرية بموقف هذا القاتل الذي جعل من القتل ثواباً يأخذه عند الله لقد كرمت زوجة القتيل بأخذها لثأرها من قاتله لتكتمل السخرية.
الجبناء خارج الميدان
الموت والقتل موضوع كبير في قري الأقصر ما إن يفتح باب الثأر حتي يعجز الجميع عن غلقه ولكن هناك القتل الذي لا يصاحبه ثأر (لا دم ولا دية) القتل في لعبة الطردة التي تتم في ميدان العارف إنها لعبة الحياة والموت لا ثالث لهما. لا يلعبها إلا فارس قادر علي امتلاك فرس رماح كرار وفيها يتحدي الفارس صاحبه و إذا قبل كل منهما التحدي للآخر ينزلان الساحة طاردا ومطرودا كل علي صهوة جواده يمسك بيده قطعة من جريد النخيل في طول ذراع لا تنقص ولا تزيد دببت لتصبح رمحاً قاتلاً. يتقدم المطرود الطارد عشرين ذراعاً ينطلق المطرود ويسبق الريح يلهب الفرس حتي ينهب الأرض رغبا في كسب السباق وحبا في الحياة. الثواني بالنسبة له تعني الموت، لا مفر من الموت إلا أن يركض الفرس ويركض حتي نهاية الميدان محتفظا بمسافة العشرين ذراعا بين الطارد والمطرود وعلي الطارد أن يختصر المسافة حتي يطول المطرود ليرشق رمح الجريد في ظهره. وإذا استطاع المطرود أن يفلت من الطارد تتغير الأماكن ويصبح المطرود هو الطارد. لا يجري في الميدان إلا صاحب قلب شجاع وفرس رماح أما الجبناء فلا مكان لهم في الميدان.
ويحكي الراوي هنا عن رجلين يمثلان نماذج القرية. أحدهما هو أمين النص رسمته القصة رسما كاريكاتيريا فهو بسلوكه وشخصه مثير للضحك والسخرية يقتل الوقت بمطاردة الحشرات في جسمه وهو في هذا اليوم يصبح اسم أمين علي كل لسان، ويسير خبره في دروب القرية والنجوع البعيدة والقريبة ويختلف فيه، كل لسان يقولون الرجل ليس به مس من الشيطان يغويه علي نفسه ويقولون إنه أشجع الشجعان ويقولون إنه دياب بن غانم الذي سيقتل الزناني خليفة ويتفرق الخلق شيعاً واحزاباً.
الشخص الآخر هو صاحب الصهباء، وهي التي نسب إليها وهي الفرس التي يعتز بها، يمتطي صهوتها يستعرض ما بها من حسن وجمال فاقت في جمالها أجمل بنات الناس. مهرة رهوانة تلمع كمرآة في وهج الشمس سبيبها أطول من شعر جنات الحور،لا حمراء ولا بيضاء كفرسة دياب بن غانم الخضراء.
و ينقل القاصي عن راوي الخبر وشاهد الواقعة أن صاحب الصهباء قتل في الميدان من الفرسان عشرة، وما كان فرس ولا مهرة يناظر الصهباء في السرعة، كانت سباقة في جولة الطردة بفضلها صار لصاحبها سمعة حتي كف الناس عن اللعبة وأصبح كل فارس يخشي علي نفسه من صاحب الصهباء حتي فرسان القري والنجوع المجاورة ما كانوا يقبلون نزول الطردة.
مفارقات الحدث
والمفارقة التي صنعت للحدث في القصة أهمية هو التقاء أمين النص بصاحب الصهباء فإنه حين وقعت عينه عليه يلاعبها بلا تفكير أو تدبر هب واقفا واتجه إليه. وقف أمامه تحت رقبة الصهباء مباشرة وقبل أن يسأل الرجل فاجأه أمين النص بقوله: أتنازلني في ساحة الطردة؟ ولما كان طلبه غريبا إذ لا يعرف عنه أنه فارس أو أن له حصانا يدخل ميدان الطردة إلا أنه أعلن أنه سينزل الطردة بحماره. والمفارقة واضحة تماما أمين النص يتحدي بحماره فارسا مجربا فرسه مشهور وقبل صاحب الطردة التحدي.
هذا القبول منه إهانه له، فارس بفرسه يواجه رجلا يركب حماراً لا علاقة له ولا للحمار بالفروسية.
يحاول الراوي أن يوضح سبب قبوله للنزال وسبب دعوة أمين النص للمنازلة وقبول صاحب الصهباء للنزال أسباب يتناقلها الناس إذ يقولون إن صاحب الطردة يعشق زوجة أمين النص فقرر أن يموت دفاعاً عن شرفة، وبمعني آخر زيا قاتل يا مقتول ز وبذا يتهرب من الثأر وقتل الغيلة. إنه يقتل أمام سمع الناس وبصرهم وبشكل قانوني لا حساب فيه، وهناك رأي آخر يخص صاحب الصهباء فالناس تقول إنه عشق امرأة صاحب الصهباء وأن هناك مكيدة لقتل الرجل بالاتفاق مع المرأة، أي أن صاحب الصهباء أيضا يريد قتل الرجل علي مرأي من الناس دون أن يلام أو يحاسب علي ما يفعل. ومع كل ما يقال يكذب بعض الناس هذه الأخبار حتي لتبدو وكأن أمين النص يريد الانتحار ولكن إذا كذبت الأقاويل فما الذي يدفع صاحب الصهباء إلي قتل أمين النص،أشياء لا تفسرها القصة وإن كان يفهم من الأحداث أن هناك أشياء لم تذكر لذا كان التفسير المنطقي أنه مجنون. وكذب بعض الناس الخبر وظنوا أن النص سيغادر القرية قبل أذان العصر موعد بدء اللعبة، ولكن النص لم يغادر القرية وإنما حضر إلي الميدان في الموعد المحدد له. وتصوره القصة ميتا جاء ومعه جموع المشيعين محمولا علي حماره وسط صخب وضجيج وصراخ زوجته، تلطم خدها وصدرها، حاسرة الرأس ولا تعلم حسرتها أهي علي أمين النص أم علي حماره الذي سيصبح ضحية لحماقة النص وقد أخذت تشد الحمار بعيدا عن الميدان، وأشياع النص يدفعونها ويخلون سبيلها أمام النص وحماره، وبدأت لعبة الطردة فاستخدمت القصة الإمكانات السردية الفكاهية لتجعل من منظر الصراع بين أمين النص وصاحب الطردة حكاية مسلية، حتي الحمار عبرت القصة عن آلامه في النزال. بدأت الطردة بنزول. صاحب الصهباء مطرودا وأمين النص طاردا. الصهباء تلاعب الريح وحماره طيب القلب كان يتمني أن ينزل الطردة مع الصهباء لتراه جموع الناس في القرية، المفارقة واضحة بين أمين النص وصاحب الصهباء وبينها وبين الحمار،وكان أمين النص رجلا أيضا طيب القلب وصاحب الصهباء ذو قلب جاحد لا يعرف الرحمة. وانتهت الجولة الثانية. والحمار عاجز متلكأ في سيره وقد أدرك الحمار أن عليه ألا يذعن لأمر صاحبه. كان الحمار يعرف الموقف جيدا وكان يتصرف بمفرده، فصاحبه لا يعرف المأساة التي أقدم عليها، كانت القصة تكشف عن حماقة النص وحماقة عالمه فهو لم يناقش الأمر مع نفسه كما صنع الحمار لقد كان النص يلهب جسده بالضرب حتي يفلت برأسه. والحمار يقاوم رغبة صاحبه ويتحداه ولكن لا يسمع حوافر الصهباء، ولولا انشغاله بما ينهال عليه من ضرب لالتفت إلي الخلف ليحث الصهباء علي السير إلي جواره ويصل النص إلي منتصف الميدان، وقد أخذت المسافة تضيق و تقصر ويرتجف خلف الحمار وصاحبه يزيده ضربا، وجموع المتفرجين من أهل القرية يزدادون استثارة وتهدر تحث الحمار علي الركض والحمار عاجز فلا حول له ولا قوة وفي لمح البصر يرشق صاحب الصهباء رمح الجريدة في ظهر أمين فينكفئ علي رقبة حماره يسقط من هول المباغتة ويتعثر الحمار في صاحبه، يصير صاحبه عثرة ينكفئ عليه إلي جواره وقبل أن ينظر إلي الصهباء تعثرالجسدان، ويغوص الحافر في بطن الحمار الطيب القلب، تتكئ الصهباء بحافرها علي أمعائه فيميل برأسه ويتمدد بكامل جسده علي الأرض (ص18) لقد تحولت السخرية من أمين النص ومن صاحب الصهباء إلي سخرية من أهل القرية وكان الضحية هو الحمار المسكين الذي استطاع أن يكسب شفقة قراء القصة أما المشاهدين من أهل قريته فكان صراع الصهباء متعة لهم.
الثأر متعة والقتل متعة سواء أكان ثأرا مفروضا أم موتا بالرغبة في اللعب، هذا العنف المتوحش كان يمثل قوة ناقدة من القاص، فقد نقله بأمانة وأضاف إليه إحساسه بعالم قريته المشهورة بهذه القوة القاسية التي يصورها.
لم يكن القاص (حشمت يوسف) يكتب لمتعة الكتابة أو يكتب لمتعة القارئ وإنما كان يثير القارئ إلي رفض هذه التقاليد والأعراف الاجتماعية القاسية والمدمرة.
نقد الأسطورة
لم يتوقف قصاص الاقصرعند حدود التقاليد لنقدها وإنما امتدوا للأسطورة وعالمها فكان لهم مواقف مختلفة. فالأسطورة عالم متسع فهي ليست خيال وليست مرادفا للكذب والإيهام كما أنها ليست مقابلا للواقع فهي حقيقة لا يتطرق إليها الشك بالنسبة لمعتنقيها. ولقد حدد لويس سنبس علم الأساطير بأنه دراسة للدين البدائي أو شكل من أشكاله الأولي عندما كان حقيقة معيشة(4) وتصور البعض بأنها الأديان غير الكتابية كما رآها البعض بأن كل ما لا نؤمن به هو أسطورة غير أن علم الأساطير يجاوز ذلك كثيرا ليشمل أديان الإنسان القديم والحديث والمعاصر إنسان ما قبل عصر الكتابة وما بعده(5).
فالأسطورة عقيدة ودين متكامل يبني علي أسس ثلاثة. التكوين والوجود والمصير. فالتكوين يبني علي تكون الكون والقوة الغيبية الحاكمة فيه. والوجود هو الحياة التي تكونت بعد التكوين وفيها مقدرات الإنسان وكل ما في الوجود. أما المصير فهو الحياة بعد الموت ومصيرالإنسان.
ولقد اهتم كتاب القصة في الأقصر بالأسطورة باعتبارها عقيدة الجماعة وأخذوا منها مواقف متعددة تقبلها »بهاء طاهر« وركز علي طبيعة العلاقة بين المسيحيين والمسلمين وجعل للدير مكانا في قرية الكرنك والمنشاة التي يعيش فيها أهله. وكان للدير وضع أساسي في أحداث القصة. فكانت الدلالة الواضحة أنه تقبلها ولم يقم بنقدها أو رفضها.
ولمس حسين خليفه الأسطورة و عدها واقعا معيشا في قصصه فهو لم يتوقف عن ذكر أسماء أولياء الأقصر الشيخ أبو الحجاج والشيخ أبو القمصان.
وفي قصة »النمل والحائط« استخدم الاعتقاد الشائع في الأقصر باستخدام الحرز الذي اشتراه والده من مولد الشيخ أبو الحجاج لتكون حرزا يحمي البيت من دخول الثعابين وألصقها بالحائط المجاور لفتحة الباب والمكتوب عليها أسماء الله الحسني وتحتها رسم لخنجر حاد. وتحت الخنجر الحاد يرقد ثعبان مشلول بغير حراك.
كما انه استخدم الأسطورة فيم يمكن أن يخرج عنها ليدخل دائرة الفانتاستك في قصته »سبحان الله« بناها علي تيمة الحدث الأسطوري الذي يجعل الحياة تجئ علي يد الموت.
فالزوج الشاب الغني يموت عنينا لم يقرب زوجته ولكن ما إن يوسد التراب حتي يخرج الحفار من القبر صائحا فقد وجد رجولة الميت قد انتصبت وكان لابد من حل وقام الشيخ حسن بالحل وتمت عملية جماع بين الزوجة وزوجها الميت، وقد زينت وكأنها عروس ليلة زفافها (ص60). وأعادوه إلي القبر بعد أن تأكدوا من موته تماما فدفنوه وبعد تسعة أشهر بالكمال أنجبت ولدا أسموه جابر الميت. أما يحيي الطاهر عبد الله فقد كفر بالأسطورة تماما وفسرها معدا إياها كذبا انها مدمرة للإنسان لوعيه واقتصاده ووجوده. وفي قصة طاحونة الشيخ موسي فكر الخواجة نظير وبنصف عين فقط عثر علي مكنة طحين نصف عمر وبعدها جاءتة المتاعب، فإنه ما إن اكتمل البناء وجاءت المكنة حتي هاجت القرية. فإن هناك أسطورة تقول إن مكنة الطحين لكي تدور لابد أن يرمي فيها طفل. وطبيعي هاج الناس، حاول أن يقنعهم بأن المكنة يمكن أن تدور دون طفل يرمي فيها. ولكي يتغلب نظير علي هذه المشكلة ليس أمامه إلا الشيخ موسي الذي يعتقد الناس في ولايته وكان الشيخ يري أيضا ان المكنة لازمها عيل صغير وطبيعي يحتال نظير علي الشيخ موسي فهو يطلب منه البركة والمدد وأن يدخل الطاحونة وبذلك تنفك أسطورة الطفل الملقي في الطاحونة وتتحرك المكنة وجمهور من الناس يصرخ فرحا وتهمهم الشفاه بالخلاص ويتشعلق الخواجة نظير علي أكتاف الزفة ليعلق لافتة كبيرة بأعلي الحائط.
(.. طاحونة الشيخ موسي لصاحبها نظير وابنه مقيد ).
وفي قصة »الطوق الإسورة« تتداخل الأساطير فيها. والقصة مبنية علي مأساة حدثت بسبب الأسطورة، وعذابات »حزينة« بطلة القصة ومأساة أسرتها سببتها الأسطورة. افقدتها ابنتها ثم حفيدتها وانتهت بفقدان ابنها لعقله.
لقد كانت حزينة تركيبة ممزوجه بالأسطورة تحركها في كل حركة من حركات حياتها لذا وصفتها القصة »بالمخرفة تتطير من رؤية النعال مقلوبة ومن الريح لو حملت قشر الثوم ومن قدم تدوس كسرة خبز مرمية« (ص 307). وتقف أمام الغجرية مصدقة لها لتعطيها ثلاث بيضات من طعامها مع أنها سارقة الكحل من العين ولكنها تصدقها وتشعر أن لها القدرة علي قراءة البخت.
لقد غاب ابن حزينة في سفره السلطة في فلسطين. وكانت تريد له السلامة لذا لجأت للغجرية لتعرف منها أخباره، كما لجأت للشيخ يوسف سليم نقيب الشيخ موسي في جمع النذور وطلبت منه أن يعطي الشيخ موسي باكو معسل وأن يطلب منه الدعاء لمصطفي بالسلامة في بلاد الناس، إنه في اعتقادها واعتقاد الكثيرين من أهل الاقصر خصوصا أهل الكرنك بلدة يحيي الطاهر عبد الله أنه رجل مبروك »يغلق باب حجرته عليه بالنهار ويظن الجاهل انه بداخلها يجوس هناك بمكة المكرمه حيث قبر الرسول، فالشيخ لايحب العلن في العبادة.. فحتي وقتنا هذا لم يشاهده مخلوق يصلي، لكن الشيخ يصلي. ويصلي الجمعة بالذات في المسجد النبوي ومن يقول غير ذلك فهو جاهل بمقام الأولياء«.( ص311).
وحين اعترض زوجها المريض بخيت البشاري علي إعطاء يوسف سليم باكو دخان المعسل. فهو يعرف أنه سيأخذه و هو في أشد الحاجة إليه اعترضت حزينة كما اعترضت ابنتها فهيمه التي فكرت بأن الشيخ كله بركة فهو في مثل سنها خلع ثوبه ورماه في الماء فطفا الثوب وقعد الشيخ عليه وعبر النهر من الشرق إلي الغرب وعاد ولبس قفطانه ولبس ثوبه الذي لم يبل ص311.
لم يكن الشيخ موسي وحده الذي لجأت إليه حزينة ولكن عالم الأولياء هو عالمها المتسع التي تطلب منه البركة وترجوه أن يحل مشاكلها فحين تزوجت ابنتها ولم تنجب شكت في أن بنتا من بنات الإنس زارتها فعملت عملا لها مستعينة ببنات الجن وتم الفعل الشرير. ورأت حزينة أن الشيخ العليمي ساكن البر الغربي يستطيع رد الشر وأنه سيفك الحبال التي تربط رجولة زوجها فذهبت إليه فأعطاها قلب هدهد أبيض وزجاجة صغيرة بها سائل عكر وورقة طويت تسعة وتسعين طية. وبالطبع أعطت حزينة نقودها لها قطعتين من العملة النحاسية وهي في أشد الحاجة إليها ولم يبقي أمام حزينة إلا المعبد القديم وأسطورته.التي يعتقد فيها الكثير من أهل الكرنك لقد أرادت القصة أن تدمر حزينة وأسرتها بالأسطورة.
وذهبت حزينة بنفسها لتقابل عرابي حارس المعبد الذي طلب من ابنتها أن تتبعه فأدخلها حجرة الإله المصري القديم، ردت فهيمه الباب. وفي ظلام حجرة الإله تحرك شبح الإله الضخم الأسود العاري المكشوف العورة. حاولت فهيمه أن تطلق صرخة ولكنها فشلت فقد شدتها المفاجأة التي هزت بدنها وهي تراه يتحرك ويخطو نحوها وهنا تكون مأساة فهيمة أكبر من الفقر والعوز والحاجة فقد أنجبت بنتا لتعيش مأساة أمها فتكون هي نفسها مأساة.
لقد صنعت الأسطورة العذاب الذي قيد أبطال الرواية بقيد مثل طوق وإسورة.
تقف أعمال حشمت يوسف القصصية متميزة في تصويرها لعالم الأقصر مخنوقا بما يحيط به من تراث ومعتقدات لا يستطيع التخلص منها وتمثل تفسيرا لمعاناة الإنسان في مجتمعها.
لم يكن حشمت يوسف في تصويره لهذا العالم في قصصه فريدا، ولكنه كان ككثير من القصاص أبناء جيله في الأقصر: يحيي الطاهر عبد الله وبهاء طاهر وسيد مسعود وحسين خليفة عاشوا هم الإنسان وأزمة الوعي في مجتمع الأقصر. فالقبلية تحاصر الحياة ونزعات الثأر لا تهدأ، عبر عنها بهاء طاهر في رواية »خالتي صفية والدير« كما قدمها حسين خليفة في قصته »الحد الفاصل« صور فيها جليلة المرأة التي استطاعت أن تواجه ركابي قاتل زوجها عثمان، وقد عاشت تدبر للثأر منه بنفسها وهي لا تملك قوة ولا سلاحا لتقتحم عليه أرضه وبيته، فاستطاعت أن تبعد عنه كلاب حراسته، وواجهته وهو مستلق علي دكة في أرضه وأمام بيته، »وبخفة قط وثبت علي بندقيته وسحبتها من تحت رأسه وعندما فتح عينيه وجد الماسورتين مغروزتين في صدره«، نظر إليها وقد انهارت أحشاؤه وهو ينتظر أن تطلق عليه الرصاص غير أنها نظرت إليه نظرة فهم مغزاها وبصقت علي وجهه، ورمت البندقية علي البصقة ثم ذابت كما حضرت بالليل. رفع ركابي البندقية ليصوبها نحوها فوجد البندقية ملتصقة مع البصقة، لسعته البصقة الملتصقة علي وجهه كلسعة ماء النار. كانت بصقة المرأة أقوي من طلقة الرصاص فماذا يفيده أن يقتلها وقد قتلته في أرضه وأمام بيته وحوله كلابه عاجزة مشغولة بأكل جيفة نتنة، فما كان منه إلا أن أطلق العيار الناري علي صدره، واستيقظ النجع علي صراخها وزغاريدها معا، فقد ّان الأوان أن تقبل العزاء في زوجها (2).
العنف بين يحيي وحشمت
وفي قصة الطوق والإسورة ليحيي الطاهر عبد الله.. كان العنف والقتل صورة واضحة في عالم الكرنك، وفي مجموعة »الطردة« لحشمت يوسف أكثر من قصة تصور الثأر وحدته بطريقة ساخرة قاسية ترسم قصة »زهور الدم« صاحب الثأر يقيم وسط السكون وظلال الأشباح يتذكر مقتل أبيه وهو طفل، يتذكر جسده السابح في وحل الأرض وبحر الدم. الحزن الدائم يلف أحلام الطفل وتلعب الام دورها في إرضاعه الحقد الأبدي وحب الثأر. تنقل القصة طقوس الموت بالثأر فالقتل في ريف الاقصر وربما في جنوب مصر لا يكون ثأرا إلا إذا ضرب المقتول بالحديد المسنون، فبعد أن يضرب بالنار يهوي القاتل علي رأس المقتول ويمسح ساطوره في ثيابه. وهناك لا تتوقف حركة النار فهي دائرة يدخل منها القاتل عالما جديدا. يصبح بعدها هو المطلوب للثأر،فمن يقوم بدور القاتل عليه أن ينتظر ليكون المقتول. ولا يهم ما يحدث، فقد محا عار السنين وسيعود القاتل تكلله زهور الدم إلي أزمنة الماضي وثكلي المستقبل لتشرق شمس حمراء بلون الدم«(3).
لقد صبغت الشمس بلون الدم وجسد القتيل ينمو عليها فطر عند الفم يمتد ليغطي دم المقتول. والفطر طوفان جارف يمتد في كل مكان يكتسح اَلام الرجال. ولوجود هذا القتيل تعيش القرية حلما مرعبا فلابد أن تتكرر قصة هذا القتيل ولابد أن ينمو الفطر من دم القتيل لتشرق الشمس ثانية حمراء بلون الدم وتنمو زهور الدم في القرية. ولقسوة الإحساس في القرية في انتظار مقتول جديد وقاتل هو نفسه سيكون المقتول الجديد. يأخذ حشمت يوسف في السخرية وتصوير أحاسيس الناس حتي يجدوا قتيلا لا يعلن عن قاتله. وتزداد سخريته سوة في قصة ز الورطةس حيث يسري خبر عن قتيل بحري البلد يتمدد تحت سنطة الشيخ »خير«. ينزل الخبر علي العمدة حمد كالصاعقة.. تدور السماء والأرض وتغيب الوجوه فالدنيا خرم إبرة. لا شمس ولا قمر.. لا ليل ولا نهار.. جبل أسود من الهم يحط علي رأسه.... يجري العمدة في بحر يشده إلي القاع يسقط علي الأرض.. يجري ويسقط.. المصيبة جبل علي رأسه يدفعه إلي الغرق.. لو مات في هذه اللحظة لرتاح من اللي جاي / الطوفان يتدفق علي سنطة الشيخ خير.
السخرية من القانون!
يسقط العمدة إلي جوار الجثة وبقايا عروش الجلبان تلتف حول ساقيه، الناس دوائر كبيرة حوله. ومع ذلك لم يجرؤ أحد أن ينظر إلي الجثة... رأس القتيل ناحية الغرب وناحية الشرق مدة الساق الملفوفة في طرف الجلابية. لم يدرك العمدة إن كان للقتيل ساق واحده أم ساقان فالسنطة هي الحد الفاصل بين زمام قريته وزمام قرية العمدة دياب... فالقتيل ممدد علي حدود القريتين، رأسه داخل حدود قرية العمدة دياب، وباقي الجسد علي حدود قريته. لو تزحزح الجسد خطوة أصبح داخل زمام قرية العمدة دياب فكر في نقل الجثة بجوار الرأس الملفوف ولا سيما أنها في الظل ولكن الناس ذكروه أن هذه مسئولية لو عرفت النيابة نقل الجثة من مكانها ولكن العمدة تشجع ولعن النيابة والقانون والعمدية. وصرخ أن هذه الجثة ليست في زمام بلده. فلو بلغ أن القتيل في زمام قريته فإنه لن يسلم من الحكومة وعسكر الهجانة،سيتحمل أعباء زيارتهم لقريته شهرا كاملا مسئولية إطعامهم وإطعام جمالهم وتحمل أخلاقهم الشرسة. وضرب الكرابيج السوداني للبلد وغلاسة المخبرين. يتحرون عن القاتل ويفرضون الإتاوات.. مرتع أكل وشرب وسجاير وشاي. تحريات تظلم ناس وتبرئ ناس.. هم، سببه الأول جبن عمدة القرية المجاور حمد الملعون. ومن حق العمدة حمد أن يتحمل مسئولية القتيل وتوقف العمدتان بجوار الجثة، القدم ملفوفة والجثة كذلك الرأس ملقاة منفصلة ملفوفة، ولا أحد يجرؤ علي النظر إليها، يتردد العمدة، يتقدم فلا مفر من المواجهة، نمل يصعد في جسده حتي أطراف شعره، يتحسس الجسد فيجده صلبا لا يشعر بليونة اللحم الآدمي. ويتشجع فيلمس الأصابع فيجدها لا تغوص في اللحم، شئ صلب تسمرت عليه الأصابع. يقلب الجسد علي ظهره يضغط الأصابع يحس بصلابة أكثر.. لا ملامح للقتيل لا وجه وإنما عمامة كبيرة لفت الملامح في لحاء فرع سنط والجسد باقي فرع السنط، أكمام الجلباب الذراعان جريدة نخيل ألبست أكمام الجلباب إنسابت علي باقي الفرع ( ص19 22)
أرادت هذه القصة أن توضح كيف يثير الثأر الفزع كما انها أخذت تسخر من السلطة والقرية ومن القانون والنيابة والحكومة... فالثأر لن توقفه نيابة وحكومة وقوة عمدة خائف أن ينظر إلي جثة ميت. فالقصة تكشف السخرية من عالم السلطة في مواجهة قسوة الثأر. حتي لو انتهي الأمر في أن تقوم الجماعة برسم تمثال لجثة تختفي داخل الجلباب ولكن الذي لا يختفي هو الذعر مما يمكن أن يحدثه مقتول عند السلطة وعند الناس.
لقد تحول هذا الأسي الذي يعيشه الناس إلي أسي للسلطة التي يسخر منها الناس ويصنعون تمثال جثة ليتحول الحدث إلي نكتة تدعو إلي الضحك وشر البلية ما يضحك.
وتكتمل حلقة الثأر في قصة »لوجه الله« بسخرية من عالم الثأر وطالبيه وصانع يهيرويها حشمت يوسف بخفة دم ظهرت في معظم قصصه. وفي هذه القصة تظهر المفارقات واضحة تروي بحس ساخر فتكون أقرب إلي قصة نكتة تمثل حكاية من الحكايات التي يرويها أهل الريف في الأقصر تحمل مفارقتها الضحك والدموع. وطالبة الثأر في القصة امرأة شابة فقدت زوجها الذي تحبه وتحترم رجولته. إنها مازالت تذكر يوم دخلتها في يوم الثلاثاء هذه الليلة طلقات النار تسكت ويكف الرش عن الاصطدام بخوص النخل وكل النجع في سكون تام ينتظر لحظة خروج »حساني أبو موسي« يلوح بالمنديل الأبيض عليه بقعة الدم ويعلن أن العروسة صانت شرف أبيها حتي تعود للبنادق طلقاتها. في تلك الليلة فاجأها دم الحيض ليلة عرسها. وكان زوجها حساني رجلا يحمل المسئولية علي عاتقه ولا يهمه إن كانت عروسه حافظت علي شرفها أم لا ولكن ما يهمه أن يثبت للناس أنه رجل عاص المنديل الأبيض بدم الحيض ليخرج علي الناس به وعليه بقع الدم.
سخرية المجتمع
هذا الزوج الذي يحمل كل الصفات التي يمكن أن تحبها المرأة في الرجل يقتل. وليس لها ابن ولا أخ يمكن أن يثأر لها فكان عليها أن تذهب لتؤجر قاتلا مأجوراً يقوم بأخذ ثأرها. ففي المجتمع القروي في كثير من قري صعيد مصر هناك قتلة يقومون بدورهم في الثأر للضعاف والعجزة غير القادرين علي القيام بهذا العمل بأنفسهم بثمن. هذه سخرية لم يصنعها المؤلف وإنما صنعها المجتمع القروي وغير القروي.
ذهبت المرأة إلي القاتل المأجور، وقد عرفت مكان مسكنه في حي العبابدة وهو معروف هناك واسمه يجلب الرعب لكل من يسمع عنه. لفت المرأة جسدها النحيل بقناع الصوف الأحمر المغزول من صوف الغنم فمنذ أن رحلت روح زوجها إلي السماء وهي لا تلبس إلا صوف الغنم الخشن وستظل تلبسه حتي يسكت دمه الذي يصرخ طالباً لثأره، وتسمعه في منامها يطرق الباب ويناديها زإنت نمت علي تاري ز وتخشي أن تفتح الباب وتواجهه وقد طال الزمن خمس سنوات ودمه يتعذب في الأرض.
خرجت من بيتها بالليل خفية والنجع كله في نوم عميق. فتخشي أن يراها أحد حتي لا ينتقل الخبر إلي قاتل زوجها فإنها ذاهبة إلي نجع العبابدة الذي يسكن فيه القاتل المأجور. كل نجع العبابدة يتجنب الخوض في سيرته ويتحاشون مقابلته ولو سمح لهم أن يلوكونه بألسنتهم لما ظل لفترة طويلة أهل ثقة لكل من يقصده. طرقت الباب علي الرجل، تركت فتحة صغيرة من القناع حتي تري بها من سيفتح الباب، فتح الرجل الباب نصف فتحه وبان منها طرف ماسورة بندقية أدخلها البيت ثم أعاد غلق الباب وجلس علي دكة خالية من أي فرش، وأسند البندقية إلي جواره وسألها عن طلباتها فطلبت منه مباشرة أن يقتل أمين الحرك وبسرعة، عرفها فهي زوجة »حساني أبوموسي« فسألها معاكي كامس ؟ فأخبرته: أن معها خمسمائة جنيه يقبضها بعد يوم السوق، علي أن يقتل أمين الحرك قبل نهاية الشهر العربي واختارت نهاية الشهر العربي حتي لا يغيب القمر قبل أن يستريح دم حساني في الأرض. وأمرها أن تحضر النقود قبل يوم الأربعاء يوم السوق وقال بإصرار لن يمر يوم الجمعة حتي يكون دم زوجك قد استقر في أرضه.
خرجت من دارها وهي تتمني أن يراها جميع الناس وأن يعرف أمين الحرك أنها تنوي قتله وأنها ذاهبة إلي نجع العبابدة لتكري علي قتله. كانت تتمني أن تري لحظة رعب في عينيه ولكن لم تشاهده ولم تشاهد أي أحد. لقد مر عليها يوم الثلاثاء، ولقد نذرت أول وليد لجموستها ثمناً لثأرها وكان المولود ذكرا، تركته سنتين تسهر عليه وتعلفه بالكسب والردة، وليلة الثلاثاء وضعتها كلها أمامه ليأكلها، كانت تريده أن يزيد النصف حتي تبيعه بالمبلغ المطلوب إلا أنه في الصباح كان قد نفق من كثرة ما أكل، لذا كان عليها أن تذهب لمحترف القتل لتخبره بأنها لم تستطع أن توفي بما التزمت به من اتفاق.
وهنا تأخذ القصة مساراً آخر فخيبة أمل المرأة في أن تحصل علي النقود يمثل مأساتها المعذبة لها. وكان إحساسها حين ذهبت إليه مختلفاً في هذه المرة فقد كانت فاقدة الأمل ينتابها إحساس قاس بالعجز، تشعر به إزاء زوجها وحبيبها الذي يعيش قاتله حياً حراً طليقاً وحين دخلت علي الرجل منزله ووجدته قابعاً خلف الباب ولم يكن هذه المرة هو الأمل وإنما كان خيبة الأمل، وكانت المفارقة أن الرجل كان يخشي أن يكون الحرك مات ميتة طبيعية ولذا جاءت المرأة لتحله من الاتفاق. والغريب أن هذا القاتل يتكلم عن الحرام والحلال فالقصة ركزت علي السخرية في دائرة التناقض فالقاتل يقول لها حرام أن يموت الرجل علي فراشه ودم الرجل يضيع هدرا. وعندما عرف حقيقة إفلاسها تغير موقف الرجل فهو فيما يبدو لا يظن أنه يصنع الحرام وإنما هو محقق للقصاص. لم تقل القصة إن ارتكابه لجريمة القتل ليس عقاباً للقتيل فهو لم يقتل بريئاً...
ولما كان في نظر نفسه طالب عدل فقد تغاضي عن ثمن القتل وقرر أن يصنع شيئاً خيرا هذه المرة فهو بعد حمده لله يخبرها أنه قرر أن يقتل هذه المرة لوجه الله وقد ظهر أن المرأة قد صعبت عليه فأراد أن يحقق لها ما أرادت. فقال: لقد قتلت كثيراً بأجر ولم أقتل مرة واحدة »لوجه الله«.. ليكن اتكالك علي الله: إن شاء الله ص22 لقد اكتملت السخرية بموقف هذا القاتل الذي جعل من القتل ثواباً يأخذه عند الله لقد كرمت زوجة القتيل بأخذها لثأرها من قاتله لتكتمل السخرية.
الجبناء خارج الميدان
الموت والقتل موضوع كبير في قري الأقصر ما إن يفتح باب الثأر حتي يعجز الجميع عن غلقه ولكن هناك القتل الذي لا يصاحبه ثأر (لا دم ولا دية) القتل في لعبة الطردة التي تتم في ميدان العارف إنها لعبة الحياة والموت لا ثالث لهما. لا يلعبها إلا فارس قادر علي امتلاك فرس رماح كرار وفيها يتحدي الفارس صاحبه و إذا قبل كل منهما التحدي للآخر ينزلان الساحة طاردا ومطرودا كل علي صهوة جواده يمسك بيده قطعة من جريد النخيل في طول ذراع لا تنقص ولا تزيد دببت لتصبح رمحاً قاتلاً. يتقدم المطرود الطارد عشرين ذراعاً ينطلق المطرود ويسبق الريح يلهب الفرس حتي ينهب الأرض رغبا في كسب السباق وحبا في الحياة. الثواني بالنسبة له تعني الموت، لا مفر من الموت إلا أن يركض الفرس ويركض حتي نهاية الميدان محتفظا بمسافة العشرين ذراعا بين الطارد والمطرود وعلي الطارد أن يختصر المسافة حتي يطول المطرود ليرشق رمح الجريد في ظهره. وإذا استطاع المطرود أن يفلت من الطارد تتغير الأماكن ويصبح المطرود هو الطارد. لا يجري في الميدان إلا صاحب قلب شجاع وفرس رماح أما الجبناء فلا مكان لهم في الميدان.
ويحكي الراوي هنا عن رجلين يمثلان نماذج القرية. أحدهما هو أمين النص رسمته القصة رسما كاريكاتيريا فهو بسلوكه وشخصه مثير للضحك والسخرية يقتل الوقت بمطاردة الحشرات في جسمه وهو في هذا اليوم يصبح اسم أمين علي كل لسان، ويسير خبره في دروب القرية والنجوع البعيدة والقريبة ويختلف فيه، كل لسان يقولون الرجل ليس به مس من الشيطان يغويه علي نفسه ويقولون إنه أشجع الشجعان ويقولون إنه دياب بن غانم الذي سيقتل الزناني خليفة ويتفرق الخلق شيعاً واحزاباً.
الشخص الآخر هو صاحب الصهباء، وهي التي نسب إليها وهي الفرس التي يعتز بها، يمتطي صهوتها يستعرض ما بها من حسن وجمال فاقت في جمالها أجمل بنات الناس. مهرة رهوانة تلمع كمرآة في وهج الشمس سبيبها أطول من شعر جنات الحور،لا حمراء ولا بيضاء كفرسة دياب بن غانم الخضراء.
و ينقل القاصي عن راوي الخبر وشاهد الواقعة أن صاحب الصهباء قتل في الميدان من الفرسان عشرة، وما كان فرس ولا مهرة يناظر الصهباء في السرعة، كانت سباقة في جولة الطردة بفضلها صار لصاحبها سمعة حتي كف الناس عن اللعبة وأصبح كل فارس يخشي علي نفسه من صاحب الصهباء حتي فرسان القري والنجوع المجاورة ما كانوا يقبلون نزول الطردة.
مفارقات الحدث
والمفارقة التي صنعت للحدث في القصة أهمية هو التقاء أمين النص بصاحب الصهباء فإنه حين وقعت عينه عليه يلاعبها بلا تفكير أو تدبر هب واقفا واتجه إليه. وقف أمامه تحت رقبة الصهباء مباشرة وقبل أن يسأل الرجل فاجأه أمين النص بقوله: أتنازلني في ساحة الطردة؟ ولما كان طلبه غريبا إذ لا يعرف عنه أنه فارس أو أن له حصانا يدخل ميدان الطردة إلا أنه أعلن أنه سينزل الطردة بحماره. والمفارقة واضحة تماما أمين النص يتحدي بحماره فارسا مجربا فرسه مشهور وقبل صاحب الطردة التحدي.
هذا القبول منه إهانه له، فارس بفرسه يواجه رجلا يركب حماراً لا علاقة له ولا للحمار بالفروسية.
يحاول الراوي أن يوضح سبب قبوله للنزال وسبب دعوة أمين النص للمنازلة وقبول صاحب الصهباء للنزال أسباب يتناقلها الناس إذ يقولون إن صاحب الطردة يعشق زوجة أمين النص فقرر أن يموت دفاعاً عن شرفة، وبمعني آخر زيا قاتل يا مقتول ز وبذا يتهرب من الثأر وقتل الغيلة. إنه يقتل أمام سمع الناس وبصرهم وبشكل قانوني لا حساب فيه، وهناك رأي آخر يخص صاحب الصهباء فالناس تقول إنه عشق امرأة صاحب الصهباء وأن هناك مكيدة لقتل الرجل بالاتفاق مع المرأة، أي أن صاحب الصهباء أيضا يريد قتل الرجل علي مرأي من الناس دون أن يلام أو يحاسب علي ما يفعل. ومع كل ما يقال يكذب بعض الناس هذه الأخبار حتي لتبدو وكأن أمين النص يريد الانتحار ولكن إذا كذبت الأقاويل فما الذي يدفع صاحب الصهباء إلي قتل أمين النص،أشياء لا تفسرها القصة وإن كان يفهم من الأحداث أن هناك أشياء لم تذكر لذا كان التفسير المنطقي أنه مجنون. وكذب بعض الناس الخبر وظنوا أن النص سيغادر القرية قبل أذان العصر موعد بدء اللعبة، ولكن النص لم يغادر القرية وإنما حضر إلي الميدان في الموعد المحدد له. وتصوره القصة ميتا جاء ومعه جموع المشيعين محمولا علي حماره وسط صخب وضجيج وصراخ زوجته، تلطم خدها وصدرها، حاسرة الرأس ولا تعلم حسرتها أهي علي أمين النص أم علي حماره الذي سيصبح ضحية لحماقة النص وقد أخذت تشد الحمار بعيدا عن الميدان، وأشياع النص يدفعونها ويخلون سبيلها أمام النص وحماره، وبدأت لعبة الطردة فاستخدمت القصة الإمكانات السردية الفكاهية لتجعل من منظر الصراع بين أمين النص وصاحب الطردة حكاية مسلية، حتي الحمار عبرت القصة عن آلامه في النزال. بدأت الطردة بنزول. صاحب الصهباء مطرودا وأمين النص طاردا. الصهباء تلاعب الريح وحماره طيب القلب كان يتمني أن ينزل الطردة مع الصهباء لتراه جموع الناس في القرية، المفارقة واضحة بين أمين النص وصاحب الصهباء وبينها وبين الحمار،وكان أمين النص رجلا أيضا طيب القلب وصاحب الصهباء ذو قلب جاحد لا يعرف الرحمة. وانتهت الجولة الثانية. والحمار عاجز متلكأ في سيره وقد أدرك الحمار أن عليه ألا يذعن لأمر صاحبه. كان الحمار يعرف الموقف جيدا وكان يتصرف بمفرده، فصاحبه لا يعرف المأساة التي أقدم عليها، كانت القصة تكشف عن حماقة النص وحماقة عالمه فهو لم يناقش الأمر مع نفسه كما صنع الحمار لقد كان النص يلهب جسده بالضرب حتي يفلت برأسه. والحمار يقاوم رغبة صاحبه ويتحداه ولكن لا يسمع حوافر الصهباء، ولولا انشغاله بما ينهال عليه من ضرب لالتفت إلي الخلف ليحث الصهباء علي السير إلي جواره ويصل النص إلي منتصف الميدان، وقد أخذت المسافة تضيق و تقصر ويرتجف خلف الحمار وصاحبه يزيده ضربا، وجموع المتفرجين من أهل القرية يزدادون استثارة وتهدر تحث الحمار علي الركض والحمار عاجز فلا حول له ولا قوة وفي لمح البصر يرشق صاحب الصهباء رمح الجريدة في ظهر أمين فينكفئ علي رقبة حماره يسقط من هول المباغتة ويتعثر الحمار في صاحبه، يصير صاحبه عثرة ينكفئ عليه إلي جواره وقبل أن ينظر إلي الصهباء تعثرالجسدان، ويغوص الحافر في بطن الحمار الطيب القلب، تتكئ الصهباء بحافرها علي أمعائه فيميل برأسه ويتمدد بكامل جسده علي الأرض (ص18) لقد تحولت السخرية من أمين النص ومن صاحب الصهباء إلي سخرية من أهل القرية وكان الضحية هو الحمار المسكين الذي استطاع أن يكسب شفقة قراء القصة أما المشاهدين من أهل قريته فكان صراع الصهباء متعة لهم.
الثأر متعة والقتل متعة سواء أكان ثأرا مفروضا أم موتا بالرغبة في اللعب، هذا العنف المتوحش كان يمثل قوة ناقدة من القاص، فقد نقله بأمانة وأضاف إليه إحساسه بعالم قريته المشهورة بهذه القوة القاسية التي يصورها.
لم يكن القاص (حشمت يوسف) يكتب لمتعة الكتابة أو يكتب لمتعة القارئ وإنما كان يثير القارئ إلي رفض هذه التقاليد والأعراف الاجتماعية القاسية والمدمرة.
نقد الأسطورة
لم يتوقف قصاص الاقصرعند حدود التقاليد لنقدها وإنما امتدوا للأسطورة وعالمها فكان لهم مواقف مختلفة. فالأسطورة عالم متسع فهي ليست خيال وليست مرادفا للكذب والإيهام كما أنها ليست مقابلا للواقع فهي حقيقة لا يتطرق إليها الشك بالنسبة لمعتنقيها. ولقد حدد لويس سنبس علم الأساطير بأنه دراسة للدين البدائي أو شكل من أشكاله الأولي عندما كان حقيقة معيشة(4) وتصور البعض بأنها الأديان غير الكتابية كما رآها البعض بأن كل ما لا نؤمن به هو أسطورة غير أن علم الأساطير يجاوز ذلك كثيرا ليشمل أديان الإنسان القديم والحديث والمعاصر إنسان ما قبل عصر الكتابة وما بعده(5).
فالأسطورة عقيدة ودين متكامل يبني علي أسس ثلاثة. التكوين والوجود والمصير. فالتكوين يبني علي تكون الكون والقوة الغيبية الحاكمة فيه. والوجود هو الحياة التي تكونت بعد التكوين وفيها مقدرات الإنسان وكل ما في الوجود. أما المصير فهو الحياة بعد الموت ومصيرالإنسان.
ولقد اهتم كتاب القصة في الأقصر بالأسطورة باعتبارها عقيدة الجماعة وأخذوا منها مواقف متعددة تقبلها »بهاء طاهر« وركز علي طبيعة العلاقة بين المسيحيين والمسلمين وجعل للدير مكانا في قرية الكرنك والمنشاة التي يعيش فيها أهله. وكان للدير وضع أساسي في أحداث القصة. فكانت الدلالة الواضحة أنه تقبلها ولم يقم بنقدها أو رفضها.
ولمس حسين خليفه الأسطورة و عدها واقعا معيشا في قصصه فهو لم يتوقف عن ذكر أسماء أولياء الأقصر الشيخ أبو الحجاج والشيخ أبو القمصان.
وفي قصة »النمل والحائط« استخدم الاعتقاد الشائع في الأقصر باستخدام الحرز الذي اشتراه والده من مولد الشيخ أبو الحجاج لتكون حرزا يحمي البيت من دخول الثعابين وألصقها بالحائط المجاور لفتحة الباب والمكتوب عليها أسماء الله الحسني وتحتها رسم لخنجر حاد. وتحت الخنجر الحاد يرقد ثعبان مشلول بغير حراك.
كما انه استخدم الأسطورة فيم يمكن أن يخرج عنها ليدخل دائرة الفانتاستك في قصته »سبحان الله« بناها علي تيمة الحدث الأسطوري الذي يجعل الحياة تجئ علي يد الموت.
فالزوج الشاب الغني يموت عنينا لم يقرب زوجته ولكن ما إن يوسد التراب حتي يخرج الحفار من القبر صائحا فقد وجد رجولة الميت قد انتصبت وكان لابد من حل وقام الشيخ حسن بالحل وتمت عملية جماع بين الزوجة وزوجها الميت، وقد زينت وكأنها عروس ليلة زفافها (ص60). وأعادوه إلي القبر بعد أن تأكدوا من موته تماما فدفنوه وبعد تسعة أشهر بالكمال أنجبت ولدا أسموه جابر الميت. أما يحيي الطاهر عبد الله فقد كفر بالأسطورة تماما وفسرها معدا إياها كذبا انها مدمرة للإنسان لوعيه واقتصاده ووجوده. وفي قصة طاحونة الشيخ موسي فكر الخواجة نظير وبنصف عين فقط عثر علي مكنة طحين نصف عمر وبعدها جاءتة المتاعب، فإنه ما إن اكتمل البناء وجاءت المكنة حتي هاجت القرية. فإن هناك أسطورة تقول إن مكنة الطحين لكي تدور لابد أن يرمي فيها طفل. وطبيعي هاج الناس، حاول أن يقنعهم بأن المكنة يمكن أن تدور دون طفل يرمي فيها. ولكي يتغلب نظير علي هذه المشكلة ليس أمامه إلا الشيخ موسي الذي يعتقد الناس في ولايته وكان الشيخ يري أيضا ان المكنة لازمها عيل صغير وطبيعي يحتال نظير علي الشيخ موسي فهو يطلب منه البركة والمدد وأن يدخل الطاحونة وبذلك تنفك أسطورة الطفل الملقي في الطاحونة وتتحرك المكنة وجمهور من الناس يصرخ فرحا وتهمهم الشفاه بالخلاص ويتشعلق الخواجة نظير علي أكتاف الزفة ليعلق لافتة كبيرة بأعلي الحائط.
(.. طاحونة الشيخ موسي لصاحبها نظير وابنه مقيد ).
وفي قصة »الطوق الإسورة« تتداخل الأساطير فيها. والقصة مبنية علي مأساة حدثت بسبب الأسطورة، وعذابات »حزينة« بطلة القصة ومأساة أسرتها سببتها الأسطورة. افقدتها ابنتها ثم حفيدتها وانتهت بفقدان ابنها لعقله.
لقد كانت حزينة تركيبة ممزوجه بالأسطورة تحركها في كل حركة من حركات حياتها لذا وصفتها القصة »بالمخرفة تتطير من رؤية النعال مقلوبة ومن الريح لو حملت قشر الثوم ومن قدم تدوس كسرة خبز مرمية« (ص 307). وتقف أمام الغجرية مصدقة لها لتعطيها ثلاث بيضات من طعامها مع أنها سارقة الكحل من العين ولكنها تصدقها وتشعر أن لها القدرة علي قراءة البخت.
لقد غاب ابن حزينة في سفره السلطة في فلسطين. وكانت تريد له السلامة لذا لجأت للغجرية لتعرف منها أخباره، كما لجأت للشيخ يوسف سليم نقيب الشيخ موسي في جمع النذور وطلبت منه أن يعطي الشيخ موسي باكو معسل وأن يطلب منه الدعاء لمصطفي بالسلامة في بلاد الناس، إنه في اعتقادها واعتقاد الكثيرين من أهل الاقصر خصوصا أهل الكرنك بلدة يحيي الطاهر عبد الله أنه رجل مبروك »يغلق باب حجرته عليه بالنهار ويظن الجاهل انه بداخلها يجوس هناك بمكة المكرمه حيث قبر الرسول، فالشيخ لايحب العلن في العبادة.. فحتي وقتنا هذا لم يشاهده مخلوق يصلي، لكن الشيخ يصلي. ويصلي الجمعة بالذات في المسجد النبوي ومن يقول غير ذلك فهو جاهل بمقام الأولياء«.( ص311).
وحين اعترض زوجها المريض بخيت البشاري علي إعطاء يوسف سليم باكو دخان المعسل. فهو يعرف أنه سيأخذه و هو في أشد الحاجة إليه اعترضت حزينة كما اعترضت ابنتها فهيمه التي فكرت بأن الشيخ كله بركة فهو في مثل سنها خلع ثوبه ورماه في الماء فطفا الثوب وقعد الشيخ عليه وعبر النهر من الشرق إلي الغرب وعاد ولبس قفطانه ولبس ثوبه الذي لم يبل ص311.
لم يكن الشيخ موسي وحده الذي لجأت إليه حزينة ولكن عالم الأولياء هو عالمها المتسع التي تطلب منه البركة وترجوه أن يحل مشاكلها فحين تزوجت ابنتها ولم تنجب شكت في أن بنتا من بنات الإنس زارتها فعملت عملا لها مستعينة ببنات الجن وتم الفعل الشرير. ورأت حزينة أن الشيخ العليمي ساكن البر الغربي يستطيع رد الشر وأنه سيفك الحبال التي تربط رجولة زوجها فذهبت إليه فأعطاها قلب هدهد أبيض وزجاجة صغيرة بها سائل عكر وورقة طويت تسعة وتسعين طية. وبالطبع أعطت حزينة نقودها لها قطعتين من العملة النحاسية وهي في أشد الحاجة إليها ولم يبقي أمام حزينة إلا المعبد القديم وأسطورته.التي يعتقد فيها الكثير من أهل الكرنك لقد أرادت القصة أن تدمر حزينة وأسرتها بالأسطورة.
وذهبت حزينة بنفسها لتقابل عرابي حارس المعبد الذي طلب من ابنتها أن تتبعه فأدخلها حجرة الإله المصري القديم، ردت فهيمه الباب. وفي ظلام حجرة الإله تحرك شبح الإله الضخم الأسود العاري المكشوف العورة. حاولت فهيمه أن تطلق صرخة ولكنها فشلت فقد شدتها المفاجأة التي هزت بدنها وهي تراه يتحرك ويخطو نحوها وهنا تكون مأساة فهيمة أكبر من الفقر والعوز والحاجة فقد أنجبت بنتا لتعيش مأساة أمها فتكون هي نفسها مأساة.
لقد صنعت الأسطورة العذاب الذي قيد أبطال الرواية بقيد مثل طوق وإسورة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.