عام 1969، أعفي المنتجون مصمم الإضاءة تشيب مونك مُنفّذ مهرجان نيوبورت فولك الّذي شهد تحوّل بوب ديلان من الموسيقي الشعبيّة إلي موسيقي الروك، من مهامه علي خشبة مسرح وودستوك وكلفوه بدور عريف الحفل المرتجل. نتيجة لذلك، دخل مونك عالم الثقافة المضادة باعتباره الرجل الّذي حذّر المحتفلين من الغواية الحرام: »عقار الهلوسة المنتشر بيننا ليس بالفائدة التي نتخيلها». ومَهْما كانت طبيعة ما هو ليس بالفائدة التي نتخيلها بالتركيبة الدوائيّة(التي لا يُمكن أن تكون قوّة الإيعاز قد أفادت مستعمليها بأي حال)، فإنّنا حين نُعيد النظر إلي عقار الهلوسة نجده لا يبدو جذّابًا. مع ذلك، حظي بنفس الهالة الدنيويّة التي تُحيط بالمخدرات الواقعيّة والخياليّة علي حدٍّ سواء، التي أسرت خيال أواخر القرن العشرين، والتي يبدو أنّ أغلبها تألّف من أعشاب وبذور وتراب وفضلات الجسم. لقد منحنا روائيو الستينيات والسبعينيات؛ إلي جانب أزهار اللوتس وشراب نسيان المآسي(ربّما يكون الأفيون) في الأوديسّة؛ وربّما الكعكة وعيش الغراب بالخلفيّة العميقة لرواية أليس في بلاد العجائب، مُسكرات عضويّة مثل "المزيج" وهي التوابل الطوباويّة في رواية فرانك هربرت "تلّ من رمال"؛ و"اللحم الأسود" وهو مُخدِّر يُشبه الجبن مصنوع من لحم الحريش العملاق في رواية ويليام بوروز "الغداء العاري"؛ والخلاصة التي تؤدّي إلي الإدمان علي نحو قاتل في رواية فيليب ديك The Scanner Darkly، وهي مادّة تُحقن مستخلصة من زهرة زرقاء تنمو؛ بواحدة من أعنف مفارقات ديك، داخل مزارع تكتظ بالمدمنين المُتعافين كأنّهم موتي أحياء. ربّما يكون تيري ساوثرن بقِصّته "دماء شعر مُستعار" من كتاب "حشيش أحمر ونكهات أخري" هو المثال الساخر الأبرز لهذا الاتجاه؛ إذْ يتألّف مُخدِّر ساوثرن الخيالي من تسعين سنتيمترًا مكعّبًا من دماء مريض بالفصام مُهرّبة من أحياء بيلفيو: ”إفراغ الحواس؛ ليست المسألة هي اكتسابي استبصارات جديدة كما بالمخدرات العاديّة، بل تحوّلي إلي إنسان مُختلف تمامًا.“ يهبط الجيل الحالي من المخدرات الخيالية علي القصص والروايات من شركات تتحكّم فيها التقانة، لا من جحيم الطبيعة. إذْ غدت أحدث المخدرات الكابوسيّة؛ لأنّها كوابيس حقًّا، مستحضرات دوائيّة. ربّما كان دون ديليللو هو من استهلّ هذا الاتجاه الهائل في روايته "ضوضاء بيضاء" (1985)، بكبسولات ديلار التجريبيّة التي كان يُعلن عنها باعتبارها علاجًا للخوف من الموت. تلي ذلك دستور دوائي خيالي صادق بدءًا من مُركّب DM) عند ديفيد فوستر والاس، مرورًا بفيربالوس عند جورج سوندرز، إلي المكسيكي (أ) عند جوناثان فرانزن. تغدو نزاهة النفس بين أيدي أولئك الكُتّاب عُرضة للتعدّي عليها، لا من الانغماس الحرام، بل من الحتمية الرأسمالية التي تقضي بتسويق تحديثات عصبيّة برّاقة، إلي جانب رغبتنا المتواطئة في التوقّد المستمر. إبان العام أو العامين الماضيين، غزت موجة جديدة من الوصفات الدوائيّة الواجب تحاشيها أرفف المكتبات. لو أنني في مكان تشيب مونك ولديّ الفرصة كي أحذّر من فوق هذا المنبر؛ ستكون حبّة الفرنكس «ernix؛ من القصة الرئيسة بمجموعة ديبورا أيزنبرج "بطّتك هي بطّتي"، هي أول ما أحذّركم منه: ”تفحّصت الحبوب البيضاء الصغيرة التي أعطتها لي كريستا. لم تكن مُخيفة داخل قماطها الورقي، بل تكاد لا تُثير الانتباه.“ ثمّ في الصباح التالي: ”الآن ألقي راي نظرة علي كريستا صائحًا: "لقد كتبت رسالة إلكترونيّة لصديقة ما أثناء نومي!" وتابع: "هل أعطيتيها قرصًا من الفرنكس؟ لقد أعطيتيها قرصًا من أقراصي، أليس كذلك!"... كنتُ أقف بعيدًا فاغرة الفمّ. "هل أعطيتني أقراصًا تجعلك ترسل رسائل إلكترونيّة أثناء النوم؟". التريبيزويد من رواية ديفيد مينز الهذيانيّة البارعة Hystopia (2016)، كبسولة حديثة أخري يجب تحاشيها. يُستخدم هذا الدواء في تسلسل مينز الزمني البديل لفترة الستينيات من أجل التصدّي للصدمة التي تلقاها قدامي المحاربين الّذين شاركوا في حرب فيتنام؛ إذْ يُشّجعهم علي "تطويق" جراحهم من خلال حشرها داخل أركان إدراكيّة فلا تزعجهم مرّة أخري. هُنا تتضح قدرة التريبيزويد علي الغشّ علي نحوٍ موجع: ”بعد خضوعك للعلاج، سيظلّ كل ما يُذكّرك بجراحك نشطًا بعض الشيء. ولن يتبقّي من نشوة التريبيزويد سوي نصائح الممرضات؛ صدي تحذيراتهن أنّ ممارسة الجنس؛ الجنس الممتع حقًّا، هو ما قد يكسر هذا الطوق من جديد، ويُعيد ذاتك الجريحة الأولي.“ كلا، أشكرك كثيرًا! عند هذا الحدّ ربما تكون قد لاحظت أنّ مُخدرات اليوم الخياليّة؛ بدلًا من أن تعد بإثراء أو مسخ تجاربنا، غالبًا ما تعد بالعكس: إبطال أو نقض أو طمس تلك التجارب، كإزالة تاريخ متصفِّح الحاسوب إلي حدّ كبير. إنْ بدا تساوق أمريكا مابعد الحرب وإحساسها بالانتصار الحاسم كأنّه يُثير شهية الثقافة المضادة لمزيد من الفوضي؛ مزيد من التهوّر والملاحظات المتنافرة، فمَنْ منّا؛ نحنُ الّذين نتجشّم عناء منبهات اليوم دون توقّف، لم يبتهل في بعض الأحيان كأنّه أوليفر تويست مقلوب: ”أرجوك يا سيدي، ألا يُمكن أن أتخفف قليلًا؟“ ربّما تزيد رواية أوتسا موشفيغ "عام من الراحة والاسترخاء"؛ الرواية الأشد التزامًا بين روايات المخدرات الجديدة، من نسبة المُخاطرة لتتعدّي مُجرد إرسال بريد إلكتروني ليلي ثم نسيانه، أو إلغاء بعض جراح الحرب: إذْ يغدو الإنفرميترول الّذي يوصف للمساعدة علي النوم علي يدّ واحد من أسوأ أطبّاء النفس في تاريخ الرواية علي الإطلاق، قادرًا علي تقديم فرصة للحياة بكل تفاصيلها وراء غلالة من النسيان. (ذكّرتني رواية موشفيغ أنّني لهوت قليلًا بمادّة اسمها الفورجيتول في روايتي الأولي "بندقيّة وموسيقي عابرة"؛ كنت قد نسيت ذلك تقريبًا.) تتمكّن بطلة موشفيغ شديدة العدميّة بمساعدة الإنفرميترول؛ وهي أقراص صغيرة كأنّها رصاصات منقوش علي كل منها حرف I؛ شديدة البياض والصلابة وثقيلة علي نحو غريب، من التمادي دون وعي مطلقًا في إرسال محتوي جنسي عشوائي والتسوّق عبر الإنترنت، بل في حياة ليليّة ضافية لحدّ أنّها تتضاءل كي تتفحّص صورها الفوريّة الزاهية بحثًا عن أدلّة ترشدها إلي مسكنها وسلوكها. وحين تصل الرواية إلي ذروتها تتعاون البطلة مع ممثِّل مسرحي يتلاعب بجرعتها كي تظل في حالة من النشاط غير الواعي لمدّة شهور بكل مرّة. إنّ الرواية تتساءل: ما دامت الحياة تُعاش وفق شروط الرأسماليّة الاستهلاكيّة في غياب من يعيشها واعيًا؛ فهل ثمّة حياة حقًّا؟ أشكّ أن تغدو بطلة موشفيغ أكثر سعادة؛ بل أعتقد أنّها قد تغدو أتعس، إذا تعاطت AکA-9 القرص التجريبي في رواية فيونا مازل الجذّابة والملتوية "أكثر إنسانيّة بقليل" (2017). لهذا المُخدِّر الّذي صُمم كي يُصيب مستخدمه بإدمان لا يتوقّف مع تناقص فعاليته في الآن ذاته، ترياق وحيد هو AکA-10؛ العقار التالي الصادر للتو الّذي لم يتم التحقق حتّي الآن علي الأقل من آثاره الضّارة. بهذه الخطوة تضم مازل الأدوية الضّارة إلي جانب الشيء النموذجي الّذي يؤدّي إلي الإدمان في زماننا؛ الهاتف الذّكي. هيّا، أتحداك أن تتخلّص منه! أمّا الكبسولة الأشدّ التباسًا داخل خزانة الروايات الحديثة فهي رالي، من قِصّة بن ماركوس "نفيس نفيس"، وهي أحد الأدوية الغامضة التي تنتشر بين سطور مجموعته القصصيّة الجديدة "حواشٍ من الغيم". عقار رالي الّذي لا يوصف من أجل ”اضطرابات الحالة المزاجية... بل علي الأرجح لعلاج غياب هذه الحالات.“ يتمتّع بميزة مثيرة للأعصاب وهي استحالة بلعه نهائيًّا: ”مضاد للاكتئاب يُستعمل للحياة الآخرة، هكذا سمّاه شخص ما... قد لا يؤثِّر بك، لكنّه قد يعلق بصديق كأنّه طفيل. لا يستعمل مثل هذه المخدرات، كما قال أحد الزبائن، إلا الذين كانوا يتصوّرون أنّهم ليسوا في حاجة إليها. لم يكن مُخدرًّا بحق، بل قنبلة بلا فتيل ولا تنفجر أبدًا. لن تبتلعها، بل ستبقيها في بلعومك وقتًا ما. هذا لو كنت محظوظًا.“ يبدو لي أنّه يُمكن أن نسمّي عقار رالي باسم مستقبل ما بعد الإنسانيّة. سنلبث في مثل هذا المكان قدر ما نستطيع رغبة في وجود بديل؛ إذْ أنّ هذا هو ما يغدو عليه العالم الّذي نسميه عالمنا. آه، من يأتيني بعقار الهلوسة حين أحتاج إليه! *عن النيويورك تايمز