كان حلمي سالم، واحداً من الشعراء المعاصرين الذين كَرَّسُوا حياتَهُم للشِّعر. في أعماله الشعرية التي تركها وراءَهُ، لم يكن حلمي يُؤسِّس لكتابة تسير في نَسَقٍ واحد. ما يعني أنه ترك يَدَهُ حُرَّةً في اختيارها الشْعري. وسمح لنفسه بحرية أكثر، حين وضع اللغةَ في حَرَج، أعني أنه نقلها من صرامة التعبيرات البلاغية الصِّرْفَة، إلي انْشِراح الكلام، وانْسِرابه، بما تعنيه عبارة كلام من عناق بين العاميّ والفصيح، أو تَفْصِيح الكلام العاميّ، أو الدَّارِج. هذا الزواج الذي أتاحه حلمي للغة، كان ضمن استراتيجيته الشعرية التي سعي من خلالها إلي توظيف كل مستويات، وصيغ، وأشكال التعبير اللغوية، لالتقاط ما رَغِبَ فيه من صور، أو مفارقاتٍ، لم تكن، في التصوُّر النظري لحلمي، قابلةً للتَّحقُّق، اقتضاءً بأساليب التعبير البلاغي الفصيح وحده. ناهيكَ عن طبيعة الموضوع نفسه، الذي نزل به حلمي سالم إلي « الطريق العام »، أعني إلي طريق الجاحظ، لكن دون ابتذالٍ، أو تعميم ساذج وَضَحْل. هذا الاختيار الشِّعريّ، في تجربة حلمي سالم، هو تعبير عن رغبة واضحة في الاقتراب من الذوق العام، ليس لمُحاباته، أو استمالته، بل لوضعه في سياق الشَّعر الجديد، من جهة، وفي سياق موضوعاتٍ، هي من قبيل التابوهات، أو من قبيل ما يمكن الكلام فيه. ما جَرَّ علي حلمي مشاكل، هي من قبيل سوء الفهم، أو القراءة الدوغمائية المُغلقة، ليس في « شرفة ليلي مراد » وحدَها، بل في طبيعة اختياره الشِّعري كاملاً. ليس ممكناً وضع اختيار حلمي هذا، خصوصاً في شقِّه اللغوي، في سياق تجارب سابقة، كان إليوت نموذجها الأعلي، وأعني، بشكل خاص، تجربة صلاح عبد الصبور. الفرق كبير وواضح بين الشاعرين، وحلمي سالم، كان واعياً بهذا التَّصادُم، ما جعله يكون حريصاً علي خصوصية تجربته، وعلي بقاء المسافة قائمةً بينه وبين هؤلاء « الرواد » بشكل خاص، كون توقيعاتِهم معروفةً، أو هي أصبحت من قبيل الكلاسيكيات في شعرنا العربي المعاصر. « قصيدة النثر »، في هذا الاختيار الشعري، هي جزء من استراتيجية حلمي سالم الشعرية. و النثرية لا تعني عند حلمي، كما عند غيره من شعراء جيله، ممن ذهبوا إلي هذا المنحي الشعري، ما يقع بين « النظم» أو الوزن، و « النثر »، بهذا النوع الجائر في تَشْظِيَة اللغة، والتمييز فيها بين لُغَتَيْن، في ما التمييز يكون، في مثل هذا الوضع، في الأسلوب، وأعني، قدرة اللغة، في كليتها، وفي مجموعها، علي اسْتِحْداثِ طُرِق في التعبير، هي، حَتْماً، كلام غير الكلام، ولغة غير اللغة، وشعر غير الشِّعر. إنها البرزخ، بالتعبير الصوفيّ العميق. أُحيل، في هذا السياق، ل « ديوان النثر العربي»لأدونيس، بأجزائه الأربعة، فهو يضع القارئ أمام امتحان عسير، في ما يخُصُّ مفاهيم من قبيل « الجنس» و « النوع » و « النثر» و « الوزن »، ومفهوم « القصيدة » الذي طالما أثرتُ استنفاذها لذاتها في مفهومِي ل « حداثة الكتابة » في الشعر العزبي المعاصر. وفق هذا المنظور كتبَ حلمي سالم، وحدَّد جوهر اختياراته الشعرية. ووفقه، أيضاً، خاض تجربته الوجودية شعرياً. لم يتنازل حلمي سالم عن الشعر، لم يتنازل عن اختياراته الشعرية، وبقي، كما جاء في حواره الذي أجراه معه الصديق رشيد يحياوي، ( نُشِر بجريدة القدس العربي بتاريخ 30 8 2012) أميناً علي وديعته، لم يُفَرِّط فيها، رغم أن الموت أصابه، في نهاية المطاف. لم تقتصر تجربة حلمي سلمي علي الكتابة وفق تصوُّر نظري غَيَّر فيه مجري علاقته باللغة، أو بشعرية الصورة، أو المشهد، بالأحري، فهو أعاد صياغة رؤيته الشعرية، بطريقة أتاحتْ له الخروج عن نسق الصياغات الشعرية الموازية له، وأعني بها ما صدر عن مجايليه، من شعراء السبعينيات، من مثل حسن طلب، وعبد المنعم رمضان، ورفعت سلام، وخصوصاً بعض أفراد جماعة « إضاءة 77»، ممن كانوا رُفقَاء للراحل، من مثل أمجد ريان، وجمال القصاص، وماجد يوسف، ومحمود نسيم، ومحمد خلاف الشعرية التي راهن عليها حلمي سالم، هي شعرية الدهشة، لكنها دهشة اليومي والبسيط، بما يُخْفِيانه من فداحات و مفارقات، كثيراً ما نعمل علي تفاديها، أو تجاهُلِها، في ما هي جزء من واقعٍ، يتخَفَّي عنَّا، ليس لأننا نجهله، أو هو متشابِك مُعَقَّد، بل لأننا نتعوَّد علي ثوْرِيَتِه، وعلي حَجْبِه، كما لو أنه ليس داخلاً في حياتنا. حلمي راهن علي كَشْف المستور، و علي إزاحة ورقة التُّوت، وهذا ما جعل من الدهشة، في ما كتبه حلمي، تكون بِوَقْع الصدمة، والإخلال ب « طبيعة » الأشياء! هذا ما حدث للمُحتَسِبين الذين حاكموا حلمي سالم، ونظروا لِما كتبه، باعتباره مسّاً بال « المقدسات»، في حين أن ما كتبه حلمي هو مجرة « تذكيرٍ للنِّسيان» بتعبير فوكو.