الشاعر المصري محمد سليمان أحد شيوخ الحداثة الشعرية العربية، يقف الآن صلبا أمام استلاب الذات، ليصنع ذواتا فرعية من خلال نصوصه الشعرية التي أصبحت تضرب في حقول الشعر ضرباً قاسياً. أصدر سليمان أكثر من ثلاثة عشر ديواناً شعرياً، بدءا من ( سليمان الملك 1910 ) و »الأصابع التي كالمشط»، »هواء قديم»، »تحت سماء أخري»، »أعشاب صالحة للمضغ»، »اسمي ليس أنا»، »دفاتر الغبار»، »أوراق شخصية»، »أكتب لأحييك»، إضاءات»، »كالرُسلِ أتوا». طرح سليمان في جل هذه النصوص الشعرية طموحاته الشعرية إزاء العالم، محاولا الانغماس في روح المجتمع المصري من خلال قضاياه وآلامه منح نبضه اليومي للشعر، فمنحه الشعر نسيجا عريضا من الرموز الفنية التي تتحدث عنها قصائده ، تشكلت من أرواح الحياة ونبضها الحي . ديوانه الشعري الجديد الصادر عن المجلس الأعلي للثقافة المصرية بعنوان »كالرسل أتوا» جاء في أربع عشرة قصيدة طويلة، اتخذت من المشهد السينمائي أرضا شعرية مهمة للبوح من خلالها، حيث إنه اختار عنوان ديوانه كالرسل أتوا مشيرا إلي جماعات الشباب المصري الذين انطلقوا في الخامس والعشرين من يناير 2011 في ثورة مصر الأولي، وكأنهم أنهار من اللحم المخلص الذي خرج، ليعلن في وضوح كامل عن رغبته في الحرية والحياة الإنسانية المحترمة والعدالة الغائبة، بحثا عن رغيف الخبز علي أرصفتها، وميدانها العتيق (ميدان التحرير)، كما تحمل القصائد رغبة الشاعر نفسه في تحقيق طموحاته المسكونة بفضاءات الشعر لتجسدها علي الأرض راسخة ثابتة، بل أوشكت أن تعلن عن حضورها رغم المعوقات الكثيرة التي تجتاحها،وتغيم عليها حتي لا تصل الثورة إلي طريقها الصحيح . فيقول الشاعر : »التحيات لكم والصلاة علي الشهداء ينامون في القلب ناموا لكي يوقظوا وغابوا لكي تشرق الشمس في دورنا . والسلام علينا عندما نعلن الحرب ضد قراصنة عششوا في الكلام وضد سلاطين سدوا شبابيكنا بالظلام ولاذوا بأعماقنا كالمرض والسلام علي من رمي خوفه وتحدي »تبدو صورة الشاعر في المقطع السابق صورة لا تحتاج الكثير من التأويلات، لكن الشاعر نفسه أدرك موقعه الحقيقي وعاد إلي مشروعه القومي، فقد أفسدت الثورة كل مخططات التأويل، ولجأ الشاعر محتميا بالمشروع الكبير الذي كتب من أجله كل هذا التاريخ من الشعر والإبداع. بل تحطمت عبودية النص الشعري الاعتباطي الذي لا يحمل هدفا في ذاته، بل صار النص هدفا وآلية لتحريك الذات عن موقعها المستهلك الذي دارت حوله كثيرا، وفي ظني البسيط أن الشاعر لم يعد يعرف ماذا يقول ؟ وماذا يكتب في لحظات الثورة ؟؟ بل عليه أن يسجل في أكمامه الصغيرة البيضاء وجوه الأنبياء الصغار الذين كسروا خوفهم علي أعتاب قلوبهم ، وخرجوا للموت أو للبناء من جديد . فيبدأ محمد سليمان قوله الممزوج بالأثر الديني في التحيات لكم، والصلوات علي الشهداء ، مشيرا إلي أن هؤلاء الرسل / الشهداء قد حققوا مالم يحلم أحد بتحقيقه بعد مرور سنوات الحزن والغضب، لندخل في زمن آخر، وهو زمن الفوضي اللانهائية التي تمر بها البلاد. ومن ثم فقد حاول الشاعر أن يرسخ في قصيدته الحس القومي الشعبي الذي خرج ملهما بفضل شباب مصر الرسل الذين تحدوا خوفهم، مؤمنين بطموحاتهم وأفكارهم وقضاياهم الوطنية، فالسلام علينا عندما نعلن الحرب علي قراصنة !! وهنا نلاحظ المفارقة المشهدية بين السلام علينا وإعلان الحرب علي قراصنة! وتكمن دلالة النص جلية من خلال السلام علينا نحن الشعوب المغلوبة علي أمرها ولم تفكر في تحرير أنفسها من ظلم القراصنة الأوغاد، كما يخدم الشاعر نفسه داخل النص الشعري، مشهد المفارقة الدرامي، فيطرح صورتين دراميتين هما الحرب والسلام؟ وهل نحن نعيش في سلام أم حروب دائمة ضد قراصنة لا يموتون !! ويقول الشاعر في قصيدة بعنوان ( كرر يا كهل عواءك ) مايو 2011 : »لم تصل الثورة بعد إلي منزلنا، لتعيد صباي إليَّ وتطرد من رجليَّ الرمل ومن عيني دخانا لم تصل الثورة بعد إلي غابات المقهي لتبدل لون الشاي وإيقاع الكلمات وتهب الصوت صدي والدهشة جسدا والشاعر نجما .. يصحبه في الظلمة أو كروانا .... ماذا تفعل يا كهل هنا ؟؟ هل تنتظر الثورة تقفز من شباكك . لِتُبدَّلك وتسكب في داخلك شذاها وعواصفها ؟؟ »يتكيء محمد سليمان في النص الفائت علي شعرية الصدمة من خلال بنيات لغوية قاسية، منبها علي أن الثورة لم تصل إلي منزلنا، وتدل مفردة المنزل علي جل الأشياء التي تعيش في البيوت لم تصل الثورة إلي العقل الإنساني في تصرفاته وسلوكياته اليومية ، فكل الأشياء مازالت علي عهدها الأول، لم يحدث تغيير في أركان الجسد البشري، لم تنسج بيتا لها لم تخترق بعد الحواجز الأرضية التي نعيش فيها، ونلاحظ أيضا أن الشاعر محمد سليمان اتخذ الرمز الشعري صوتا للحياة، من خلال الإشارة إلي الكهل في عنوان القصيدة في قوله: (كرر يا كهل عواءك ) وهنا نلاحظ أن الكهل الذي التحق بالثورة المصرية في أواخر أيامها، بدأ يتحدث عنها وكأنه هو المفجر الأول لها، وأنه هو الرسول الوحيد الذي هبط عليه وحي الحرية في ميدان التحرير، وتخفي الإشارات الرمزية تحتها الكثير من المعاني والدلالات علي سبيل المثال مفردات (كهل - عواء كرر) وكأن كل عجوز أراد تحقيق الشهرة والذيوع علي الفضائيات العربية والمصرية، يبدأ في اجترار نظريات الماضي، وتكرار المستهلك والبغيض، منصبا نفسه حاكما علي الشعب المصري، رغم خروج الشعب علي مبارك ومحمد مرسي من قبل .. فلن يقتنع المصريون بالكلام المستهلك والعادم الذي لا يقدم ولا يؤخر ولن يسهم في تقدم الدولة المصرية . ويختم نصه بمواجهة الكهل العجوز الذي ينتظر الثورة أن تقفز عليه من الشباك، حتي تغير له أفكاره وحياته وتنهض به. ونلاحظ روح السخرية التي يحاول الشاعر أن يوجهها للمخاطب الكسول ، لأنه أعلن بشكل واضح أن الثورة المصرية حتي الآن مازالت في الشوارع ولم تنتقل إلي البيوت والعقول؟ حتي أنها لم تسهم في تغيير الشارع نفسه علي مستوي الشكل والمضمون . وحتي لا أكون مبالغا في كلامي أقول: إن الثورة المصرية التي يتحدث عنها الشاعر محمد سليمان هي ثورة حبيسة الإعلام والدين، فكلاهما يجذبها نحوه حتي يقطف ثمارها الخضراء التي لم تنضج بعد. ومن ثم فإن صوت الشاعر داخل القصيدة يأتي محزونا بل مكتئبا مما يحدث في الشارع المصري من انتهازية واسعة يقوم بها الانتهازيون والمدعون الذين احترفوا ركوب الموج والتيارات التي تتفق مع مصالحهم الخاصة ضد مصالح مصر الوطن والقيمة والحضارة . سيظل الشاعر المصري محمد سليمان شاعرا متميزا متمردا علي واقعه منتصرا لقضايا وطنه الكبير مصر .