في بداية تصديرها لمذكراتها الشّهيرة »بوطن في العالم» تكتب جويس مينارد: »حين كنتُ في الثامنة عشرة، كتبتُ مقالًا لمجلّة غيّر حياتي.“نُشر المقال الّذي تُشير إليه مينارد في أبريل 1972 بالنيويورك تايمز ماجازين مصحوبًا بصورة لها علي غلاف المجلّة. آنذاك كانت بالسنة التمهيديّة في جامعة ييل، وكانت تصف في المقال مشاعر الاستلاب والإنهاك من عالم الستينيات الّذي نشأت فيه، وتُعلن فيه عن رغبتها في الانتقال للحياة في الريف والابتعاد عن عالم المدينة. تلقّت مينارد مئات الرسائل من بينها رسالة حملت دفئًا خاصًّا ومحبّة لما كتبته وقلقًا من أن تُستغل مينارد بسبب موقفها الّذي أعلنته. كانت الرسالة من ج. د. سالنجر، أكثر مواطني أمريكا عُزلة والكاتب الّذي كان يبلغ آنذاك ثلاثة وخمسين عامًا، وكانت إيذانًا بعلاقة بدأت بتبادل رسائل باعت مينارد منها فيما بعد أربع عشرة رسالة ب 165 ألف دولار لرجل الأعمال بيتر نورتن الّذي أعادها إلي سالنجر، قبل أن تنتقل للعيش مع الأخيرفي منزله بكورنيش في نيو هامبشير بالفترة من منتصف 1972 وحتّي مارس 1973. تسعة أشهر فرض عليها فيها الروائي الأمريكي صاحب »الحارس في حقل الشوفان»حِمية خاصّة كانت تتناول فيها البازلاء المثلّجة فطورًا كي تبقي صغيرة الجسم، أنجزت خلالها أول كتبها وهو مُذكّرات بعنوان: »نظرة إلي الوراء: النشأة خلال الستينيات» نشرته بعد انفصالها المُهين عن سالنجر. صمتت مينارد خمسة وعشرين عامًا إلي أن قررت نشر تفاصيل علاقتها بالروائي الشهير ضمن كتاب صدر عام 1998، أثار ضجّة كبيرة وقتها وتعرّضت مؤلّفته لاتهامات مُهينة بالارتزاق والبذاءة وغيرها من الإهانات. بدأت هذه الضجّة بمجرّد إعلان دار بيكادور عزمها نشر الكتاب وقبل صدور المذكّرات حتّي، عندما شنّ الناقد الأمريكي الحاصل علي جائزة البوليتزر جوناثان ياردلي هجومًا مريرًا ضد مينارد علي صفحات الواشنطن بوست وصفها خلاله بالطيش، وشككت النيويورك تايمز في مشروعيّة الكتابة عن سالنجر. بحسب سينثيا كلينج في الهاربرز بازار، كان المقصد هو إسكات مينارد وحضّها علي التراجع. لكنّ المرأة التي كانت تبلغ وقتها الرابعة والأربعين من عمرها أصرّت علي صدور الكتاب وتحمّل تبعاته. وُلِد جيروم ديفيد سالنجر بمدينة نيويورك في يناير 1919، طُرد من المدرسة الثانوية بسبب عدم انتظامه فالتحق بالأكاديميّة العسكريّة ليتخرّج منها بعد عامين. أصابته الفترة التي قضاها في الجيش بين عامي 1942 و1946 بانهيار نفسي فوجد في الأدب عزاءه الوحيد. نشر قصصه القصيرة في النيويوركر والهاربر ماجازين قبل أنْ ينشر روايته الشهيرة »الحارس في حقل الشوفان» التي استقبلها النقّاد بفتور في البداية، لكنّها سرعان ما استحوذت علي مكانة مدهشة في فضاء الروايتين الأمريكيّة والعالمية، إذْ بيعت منها عشرات الملايين من النسخ وتُرجمت إلي أكثر من ثلاثين لغة. لم ينشر سالنجر حتّي وفاته عام 2010 سوي رواية واحدة وثلاث عشرة قِصّة كان آخرها »هابوورث 16، 1924» في النيويوركر، يونيو 1965. لكنّه لم يكفّ أبدًا عن الكتابة طوال السنوات التي قضاها مُعتزلًا العالم في منزله بكورنيش بنيو هامبشير، إذْ كشف للصحفيّة الأمريكيّة لاسي فوسبورغ في واحد من لقاءاته النادرة عام 1974: »يُشعرني عدم النشر بسكينة هائلة، فالنشر انتهاك مُروِّع لخصوصيتي. أحبّ إن أكتب، لكنني أكتب لنفسي ومتعتي الخاصّة». وهو ما أكّدته ابنته مارجريت مرّة أخري في مذكّراتها التي صدرت عام 2000 بعنوان »صائد الحلم»، إذْ قالت أنّ أباها كشف لها عن قبو داخل منزله يكتب فيه مُختليًا بنفسه، وعن مخطوطات كُتب عليها بألوان مُختلفة إشارات تُحدد أيًا من تلك المخطوطات يُمكن تحريرها أو نشرها أو إعدامها بعد وفاته.وأظهرت وصية للكاتب تمّ الكشف عنها في فيلم وكتاب صدرا عام 2013 جدولًا زمنيًّا للإفراج عن إنتاجه الأدبي غير المنشور بين عامي 2015 و2020، والّذي يضمّ خمس قصص ونوفيللا عن ضابط يُكلّف بالتصدّي لأجهزة مُخابرات العدو أثناء الحرب، إضافة إلي رواية تتناول علاقته بزوجته الأولي سيلفيا ولتر، وهي مواطنة ألمانية تزوّجها بعد الحرب العالمية الثانية إبان عمله في الجيش الأمريكي في مجال مكافحة التجسس وسافرت معه إلي الولاياتالمتحدة في أبريل 1946، لكن الزيجة انهارت بعد ثمانية أشهر عادت بعدها ولتر إلي بلادها بتذكرة ذهاب دون إياب تركها لها سالنجر علي مائدة الطعام دون سابق إنذار. وحتّي هذه اللحظة لم يُنشر شيء من هذا الإرث. ظلّ سالنجر حريصًا علي إحكام عُزلته الاختياريّة التي أحالت حياته التي اكتنفها الغموض إلي لغز كبير، ولم يسمح لأحد بكسر هذه العزلة سوي النساء.كان يصدّ المتسللين ببندقيّة وفريق من المُحامين ووجه غاضب، وخاض نزاعًا قضائيًّا عام 1986 ضد النّاقد البريطاني إيان هاملتون حول السيرة التي كان الأخير قد كتبها عن سالنجر، ليُجبره في النهاية علي إعادة صياغة الكتاب كُليًّا ويضع عبارة »البحث عن ج. د. سالنجر» عنوانًا له. تُشبه بطلات قصص سالنجر، وهُنّ مخلوقات استثنائيّة مدهشة في مقتبل العمر، النساء اللائي أحبّهن في الواقع: أونا أونيل ذات الستة عشر ربيعًا وابنة الكاتب المسرحي الأمريكي يوجين أونيل التي قابلها في صيف 1941 فاستحوذ جمالها الباذخ علي تفكيره في التو واللحظة. قبل أن تنتهي قِصّة حبّهما القصيرة بانضمام سالنجر للجيش في أعقاب بيرل هاربر وانتقال أونيل إلي لوس أنجلوس حيثُ تزوّجت تشارلز شابلن الّذي كان في الخامسة والخمسين في حين كانت بالثامنة عشرة. يلتقي عام 1951 بزوجته الثانية كلير دوجلاس التي كانت تبلغ آنذاك ستة عشر عامًا، وتروي ابنتهما مارجريت في مذكّراتها أنّ سالنجر كان ممتنعًا عن ممارسة الجنس حين التقي أمّها بعد أن قرأ أحد كُتب التصوّف الهندي التي تزعم أنّ الجنس يسدّ مسار التنوير، لكن تلك الأفكار لم تمنعه من إنجاب طفليه الوحيدين (ماثيو ومارجريت) قبل أن ينفصلا عام 1967. عام 1981 تلقّت الممثلة الأمريكيّة إلين جويس، أرملة الممثل الاستعراضي بوبي فان، رسالة لم تصدِّق في البداية أنّها من سالنجر، يُعبّر فيها-كالعادة- عن إعجابه بتمثيلها. استمرّت العلاقة بينهما حتّي نهاية الثمانينات حين التقي سالنجر شابّة من نيو هامبشير تُدعي كولين أونيل، تُدير معرضًا سنويًّا بمدينة كورنيش. وفي عام 1992 عندما شبّ حريق في منزل سالنجر، كتبت النيويورك تايمز عن كولين باعتبارها زوجته التي تصغره بأعوام كثيرة.بعدها ظلّ الزوجان بعيدًا عن السطح حتّي أطلّ عليهما شبح من الماضي، جويس مينارد عند عتبة المنزل. كانت مينارد يومها، الخامس من نوفمبر 1997، قد أتمّت عامها الرابع والأربعين وغدت امرأة أخري. آنئذٍ كانت قد اشترت بيتًا ومرّت بتجربة انهيار عصبي وتزوّجت وظهرت علي شاشة التلفاز وأنجبت ثلاثة أطفال وأفلست وأجهضت وكتبت ثلاث روايات وأجرت جراحة تجميل لثدييها وتلقّت دروس تنس وباعت أغلب ممتلكاتها وانتقلت من نيو هامبشير إلي كاليفورنيا. لم تكن تُخفي شيئًا في حين استمتع الكاتب الكبير بشرنقته التي كان ينسجها حوله. عن هذا اللقاء العنيف كتبت مينارد عبر موقعها الإلكتروني: »آخر مرّة رأيته فيها كنت صبيّة مذعورة ومحطّمة. وكان، بالنسبة لي، أقوي رجال العالم... آنئذ قال لي إنّني امرأة تافهة. لكن حين وقفت عند عتبة بابه ذلك اليوم كنت امرأة قوية شجاعة تبلغ من العمر أربعة وأربعين عامًا. وكنتُ أعرف أنّه كان مُخطئًا».