في خطابه الذي ألقاه الكاتب اللبناني أمين معلوف داخل الأكاديمية الفرنسية، تحدث مطولا عن عالم الاجتماع الفرنسي كلود ليفي شتراوس، وعن التزاوج بين فرنسا ولبنان ورؤيته للغتين، الفرنسية والفينيقية. معلوف هو أول كاتب عربي يدخل الأكاديمية، ليملأ فراغ الكرسي الذي تركه فارغا عالم الاجتماع الفرنسي كلود ليفي شتراوس. ننشر هنا نص المحاضرة. "أيها السيدات والسادة في الأكاديمية، خمسة وعشرون عاما مرت ،علي المرة الأولي التي دخلت بها تحت هذه القبة. كنت قد نشرت للتو رواية، ومنحتموني جائزة عليها لأجد نفسي مدعوا مع غيري من الفائزين في الجلسة السنوية العامة، وكان كلود ليفي ستروس هو من يرأس الجلسة . كطالب لعلم الاجتماع في بيروت خلال ستينيات القرن الماضي ، كنت قد قرأت "من العسل إلي الرماد"، العمل الذي شرح بدقة شديدة العقلية الوحشية أو البرية ، كما شاركت كثيرا في المناقشات حول الأصول والتاريخ . وكان زميلكم بالنسبة لي ولجيلي كله، رمزا أكثر منه مؤلف ، وعندما سمعته يذكر اسمي وعنوان روايتي، شعرت انني حملت علي السحاب وما كنت أتمني أو أتوقع أكثر من ذلك وخصوصا أن أجد نفسي بينكم ذات يوم وألقي بمديحه عليكم بلهجتي . بعد قرع الطبول، نسمع رنين اللغة! تلك اللهجة ، لا تُسمع كثيرا في هذا المكان، أو، علي وجه الدقة، لم تسمع أبدا . لأنه كما تعلمون، فاليوم بفرنسا يكاد هذا الرنين المختلف في اللغة يكون قد تلاشي، أليست تلك هي كيفية تعبير لا برويار، راسين وريشيليو، لويس الثالث عشر ولويس الرابع عشر، مازارين، بالطبع، وقبل ذلك، حتي قبل الأكاديمية، رابليه، ورونسارد؟ هذا الاختلاف في اللهجة إذن لا يأتيكم من لبنان، ولكنه يعود إليكم. فأجدادي لم يخترعوا اللغة، ولكنهم احتفظوا بها فقط كما سمعوها من جدودكم وأسلافكم، الذين زارنا العديد منهم مثل فولني، لامارتين، العديد منهم خصص أعمالا كاملة عن تمددنا تحت أشجار الأرز . اسمحوا لي أن أتوقف لحظة واحدة عند أحدهم وهو أرنست رينان الكاتب الفرنسي اللبناني الهوي. رينان، الذي كتب رسالة يوصي فيها أن يدفن بلبنان مع أخته هنرييت التي دفنت هناك . رينان، الذي انتخب عام 1878 للكرسي التاسع والعشرين في الأكاديمية والذي أصبح كرسي ليفي شتراوس بعد مائة عام من هذا التاريخ. دائما ما نربط سيادة اللغة الفرنسية بالإمبراطورية الاستعمارية، ولكن ذلك لم يكن هو الحال بالنسبة للبنان. فإذا كانت فرنسا هي الدولة التي انتدبتها عصبة الأمم لإدارة لبنان، إلا أن ذلك كان فترة وجيزة بين 1918 حتي1943، فقط خمسة وعشرين عاما. وهي فترة لا تذكر في تاريخ قصة الحب الملحمية بين البلدين التي استمرت مئات السنين. قصة الحب بين وطني الأم وأرضي التي تبنتني لم تعتمد بالأساس علي الغزو العسكري ولكنها بدأت مع الدبلوماسية الماهرة لفرانسوا الأول، فهو الذي أقنع السلطان العثماني بحقه في الاهتمام بمصير سكان الشام، بغرض حماية مسيحيي الشرق؟ بمعني آخر كانت تلك هي الحجة الرسمية. الحقيقة هي أن ملك فرنسا، كان في نزاع مع الهابسبورغ الذين حكموا معظم دول أوروبا وكانوا يحيطون بمملكته، فلتخفيف قبضتهم، سعي للتحالف مع الخلافة العثمانية، التي تعتبر حتي الآن العدو التقليدي للمسيحية. بفضل هذه الحجة نجتمع اليوم في هذا المكان المرموق وبفضل ذلك التحالف التاريخي ولدت تلك الصداقة الدائمة بين البلدين علي مر القرون بكل تشعباتها الاقتصادية والدبلوماسية والإدارية والعسكرية وقبل كل شئ الثقافية. المدارس هي التي نسجت الصلات, ومعها اللغة التي تم الحفاظ عليها لأكثر من خمسة قرون. الملك العظيم فرانسوا الأول الذي هيمنت اللغة الفرنسية بمملكته مما مهد الطريق للكاردينال ريشليو أن يؤسس هذا الصرح العظيم الذي يجمعنا اليوم . تعود قصة حبنا إلي القرن السادس عشر، بل تعود جذورها إلي أبعد من ذلك إلي الحضارة الإغريقية حيث حكي في الأسطورة اليونانية القديمة، أن زيوس قد تنكر في هيئة ثور، ونزل في مكان ما، بين صيدا وصور، وخطف الأميرة أوروبا، التي حملت اسمها القارة التي نقف علي أراضيها الآن، مما جعل شقيق أوروبا، قدموس، يغادر بحثا عن أخته حاملا معه الأبجدية الفينيقية، والتي ولدت منها الأبجدية اليونانية، وعنها اللاتينية، والسيريلية، والعربية والعبرية والسريانية وبقية لغات العالم القديم . الأساطير تقول لنا ما قد نسي التاريخ. فاختطاف أوروبا يمثل اعترافاً ضمنياً بما تدين به الثقافة اليونانية القديمة إلي الثقافة الفينيقية القديمة، فلقد قال الشاعر: "قدموس حامل الحضارة، قد زرع أسنان التنين. في أرض أحرقتها أنفاس الوحوش في انتظار أن تنمو بها الرجال." هذا الشاعر لم يكن سوي كلود ليفي شتراوس في كتابه "مدارات حزينة". ولد أخوكم المبجل في 28 نوفمبر 1908، في بروكسل، لأن والده، الذي كان يعمل رساما للبورتريهات لم تعد له زبائن بفرنسا بسبب الاختراع الجديد الذي يسمي الفوتوغرافيا، فذهب إلي بلجيكا حيث نصحه بذلك الأصدقاء ولكن شيئا فشيئاً، تلاشي تقليد رسم البورتريهات وأصبح بالياً وراح البورتريه ضحية التقدم العلمي وعمل الوالد الفنان في كلأنواع الأعمال حتي دهان التحف الرديئة ليلبي طلبات الأسرة . هذه التجربة ميزت ليفي شتراوس، وساهمت في تكوين رؤيته للعالم. مما سيجعله فيما بعد دائم الاهتمام بالآثار الجانبية للتقدم، بينما الآخرون منبهرون بالأفكار الجديدة، مثل الفن التجريدي، المكوكات الفضائية، وثورة المعلومات، أو دخول المرأة في الأكاديمية الفرنسية. الشاب كلود، الذي شارك أبوه في ولعه الفني، تأثر أيضا بشكل عميق بالمعاناة التي كابدها. فهذا الرجل الموهوب، الصادق، المكافح ، كان عليه أن يكدح لإطعام أسرته، ألم يكن هذا ظلماً، واختلالاً في المجتمع ؟ ولهذا لم يكن غريباً علي زميلكم أن تظل أحلام المساواة تداعبه بقية حياته وترسم مستقبله. مسيرته كأستاذ للفلسفة لم تطل كثيرا. في البداية كان يجد متعة في تدريس المناهج الدراسية، وعلي هامش محاضراته كان يعقد سلسلة من الندوات لتعريف مستمعيه بالأدب الفرنسي المعاصر - كلود، اورلان ماك، جايد، موران، كوكتو والسرياليون وأدرك بعد وقت قليل أنه يعاني من الملل ونفاد الصبر من تدريس نفس المناهج يومياً. عندما كان عنده خمسة وعشرون عاما، كان يحلم منذ سنين بالسماوات الزرقاء والأراضي الحارة والقبائل البعيدة، وأخيراً تحققت أمنيته وبحسب قوله: "انقلب مساري المهني تماما في يوم أحد من خريف عام 1934، بمكالمة هاتفية." المتحدث كان أحد أساتذته السابقين وهو سيلستين بوجليه مدير مدرسة المعلمين العليا. وكان ليفي شتراوس قد حدثه قبل بضع سنوات عن بعض رغباته السرية، حيث قال له: "هل مازلت ترغب بالقيام بالاثنوغرافيا؟ إذا تم ترشيحك باعتبارك أستاذ علم اجتماع للذهاب في جامعة ساو باولو، حيث الضواحي المحيطة مليئة بالهنود، ستقضي عطلة نهاية الأسبوع معهم، ولكن يجب أن تعطي الجواب النهائي قبل الظهر. " وافق شتراوس، ورحل إلي البرازيل، لكنه لم يصبح مجرد أحد الإثنوغرافيين الذين يراقبون العادات والتقاليد الغريبة في أيام الآحاد بالإضافة إلي ذلك من يطلق عليها قبائل "الهنود" لم تعد في الضواحي، والمؤسسات أبعدتهم ودفعتهم أكثر فأكثر إلي إلي الداخل. فكان عليه أن يرحل مقتفو أثرهم. من هذه الشعوب، شعوب البورورو وتوبي وكادوفيو ونامبيكوارا وهي مجتمعات واهية، خائفة، معرضة يوميا لخطر واضح، ودائما ما كان يتكلم عنها باعتزاز، ويتحدث بشكل جاد وحازم عن حضارتهم الخاصة : "المجتمعات التي يطلق عليها متخلفة أو نامية، والتي ظهرت عندما تواصلنا معها في القرن التاسع عشر، هم ناجون ، وبقايا من المشوهين الذين ولدوا في أعقاب الاضطرابات التي نحن أنفسنا قد تسببنا فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، لان الاستغلال الجشع للأراضي الجديدة وشعبها هو الذي أعطي الانطلاقة الكبري للعالم الغربي . " انتقدت تصريحاته بشأن مسئولية الغربيين عن الشرور في العالم، وأنهم كانوا مخطئين في فرض حضارتهم علي الآخر. ليشتعل جدل لا ينسي في الخمسينيات، بينه وبين عضو مستقبلي آخر في أكاديميتكم : روجر كايواه . ففي مقال له نشر في النوفل رفيو الفرنسية، سخر روجر من الأكاديميين الأوروبيين، علي نهج كلود ليفي شتراوس، الذين، بحسب قوله: " اختاروا الاثنوغرافيا بسبب رغبتهم الملحة في تفضيل البلاستيك علي الرخام، وموسيقي الجاز علي موزارت ويفسرون التشنجات علي انها أرواح وأشباح، ويخجلون من كونهم مؤمنين ". ولقد رد ليفي شتراوس: "سيد كايواه يدفن رأسه في الرمال ويأمل في حماية ضد أي تهديد لحضارته التي ليس لديها أدني تأنيب للضمير ." كان لدي ليفي شتراوس انتماء قوي لبلاده، فرنسا، ولغته، لغة شاتوبريان، التي كان يفضلها عن أية لغة أخري. ومع ذلك، أعلن المساواة في الكرامة بين جميع الحضارات الإنسانية. وبحسب قوله: "أنه غني عن القول أن كل الناس لم تخلق متساوية في ظروفها، وأن جميع الحضارات ليست متساوية، ولكن اللحظة التي نعطي بها الشرعية لعدم المساواة هي اللحظة التي نبدأ بها طريق الهمجية". بعد عودته من بعثة إلي باكستان بناء علي طلب من منظمة اليونسكو، كان لديه نقد صارم "لأولئك المسلمين الذين يدعون إلي اعتناق القيم العالمية للحرية والمساواة والتسامح، ويغالطون أنفسهم عندما يدعون انهم الوحيدون الذين يمارسون تلك القيم"، وأضاف: "هذا الشعور بالضيق الذي تعاني منه في المناطق القريبة من الدول الإسلامية، عرفت الآن أسبابه: فلقد وجدت به المناخ الذي أتيت منه، فالإسلام هو غرب الشرق المهيمن... فنفس الحالة نعيشها مع الشعوب والثقافات التي لا تزال تحت سيطرتنا، ونحن مازلنا أسري لنفس التناقض الذي يعاني منه الإسلام حيث يري إنه الأصح في مواجهة العالم، فنحن أيضا لا يمكننا أن نتصور أن مبادئنا من الممكن أن تطور وتثمر بالتواصل مع الآخر..." وبالتأكيد، مثل هذه التصريحات، جعلت لشتراوس الكثير من الأعداء، في الغرب وفي العالم الإسلامي علي حد سواء . وفقا لأحد طلابه السابقين، "رفض ليفي شتراوس بشكل منهجي الحديث عمن يكون ... كان فقط يتحدث عن الجنس البشري". لم يترك نفسه أبداً حبيس دولة، أو مجتمع، أو حضارة، أو عقيدة. هل هي الأنثروبولوجيا؟ نعم بلا شك. ولكن موضوع بحثه لم يكن الإنسان البدائي ولكنه كان الإنسان بكل بساطة، فمن الصعب للغاية، أن تقول لعالم الأنثربولوجيا أن يدرس الخرافات والأساطير في مجتمعه في حين أنه لا يوجد صعوبة في ذلك عندما تدرسه فيما يسمي القبائل الغريبة. إننا نحتاج لذلك لأن نعيد التفكير في المجتمع نفسه كما هو، فنحن الذين نعيش في البلاد المتقدمة لا نريد الاقتناع بأن رؤيتنا للماضي هي التي تحكم المعرفة التاريخية في حين أن الشعوب البدائية تحكمها الأساطير بكل بساطة. دعانا ليفي شتراوس أن نكون أكثر تواضعاً: " فالأساطير ماهي إلا إضفاء شرعية علي النظام الإجتماعي وتحديدة وجهة نظر عن العالم وهو نفس دور حضارتنا عندما تحكي التاريخ وأضاف :"لا شئ يشبه الفكر الأسطوري أكثر من الفكر السياسي ." لم تعتمد فقط ملاحظة زميلكم للإنسان علي المثل العليا ولكن أيضا علي منهج علمي واضح، ولقد رأي أن علم الإنسان والعلوم الإجتماعية بشكل عام لا تقل أهمية عن العلوم التطبيقية ومبنية أيضا علي أسس علمية، ورحل العالم الجليل في 30 أكتوبر بعد أن دافع طوال حياته عن المساواة بين الشعوب أيها السيدات والسادة في الأكاديمية، عندما يكون لديك ميزة أن تولد في أسرة مثل أسرتي، لا يمكنك المضي خالي الوفاض، وإذا كنت هذا الضيف من بلاد الشام، الذي يحمل كل الامتنان تجاه فرنسا وتجاه لبنان، أحمل معي الآن كل شيء أعطتني أوطاني إياه : خلفيتي، لغتي، لهجتي، قناعاتي، شكوكي، والأهم من ذلك كله ربما أحلامي الدائمة بالانسجام والتعايش والتقدم. تلك الأحلام التي تتم محاربتها اليوم ، جدار يزداد ارتفاعه في منطقة البحر المتوسط بين العوالم الثقافية المختلفة التي ذكرتها، هذا الجدار، الذي لم أحسب حسابه في التنقل من ضفة إلي أخري، انه جدار الكراهية - بين الأوروبيين والأفارقة، بين الغرب والإسلام، بين اليهود والعرب. طموحي في هدم ذلك الجدار، كان دائما دافعاً لي للعيش، وسبباً للكتابة، وسأواصل تلك الجهود داخل مؤسستنا تحت ظل أجدادنا . وتحت عين ليفي شتراوس".