في بدايات عام 2015 كنت ضمن فريق تنظيم مهرجان القاهرة الأدبي الأول، وكانت مهمتي الأساسية بعيدة تماماً عن التواصل والتعامل مع الكتاب الضيوف، فقد كنت أتولي مسئولية تنظيم الفعالية. وبالرغم من كون المهرجان فرصة عظيمة جداً للاحتكاك بأدباء وثقافات من بلاد مختلفة إلا أنني لا أتذكر منهم إلا القليل كالكاتبة الأستونية كادلين كالدما التي رافقتني في لقاء تليفزيوني قصير للحديث عن المهرجان وكاتب أيرلندي آخر لم أتذكر اسمه إلا منذ شهور قليلة.. كان هذا الرجل ذا حضور هاديء ولطيف، وكان يدير ندوته الكاتب الصديق عبد الرحيم يوسف، وخلال الندوة قُرئت ترجمة لقصة من قصصه عن شخص قرر الانعزال عن الواقع والإقامة في حمام منزله. نالت القصة باللغة العربية استحسانا من الحضور وكنت من ضمن المعجبين بها، وحينما قام الرجل لقراءة قصته باللغة الأيرلندية جذبتني موسيقي اللغة وطريقة الإلقاء.. بعد الندوة تصافحنا أنا والكاتب وتحدثنا قليلا وقبل أن ينصرف صافحني مرة أخري وقال » سعيد لرؤيتك.. وأتمني أن نتقابل مرة أخري في هذا العالم الصغير». بعد سنوات وفي يناير 2018، زُرت جناح دار صفصافة للنشر في معرض القاهرة الدولي للكتاب، وقابلت مديرها الناشر محمد البعلي والمترجم عبد الرحيم يوسف ورشحا لي رواية أيرلندية تسمي »بين الرجال» لكاتبها ميهال أوكونيل وذكرني عبد الرحيم بأن الكاتب هو نفس الكاتب الذي قابلته في المهرجان في دورته الأولي، سعدت جدا بها وتذكرت كلمات الرجل عن ذلك العالم الصغير. الرواية تحكي في قرابة الثلاثمئة صفحة عن شاب أيرلندي مثلي الجنس يعيش في أواخر الألفية الثانية،وتعرض لنا عاماً مهماً في حياة البطل الباحث عن السعادة والذات بين قريته الريفية كونامارا والعاصمة دبلن، فتحكي لنا في سرد خفيف وسلس عن حياته وعلاقاته ومعاناته كما أي مثليّ في مجتمع ريفي محافظ يدفعه لعدم الافصاح عن هويته المثلية فيلجأ للخروج إلي العاصمة وينغمس تدريجيا في عوالم المثليين السرية هناك. واقع مشابه في يوليو 2012 وافق المجلس الأيرلندي علي تعديل دستوري يسمح بزواج المثليين وتم الاستفتاء عليه في مايو 2015 حيث صوت 62 % من الناخبين بالموافقة علي زواج المثليين لتُصبح أيرلندا الدولة الأولي التي تسمح بزواج المثليين بعد استفتاء. هذا الواقع الذي يعيشه المثليون في أيرلندا حاليا يختلف كثيرًا عن الواقع الذي عاش فيه بطل الرواية في أواخر تسعينات القرن الماضي، والملاحظ من الرواية أن ما كان يقابل المثليين في المجتمع الأوروبي » الأيرلندي خاصة» هو ما يقابلهم في مجتمعنا المصري والعربي الآن حتي وإن اختلفت الثقافات أو اختلفت الأزمان، فالخوف من الفضيحة الذي هو السمت المميز لأغلب العلاقات المثلية في وطننا العربي نجده هاجسا للبطل في قرية صغيرة في أيرلندا وحتي وإن غادرها إلي دبلن العاصمة، والسخرية والتهكم والتحرش بالمثليين كمشهد معتاد في بلادنا نجده من خلال الرواية مشهدا غير مرفوض في المجتمع الأيرلندي. وكما هنا أيضا فالهروب من الإدانة والتخفي هما السبيلان الأوحدان للمثليين كي يعيشوا في سلام، فنجد في الرواية وعلي لسان البطل: »لا عجب أن المثليين من الرجال كانوا يخبئون حقيقة أنهم مثليون، هكذا فكرت، يعيشون حياتهم في نعوش من صنعهم؛ ولا يستطيعون أبدا أن يكونوا أنفسهم إلا بين المثليين الآخرين، في البارات أو الملاهي أو في المنتزه الأسود المظلم. كل شيء تحت ستار الليل؛ محبوسون داخل زنازين سجن سري، كأشخاص مُدانين .» الحب والتناقضات الصراعات النفسية التي يعيشها البطل والعلاقات الاجتماعية المُعقدة أيضا تعطيان للرواية بعدا إنسانيا يبعث برسالات عديدة أغلبها يدور في فلك الحب، فالحب في الرواية هو البطل، حب البطل لعائلته، لعمته، لجده، حبه لحبيبه الذي قرر أن ينهي علاقته به فجأة، وحب الحياة الذي يتجلي في لحظة شك البطل في إصابته بالإيدزومروره بفترات من الاكتئاب ثم استقباله لخبر نتيجة التحاليل. كنت أشعر أحيانا كثيرة وأنا بين صفحات الرواية بكم من التناقضات النفسية لدي شخصيات الرواية تعكس تناقضات المجتمع التي تدور أحداثها بداخله، النشأة المحافظة والنقمة علي السلطة الباباوية، القرية الهادئة وصخب العاصمة، أندية المثليين والمنتزهات الخاصة بهم والأمن الذي يدعي مطاردتهم حينا ويختفي أحيانا، والبحث عن حقيقة الذات واليأس والانجراف. فنقرأ منها علي لسان البطل : » لا أريد أن أكون مختلفا، أن يتوجب عليَّ التخفي، أو ارتداء قناع طوال الوقت. الحياة هي الألم، مرارًا وتكرارًا. يجب عليّ أن أعيد تعلم كل شيء، مرَّة بعد مرَّة. وليس هناك ملاك حارس كي يرشدني، يجب عليّ أن أجد طريقي بنفسي، ويدي في يد شخص غريب معظم الوقت، ويبدو أنها يد غريب أعمي.» أخيرًا فإن الرواية تحمل كما كثيفا من الإنسانيات والتراجيديا والموت والحب، ومشاهد سردية بديعة.وطريقة السرد في ذاتها مفتاح مهم للانجذاب للرواية، حيث ينقلك الكاتب ببساطة وبخفة من مشهد لآخر، من مدينة لأخري، من حانة إلي منتزه، وكل ذلك دون أن يفلت زمام سرده أو يشعرك بملل قد يقطع ذلك الخط السحري بينك وبين الرواية. وبمناسبة السرد فإن جزءا من جمال العمل يُنسب فضله لمترجمه عبد الرحيم يوسف الذي جعلني لا أشعر بغرابة الأسماء ولا الأماكن ولا الأحداث، ونقل الرواية وكأنها كُتبت بالعربية كلغة أصلية. الرواية هي الوحيدة لكاتبها حتي الآن ، ذلك الرجل الذي يكتب بالأيرلندية لغته الأم، وتترجم أعماله إلي لغات عديدة منها الرومانية والكرواتية والألبانية والسلوفينية والألمانية والبولندية والمقدونية والإنجليزية والعربية، وترجمت له أعمال قصصية بعنوان » حقائق ملتوية » ونُشرت عن دار نشر صفصافة الناشرة لرواية بين الرجال. في الواقع أنني استمتعت جدا برفقة هذا الكتاب، وأتمني أن تصادفني أعمال مُترجمة تضاهي روعته بدلا من ترجمات جوجل المُعبأة في كتب مخيبة للآمال.