في هذه المجموعة (من الأدب الأردي قصص قصيرة) الصادرة حديثا عن الهيئة المصرية للكتاب، سنجد قصصا لكتاب متنوعين من الباكستان والهند، ومعظمهم كتبوا هذه القصص في النصف الأول من القرن العشرين إبان انفصال شبه الجزيرة الهندية إلي جزءين، تعكس آلام الانفصال، وتدق بقوة علي المشاعر الإنسانية المصاحبة لهذه العملية، وما يمور داخلها من آثار نفسية واجتماعية سلبية، تترك شخوصها مشوهة أو ضحايا،ويفضح الألاعيب السياسية وما تفعله بالشعوب، وما تتركه من أمراض كالثأر وتزكية العداوات، وهذا أحد المخلفات التي تركها الاستعمار البريطاني، فالهند مع استقلالها أصبحت مُقسمة إلي قسمين: الهند وباكستان!هذه القصص تلعب في الضفاف الخلفية العميقة للشعب الهندي بِشِقيه؛ فاضحة هذا الاستعمار البغيض، بما تكشفه من جروح غائرة داخل الروح الهندية، تبدأ المجموعة بقصة لسعادات حسن منتو المهموم بقضايا الانقسام فنجد في القصة الأولي (شريفن) عمق الثارات التي جاءت عن طريق الدين، فالبطل قاسم الذي عاد إلي بيته مصابا فوجد زوجته مقتولة، خرج مسرعا كمن أصيب بلوثة ليمسح عارا أصابه، فيضرب كل من يصادفه في طريقه إلي أن يدخل بيتا هندوسيا فينّقض علي فتاة ليقتلها بعنف بعد أن رماها أرضا كمتوحش وجد فريسة بعد بحث شاق: "استغرق قاسم في ممارسة انتقامه لنصف ساعة تقريبا، ولم تبد الفتاة أي مقاومة، لأنها غابت عن الوعي بمجرد أن سقطت علي الأرض. عندما فتح قاسم عينيه كانت مطبقتين علي عنق الفتاة، وبدفعة منه أبعدها عن نفسه ووقف غارقا في العرق ونظر تجاه الفتاة حتي يشفي غليله." في القصة التالية الأكثر إبداعا نري عملية تبادل المجانين بين الهند وباكستان عقب الانفصال، وهو يستعرض مُتخيِلا ما يدور بعقولهم المريضة، فيعكس لنا تفاهتنا نحن العقلاء؛فالأرض واحدة، والدين لله، ولنا أن نتعايش عليها إخوة جميعا، ولا يُفرقنا المعتقد، أو أي أيديولوجيا، ويُصور الكاتب هذا تصويرا بديعا عبر بطله، حين يرفض الخروج من مستشفاه للجانب الآخر، متشبثا بموقفه إلي أن يموت:"كان معظم المجانين ضد عملية التبادل هذه، لأنهم لم يفهموا لماذا يتم اقتلاعهم من مكان ليلقي بهم في مكان آخر"!!مما يجعلنا ننتبه إلي خطايانا، ولا نتمادي في العداوات والثارات القديمة، ونتعايش سويا، للكاتب المبدع سعادات قصص ومضة داخل هذه المجموعة، يُجيد اللعب فيها بالتكثيف والتلخيص ليعطينا فكرته بأقل الكلمات ففي قصة: "صفقة خاسرة"، نجد شابين يشتريان فتاة ليلهوا بها، ويفعلا معها الفاحشة، وعندما سألها أحدهما عن دينها، بعد ممارسته الرذيلة معها، فيكتشفان أنها علي دينهم، فيفرا، لإرجاعها لِمن باعها لهما! مما يجعل القارئ يُفتش في انسانيته متعاليا فوق مُعتقده: "تقابل صديقان، واختارا فتاة من بين مجموعة من الفتيات، واشترياها باثنتين وأربعين روبية، وبعد أن قضي أحدهما ليلة كاملة معها سألها: ما اسمك؟ اخبرته الفتاة باسمها فاستشاط غضبا (لقد قال لنا إنك علي دين آخر). ردت الفتاة: كان يكذب. سمع هذا فهرول إلي صديقه وقال لقد خدعنا ابن الحرام هذا، اعطانا فتاة علي نفس ديننا، هيا نعيدها إليه." ونطالع قصة أخري ومضة: "راحة ضرورية"، التي تعكس رجلا تعب من ممارسة القتل يقول سعادات: "لم يمت أنظر، ما زال حيا دعه يمضي يا أخي فقد تعبت!" هذا كاتب كبير استطاع تقديم أدب رفيع لبني وطنه وللإنسانية جمعاء. الكاتب التالي في هذه المجموعة هو كرشن جندر، وتأتي قصصه في نفس الإطار فهو يلعب علي الهوس الديني والكراهية والظلم الذي جاء بفعل الاستعمار، القاص أحمد نديم قاسمي في قصته "برمشير سنج" يحكي قصة أختر المسلم الذي فقدته أمه في السوق، والتقطه رجل من طائفة السيخ الذي انتقل للعيش ببيت مسلم هجره صاحبه بعد انتقاله لباكستان، وأصبح يسمع أصوات تلاوة القرآن تأتيه من حوائط المنزل دلالة علي عمق تديّن صاحبه السابق، وربما ليقول لنا لندع الناس يعبدون ما يحبون ونتعامل علي مستوي إنساني، فالدين في الأخير علاقة روحية تُطمئن الانسان علي أسئلته الكبري، يتفاني في محبة أختر المسلم وينهر امرأته المتعصبة لطائفتها، ويدافع عنه حتي رحيله لقريته المُسلمة يقول موبخا امرأته التي تريد أن تفتك بأختر المسلم: "كرتار ابنه السيخي وأختر؛ خلقهما إله واحد؛ ألا تفهمين!" خديجة مستور هي صاحبة القصة الأخيرة في المجموعة بعنوان: "إنهم يذهبون بي يا أبي"، تأتي علي لسان شخص يتذكر حادثة وهو يتابع فقاقيع الصابون التي سرعان ما تتبخر أو تتوقف، وهي عن أناس يقتحمون منزلا وتعلو وجوههم علامات الانتقام فيحاول تهدئتهم لكنهم يردون: "أين كانت الإنسانية حين كانت دماء أمهاتنا وأخواتنا تراق، أين كانت الإنسانية ربما كنتم تنامون مع الإنسانية!"فيتابعون اقتحام المنزل ويخطفون فتاة وهي تُهندم شعرها وهو من فرط تعلقه بنظرة الفتاة المستغيثة لا يستطيع عمل شيء: كان الصمت يلف المدينة وفي هذا المبني كذلك ابتلع الموت الجميع كان الخراب المفزع، لا أثر للحياة من قريب أو بعيد بينما كانت تتزين، عندما ذهبوا بها كانت صامتة، كبلت عقله وقلبه يداها المفتوحتان. وبعد تذكره هذا انتهت فقاعات الصابون وتوقف جريان الماء، ليدفعنا لتأمل مصائر حزينة تذهب حياتها هدرا، وربما أخذت مجتمعات بكاملها في أتون حزازات عرقية أو دينية تعصف بأحلام الانسان وتُضيع حياته بدلا من عيشها والامتلاء بها! القصص كتبت في بدايات القرن العشرين تنحو كلها إلي الواقعية والتقرير وتمتح من الواقع الثقيل الذي يتحرك فيه كاتبوها وكثيرا ما تغيب عنها العناصر الفنية، وهذا لا يُقلل من قيمتها لعلها استشرفت دعوة سارتر إلي الأدب الملتزم وارتباط الكُتّاب بقضايا وطنهم.