صباح غير كل الصباحات. فنجان شاي مع الأستاذ هيكل، استغرق 50 دقيقة، في صباح مُشمس في مكتبه علي النيل، مودة ليس بالإمكان إخفاؤها، ولقاء لا أستطيع تجاوزه.. ليس حواراً صحفياً بالتأكيد، ليس ثمة تسجيل، ليس ثمة جمل مكتملة، أو عبارات منتظمة.. لفنجان الشاي حدودة وشروطه، والانطباع الأول ليس سهلاً.. يبدو بسيطاً، ربما، لكنه ليس كذلك.. يبدو متواضعاً، ربما، لكنه ليس كذلك.. ثمة مسافة محسوبة بعناية ودقة (الدقة المتناهية) قيمة لا يتنازل عنها الأستاذ هيكل، و(الهدوء) قيمة أخري، وهو الملمح الأساسي الأهم والانطباع الذي يدوم طويلاً.. لفت نظري غياب الهاتف، الهواتف بكل أنواعها.. لا صوت يقطع ذلك الهدوء. لفنجان الشاي حدوده وشروطه، لكن (لا شيء يثبت أني أحبك غير الكتابة) هكذا يمكن أن أستعير صوت محمود درويش، وأنا أحاول أن أمسك بلقاء يعنيني منه الكثير. علي صفحات "فيسبوك" قبل أسابيع، كان هناك حوار ممتد بين مجموعة من الشباب حول موهبة هيكل الاستثنائية، تابع هيكل نقاش الشباب حوله، لم يعلّق كثيراً كعادته، لكنه أبدي دهشة من مبالغات البعض في رسم صورته.. كتب أحدهم (ترأس هيكل مجلة آخر ساعة وعمره 22 سنة، وكانت تُخصص له طائرة، في كل تحقيق صحفي، أو لتغطية مؤتمرخارج الحدود)!! وكتب آخر كيف كان هيكل (مستهدفاً من دوائر محلية ودولية، تهتم بصناعة النجوم)!! لا يتوقف الأستاذ كثيراً أمام معارضيه، لكن حوار الشباب حول الحرية، والعلاقة بالمؤسسة، لفت انتباهه.. "30 عاماً في الأهرام، و35 عاماً خارجها، علي هذا المكتب، أنجزت فيها تلك الكتب (وأشار إلي مكتبة بجواره).. الجيل الجديد لا أحد يستطيع أن يقف أمامه، التيار الجارف ليس بالإمكان إيقافه، حالة من التمرد، والغضب.. الإنكار لكل شيء، كأنهم يبدؤون من جديد، وكأن لم يكن هناك محمد علي، ولا محمد عبده، ولا طه حسين، ولا محمود مختار، ولا عبد الناصر، فورة عارمة وغضب لا ينتهي، لكن لابد لنا من استيعاب كل ذلك الغضب، وقبوله، وتفهّمه". الدستور قضية جوهرية مواعيد نوم هيكل لم تسمح له بمتابعة المناظرة الرئاسية بين عمرو موسي وعبد المنعم أبوالفتوح كاملة، شاهد ساعة، وفي اليوم التالي أكمل الجزء الثاني عند الإعادة. - هل لي أن أسالك عن صوتك؟ - ربما لن أذهب للانتخابات، كيف يتم انتخاب الرئيس، قبل وضع دستور يحدد مهامه وصلاحياته.. مسألة الدستور قضية جوهرية عند هيكل، مال قليلاً وسحب بضعة أوراق كبيرة (في الأغلب هي صورة لدستور 23) قلب صفحتين، ثلاثاً، بدا كما لو كان سيقرأ لي فقرة من الدستور، لكنه طوي الأوراق وقال: في دستور 23 كان من الممنوعات دخول عامل الي البرلمان، أو الحديث حول ذلك، لكن عبد الناصر أتي ب50٪ عمالاً وفلاحين، الأمور اختلفت، والقضايا، والمشاكل، والدستور يجب أن يعي متغيرات العصر. قلت: عن نفسي سأذهب الي الانتخابات، فأنا مع الفكرة كفعل أول في حياتنا السياسية، أن نختار رئيساً، ومن بين 13 مرشحاً.. هذا إنجاز! قال: لمن ستعطي صوتك؟ قلت: أنا ضد الجميع، لكن سأختار الأقل سوءاً. قال: ليس هذا اختيار، ولكن قبول! قلت: أنا أقبل حمدين صباحي، أختار برنامجه لأنه الأقرب لقناعاتي ومواقفي، وربما لأنه أيضاً ناصري. قال: حمدين كويس. الغاضب هو السادات وليس أنا للعلاقات الإنسانية مكانتها وتقديرها لدي هيكل، الخلافات السياسية لا تعني القطيعة، أحب السادات ولا يزال، وأحب أسرته وأولاده، ورأي في جيهان السادات سيدة ذكية، وطدت الكثير من الصلات بين السادات ومن حوله.. قلت: هل تحب كتابك "خريف الغضب"؟ قال: أحب كل كتبي. قلت: لكنه كتاب غاضب. قال: الغاضب كان أنور السادات وليس أنا.. ولماذا أغضب؟ لقد مارست حقي، ومارس هو سلطته، اعتقلني ثلاثة أشهر، واغتيل.. أنا دائماً ضد الاغتيالات وضد القتل. لقد كنت أعتقد دائماً أن السادات لم يكن خائناً، ولكنه مارس اجتهاداً اختلفت معه، فقد كنت وما أزال أعتقد، أنه ليس بالإمكان السلام مع إسرائيل، والحوار معها، لقد حاول يوماً "كسينجر" دعوتي علي العشاء مع "ابا ايبان" ورفضتُ طبعاً، قلت له إن ذلك مستحيل، حاول أيضاً مصطفي خليل ولم يُفلح.. أحياناً أتصوّر، إذا التقيت بعبد الناصر كيف أخبره أنني التقيت بإسرائيليين؟! بالتأكيد مبررات هيكل لعدم الحوار مع إسرائيل عديدة وموضوعية، لكن صورة عبد الناصر التي أطلّت بشكل تلقائي، تعكس كم هو عميق وحاضر. شرفة مفتوحة علي سطح البيت ما أن أمسك بكتابي "نساء حسن سليمان" حتي أشار إلي لوحة الغلاف لفتاة الجمالية بجلبابها الأخضر الداكن، ومنديل رأسها الأحمر الباهت، وجسدها الأنثوي الحاضر.. (هذه اللوحة في بيتي في "برقاش" ، وهناك أيضاً لوحة أخري غير معروفة، تصوّر راهبتيْن تقفان أمام باب الدير).. أنا أحب حسن سليمان، وأحب أعماله، تعرفت عليه منذ زمن، عرفني به شادي عبد السلام، ربما استسلم في سنواته الأخيرة.. قلت: دخل في الاستهلاكية.. قال: أنت التي تقولين ذلك.. أذكر قبل وفاته أنه أقام معرضاً ضم 50 لوحة لآنيتيْن فخاريتين، اللوحات مُتشابهة، الفارق فقط هو الضوء، أو بعض درجات اللون، واعترضت علي تقديم مثل هذه التجارب للجمهور.. قلت: علي العكس، هذا المعرض تحديداً (أقيم علي مسرح الهناجر، وضم 41 لوحة) كان يُمثّل تحدّياً جمالياً، فقد كانت اللوحات علي تشابهها تعطي إحساساً مُختلفاً.. للفن التشكيلي والفنون عامة، مكانة مميزة في ثقافة هيكل، فهو واحد ممن يعتقدون أن (الفن) هو الأب الحقيقي للثقافة في مجالاتها كافة، وأن الفنون التشكيلية تحديداً هي الحلقة الرئيسية في قصة الصعود المدهش علي سلم الحضارة الإنسانية.. عند تأسيس الأهرام، حرص علي إرساء تقليد حضاري، باقتناء أعمال فنية لكبار الفنانين (تجاوزت 700 عمل فني بين التصوير الزيتي والنحت والجرافيك والخزف والجداريات، ومنها لوحة »السيدة الجالسة ذات العيون العسلية« لمحمود سعيد والتي يُقدر ثمنها بتسعة ملايين) والأهم الحرص علي رعاية الكُتّاب والأدباء والفنانين..أتي هيكل بتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وصلاح طاهر، ومحمود درويش، ويوسف إدريس. سأله الحكيم: مالذي تريدني أن أفعله في الأهرام؟ قال هيكل: لا شيء. يمكنك أن تتناول الغذاء مع الشباب في مطعم الأهرام! ضحك الحكيم: شرط أن يكون ذلك علي حسابك! رعاية الفنان موقف يُؤمن به هيكل، فالفن بحاجة إلي رعاية الأمير، أو الدولة، أو المؤسسة، وهو ما فعله عبد الناصر بقانون »التفرغ«.. أتصور أن بيته الريفي في قرية "برقاش"،علي أطراف القاهرة، متحف مفتوح يضم أعمالاً لكبار الفنانين المصريين والعالميين، محمود سعيد، عبد الهادي الجزار، صلاح طاهر، محيي حسين، حسن سليمان، أحمد صبري، إنجي أفلاطون، سيف وانلي، حامد ندا، وكثيرين. ثلاثة فنانين فقط الذين يحتفظ هيكل بلوحاتهم في بيته بالقاهرة، ( تحيةحليم، وراغب عياد، ويوسف كامل). كتب يوماً عن لوحة "الدراويش" والتي أهداها إليه يوسف كامل (وأظنها هي اللوحة التي يحتفظ بها في منزله) "إن ما لفت نظري في اللوحة، هي حركة الدرويش الذي أمسك بالرق وفني بكيانه كله، وسط حلقة الذكر، مشهد من لحم ودم، وفوق الحركة الحيّة، كان في الصورة ذلك الطابع الذي يُميّز أعمال يوسف كامل وهو ضوء الشمس الغامر، الذي يلمع في كل لمساته، ويتسرب إليها من الطبيعة المصرية المشرقة". لتحية حليم خصوصية، وحضور مضيء لدي هيكل، صديقة كان يحرص علي الحوار معها في مرسمها، أو في مكتبة، وصفها يوماً ب(الفنانة الحائرة بين القطط المقيمة، والعصافير المسافرة). وفي افتتاح معرضها، الذي أقامته الجامعة الأمريكية بعد رحيلها 2004 كانت كلمة هيكل الممتعة.. (عند نافذة الغرفة التي تعمل فيها، كانت هناك شرفة عريضة مفتوحة علي سطح البيت، وعلي الشرفة دائماً وعاء فيه حبوب مجروشة مما تأكله الطيور، ومن الغريب أن الطيور العابرة، اكتشفت شرفة "تحية" واعتادت زيارتها، لتجد هناك طعاماً تأكله، وماء تشربه، والطيور العابرة تقبل الدعوة بسعادة، وحين تحصل علي ما يكفيها، فإنها تتلفّت حولها، وتتطلع إلي الأجواء أمامها، وتفرد أجنحتها وتطير، وتروح "تحية" تتابع الطيور المسافرة، ثم تعود إلي القطط النائمة، وفي عينيها تعبير غريب، فيه ومضة من الفرح، تلحق به سحابة من الحزن، كأنها تريد أن تمسك به وتحجبها).