وفي الليلة الخامسة والثلاثين بعد الخمسمئة، قالت شهرزاد: "بلغني أيها الملك السعيد أن شمسة قالت لأُختيها روحا إلي أهليكما وأعلماهم بما جري لي مع جانشاه. ثم أنها طارت من وقتها وساعتها وسارت في الجو مثل هبوب الريح والبرق اللامع". وبهذا تكون السيدة شمسة التي طارت من وقت الضحي إلي وقت العصر، حاملة حبيبها جانشاه علي ظهرها، قد سبقت بعدة قرون ريميديوس الجميلة، أصغر بنات دون أبولينار موسكوت في رواية "مئة عام من العزلة"، في الطيران والإرتفاع إلي السماء. في ربيع 1982، إلتقيت بغابرييل غارسيا ماركيز عندما كان عضواً في لجنة تحكيم مهرجان "كان" السينمائي الخامس والثلاثين، ولم أكن قد قرأت له سوي "مئة عام من العزلة" و"خريف البطريرك". ولما أخبرته بأن الشاعر السوفياتي يفتوشنكو قال في حديث لمجلة "الوطن العربي" إنه يعتبره أفضل كاتب في العالم ولا يفهم كيف تفوته جائزة "نوبل"، ابتسم بتواضع ووافق علي أن ألتقط له الصور وهو يقف في الشرفة العلوية الفسيحة لقصر المهرجان، يتأمل البحر. وشجعني لطفه فقلت له إنني صحفية من العراق وأتمني إجراء حوار معه. وأخرج من جيبه ورقة سجل عليها، بالتسلسل، أسماء الصحفيين الذين سبقوني إلي مثل ذلك الطلب وأضاف اسمي في آخر القائمة. كان رقمي السادس والثلاثين وفهمت أن المقابلة لن تتم، ومع هذا أعطيته رقم هاتف الفندق المتواضع الذي كنت أنزل فيه. في الثامنة من الصباح التالي طرقت صاحبة فندق "روبير" باب حجرتي قائلة إنني مطلوبة علي الهاتف. وسمعت صوت غابرييل غارسيا ماركيز يدعوني لتناول الفطور معه في "الماجستيك"، أفخم فنادق المدينة. وهرولت إلي هناك، فوجدته ينتظرني وقائمة الصحفيين في يده وقال إنه تغاضي عن الترتيب واستدعاني قبل الآخرين لأنني من تلك البلاد... بلاد "ألف ليلة وليلة"... أول كتاب قرأه في حياته. نشرت المقابلة في "الوطن العربي" وبعدها بخمسة أشهر نال ماركيز جائزة "نوبل" في الأدب. وكان مما قاله فيها أنه وجد "ألف ليلة وليلة" في البيت الذي نشأ فيه، ولا يعرف أي ترجمة كانت تلك، لكنه يذكر أنها احتوت علي الأحداث فحسب، من دون تعليقات أو أشعار. وأضاف: "لقد كانت الأحداث مثيرة إلي درجة ورطتني بالأدب منذ ذلك الحين". كنت مسرورة بمقابلته، لكن لم تدخل عقلي حكاية اختياره لي لأنني من بلد ألف ليلة، ولم أُصدق أن ذلك الكتاب كان فاتحة قراءاته وهو، بعد، طفل يتهجي الحروف. وانتظرت ربع قرن من الزمان لحين قراءتي "عشت لأروي"، مذكرات غارسيا ماركيز التي ترجمها صالح علماني، وفيها أكد أن كتاب الليالي كان موجوداً، بالفعل، في مكتبة جده في بيت العائلة في أراكاتاكا. لاشك أن شمسة، وهي كالبدر الطالع والغزال الرائع كما وصفتها شهرزاد، كانت في طيرانها أشطر من عباس بن فرناس. وقد طلبت من الولد الكولومبي غابرييل أن يركب علي ظهرها وطارت به مسيرة ثلاثين شهراً ثم "نزلت به من أعلي الجو إلي مرج فسيح ذي زرع مليح فيه غزلان رائعة وعيون نابعة وأثمار يانعة وأنهار واسعة، وجلس وجلست بجنبه وقعدا في أكل وشرب ولعب وضحك" حتي كبر الولد وكبر معه سر شمسة. ولما صار بدوره حكّاء لا يشق له غبار، وضعه بين كفي ريميديوس الجميلة، هذه التي طارت الشراشف المنشورة علي حبل الغسيل، معها، وهي ترتفع إلي السماء.