محمد وردى يمثل تعامل الإعلام المصري مع خبر رحيل الفنان السوداني الكبير محمد وردي فضيحة كاملة،علي الصعيدين المهني والسياسي، فبينما اهتمت بالخبر وسائل اعلام عريقة مثل البي بي سي ووكالات الانباء العالمية وصحف عربية مثل الحياة والشرق الاوسط والاخبار البنانية لم يجد الخبر مكانا في الصحف المصرية يليق ومكانة الفنان الكبير أو علي الاقل يلائم العلاقات التاريخية بين الشعبين المصري والسوداني وكان بإمكان الصحف المصرية الكثيرة الاعتناء بالخبر علي الأقل لمغازلة الجالية السودانية في مصر وهي الجالية الأكبر ولا يمكن قراءة هذا التجاهل الا ضمن شعور عام سيطر علي محمد وردي خلال سنوات اقامته في مصر، اذ لم يجد الرجل اهتماما يتجاوز فضاء الجالية السودانية وبعض النوبيين الذين قدروا أعماله الفنية وكان يقول في أسي وسخرية " سأبقي هنا في ركن السودان " في اشارة لاذعة الي الاذاعة الوحيدة التي كانت تقدم أغنياته ولا احد يعرف مصيرها الآن كما لا نعرف طبيعة علاقتنا مع السودان . عندما عاش وردي في مصري خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات لفترات متقطعة كان الصوت الموسيقي المهيمن هو موسيقي حميد الشاعري المعتمدة أصلا علي الايقاعات والتراث الليبي ووسط هذا الصخب استثمر الشاعري الايقاع الخماسي الذي وفرته ألحان الراحل الكبير أحمد منيب الذي تناسلت من ألحانه، مقطوعات كثيرة نهبها ملحنون جاءوا بعده ووجدوا في التراث النوبي وبعض الحان بليغ حمدي مجالا للنهب الذي تواصل بعد ذلك مع موجات الغناء الخليجي التي جاءت مدعومة بنفوذ شركات انتاج كبري كانت معنية أساسا بتجريف التراث المصري وأصابته بحمي التسليع. وفي يقيني أن ثقافة محمد وردي التي كان مصدرها انتمائه اليساري الواضح وفرت له دائما أسوار لحمايته من هذا المناخ الاستهلاكي علي الرغم من الشيوع الذي وجدته ألحانه في الخليج بفضل وجود جاليات سودانية كبيرة هناك الا أن موسيقاه ظلت عصية علي التدجين ،لأنه لم ينظر الي ما يقدم الا بوصفه رسالة تنويرية مدعمة بمتعة لم تكن خافية علي عشاقه. ومثل أغنيات الشيخ أمام عيسي التي ظلت مقرونة ب" أيام الغضب " طوال الثلاثين عاما الأخيرة لعبت أغنيات وردي الدور نفسه في السودان، منذ نجاح ثورة (أكتوبر) 1964 التي أطاحت نظام الفريق إبراهيم عبود، مقدماً الأنشودة التي وصفهأ المؤرخ الموسيقي السوداني معاوية يس " برديفً لتلك الثورة الشعبية وهي أغنية »أصبح الصبح« من تأليف الشاعر محمد مفتاح الفيتوري. لم يكن الدور الذي لعبته أغنيات وردي خاليا التحريض لكنه أيضا لم يكن خاليا من المتعة الفنية ومن جماليات مستمدة من المنابع الصافية للفن ومثلما راهن امام علي موهبة نجم ونجيب شهاب الدين وزين العابدين فؤاد ونجيب سرور أعطي وردي نفسه الي أشعار اسماعيل حسن ومحجوب وشريف محمدمفتاح الفيتوري. وعلي الصعيد الشخصي لا أزال اعتبر أغنية " القمر بوبا " التي كتبها اسماعيل حسن وأغنية "أحبك أنا مجنونك " لمحجوب شريف -وقد عرفت الاغنيتين من عشرين سنة بفضل صديقي المطرب محمد بشير - من أجمل أغنيات الغزل في تاريخ الغناء العربي، لانهما استندتا بصورة رئيسية علي ثيمات من البيئة السودانية وصور شعرية بكر، قادمة من نهر صافي لا عكار فيه وساعد علي شيوعهما عذوبة صوت وردي والطريقة المبتكرة في ادائه وهي طريقة مسرحية اعتمدت بصورة واضحة علي الحوار مع الجمهور، لذلك لا ينظر السودانيون الي صوته باعتباره صوتا للبهجة. تجاوز فضاء الغناء السوداني المغلق علي ايقاعاته الخماسية و سعي الي تضفير موسيقاه بنبرة شرقية يصعب تفاديها كان مصدرها الرئيس هو الموسيقية المصرية، ونال لقبا كبيرا هو فرعون أفريقيا وكما اشرت فأن علاقة وردي بمصر مثلت "جرحا خاصا " لان شهرته فيها ظلت " منقوصة "حتي بعد ان قدم محمد منير اغنيتين من اغنياته هما " وسط الدايرة، وقلبي مساكن شعبية اذ ظل منير متهما من قبل عشاق وردي باتهامين الاول هو اهماله والعجز عن تقديمه للفضاء المصري العام والاتهام الثاني تعديل الكثير من مفرادات تلك الاغنيات ب"تشويه "معانيها وتمصيرها ،غير ان هذا الاتهام المتطرف لم يمنع عشاق وردي من الحفاوة بما قدمه منير لمطربهم الكبير. مات وردي فعلا ولا زال السودانيون غير قادرين علي التعامل مع خبر يسرق منهم أحد أبرز تفاصيل حياتهم اليومية لكنهم سيتذكرونه كلما مروا أمام النهر ، فكما لدي السودان نهر أبيض وأخر أزرق فأن لهما أيضا نهر ثالث هو صوت "وردي "