(المَمَرُّ)، كان اسمَ الفندقِ الذي وضعوهُ علي أطرافِ المدينةِ الباردة، نوافذُهُ في الّليلِ، كانت تبينُ لنا من بعيدٍ كثقوبٍ في خيمةٍ، نُحدَّقُ فيها؛ فيملكُنا شُرودٌ. لا أحدَ يعرفُ علي وجهِ اليقينِ لماذا أسموهُ كذلك؛ كانوا ربما يعرفونَ مصيرَهُ، يعرفونَ أنه لن يكونَ ذاتَ يومٍ محلاً للإقامةِ، بل بوَّابةً، محضَ بوابةٍ يمرُّ منها النَّاسُ إلي الجَنَّةِ، أو يمرُّونَ إلي النِّسيان. هناكَ، في الغرفةِ التي تبِصُّ نحوَ ربوةٍ من الصُّخورِ والعُشْبِ، طلبتُ من فتاتي الرَّيفيةِ أن نُخفِّفَ الإضاءةَ، وأن تخرجَ من ترسانةٍ كانت تُطلُّ عليَّ من ورائِها: قميصٌ خلفَ القميصِ، بنطالٌ تحتَ بنطال. لكنها تذكَّرتْ أباها الكاهنَ فجأة، تذكَّرَتْهُ، فارتعشتْ لها شَفَةٌ، وبرُدَتُ كفُّها في كفِّي. تراءتْ لها سبَّابتُه، وهو يحذِّرُها من الغرباءِ الذين إذا دخلوا قريةً أفسدوها، فسألتْني، عمَّا إذا كان صحيحًا أن الرَّبَّ منشغلٌ إلي هذا الحدِّ، بالتَّلصُّصِ علي أبنائِه. لم تكن عندي إجابةٌ، وكنتُ أنظرُ إلي سحابةٍ دكناءَ تتحركُ، عبرَ النَّافذة. الصَّبِيَّةُ، بدتْ مأخوذةً بتلكَ الهِبَةِ التي سقطتْ في حِجْرِها فجأةً كتُفَّاحة، الهبةِ التي انتظرتْها المسكينةُ عاميْنِ كاملين، ونذرتْ من أجلِها، كلَّ ما تملكُ من شهوةٍ في الأعطاف. كانتِ البنتُ تدركُ، أن الغُرَفَ النَّائيةَ لا تُكرِّرُ نفسَها أبدًا، وتلك هِيَ المُصيبةُ، تُدركُ أن الغرفَ النَّائيةَ كائناتٌ نافدةُ الصَّبرِ، ولا وقتَ لديها، كي تُعلِّمَ الحمقي فنَّ الحياة، وأن طابورًا طويلاً من العاشقِينَ يقفُ علي بابِها، كي يضمنَ واحدُهم مكانًا لاسمِهِ في دفاترِها. بعدَها، قد يكونُ له أن يموتَ هادئًا، قريرَ العين. كانت تعرفُ، وأعرفُ؛ فمالذي فعلناهُ بما عرفنا؟! مالذي فعلناهُ بالمَمَرِّ الذي امتثلَ لشِقوتِنا، وانفرجتْ لنا أقواسُهُ؟! كيف قلنا كلَّ الذي لم نكن نعني، وأهدرنا المساءَ البعيدَ بطولهِ في مديحِ البهجةِ، بينما أعصابُنا موصولةٌ بحفيفِ أقدامٍ تمشي خارجَ الغُرَف، بينما أعضاؤنا تنأي بعيدًا، وتخبُّ في الشَّتاتِ؟! كأن شيطانًا تلبَّسَنا فخفنا من الرَّحمةِ، وريحِها الغامضة، تلك التي تنزلُ من السَّماءِ أحيانًا علي الضُّعفاء، فتملأُ الغُرَفَ النَّائيةَ، وتعلَقُ بالهدوم. هي الآنَ بعيدةٌ. صاحبتي بعيدةٌ، ولديها برنامجٌ علاجيٌّ كثيفٌ يحجزُها عن النَّاسِ، في المصحَّةِ الهادئة. تقولُ في رسالتِها: «أعرفُ أن الوقتَ فاتَ، لكني راغبةٌ في الكلامْ، الغُوايةُ يا عاطف، كائنٌ مغلوبٌ علي أمرِه. الغُوايةُ، التي طالما أكَّدْتُ لنفسي أمامَ المرايا، أنني أمقتُها، والتي كنتُ أُصلِّي بمُهَجةٍ منقسمة، من أجلِ أن يرفعَها اللهُ عني، لم تكن سوي صديقي الطيِّبِ الذي دأبَ علي منحي التَّذكاراتِ، تلوَ التَّذكارتِ، تلوَ التَّذكارات« فكتبتُ لها: »الغوايةُ أيضًا، هيَ الاسمُ الحَرَكِيُّ الذي كنا قد اخترناهُ في صمتٍ للسَّعادة، لعلكِ تذكرين« شهرانِ طويلانِ، قبلما تصلُ برقيتُها الأخيرةُ: »لعلكَ تعني غُرفَتَنا، غُرفَتَنا الضَّائِعة«. صوتُها علي الوَرَقِ، بدا باسمًا وضعيفًا، كان أقربَ ما يكونُ إلي خرفشةِ فَراشةٍ في دُرْج. القاهرة في ديسمبر 2011