نعرف أمثلة كثيرة عن اتخاذ الأدباء مواقف من الثورات تناقض كتاباتهم، أو بالأحري من كل ما يسمي تغيير الواقع. لقد ألفنا هذه الفكرة وما عادت تدهشنا لتستوجب الشجب والإقصاء الصاخبين. لنتذكر إليوت وبورخيس وسيلين وباوند. نعلم الثمن الباهظ الذي سدده الأخيران عن تطرفهما المعكوس إزاء مسلمات كحياة الإنسان، وهي القداسة الوحيدة الجديرة بالذود عنها. لكل مبدع انحيازاته وأهواؤه وأفكاره المتسلطة، له أصوات أخري لا تبرر قناعاته الشخصية التي لا تختزل بأية حال نتاجه، إذ ما من كاتب تقريباً يختصر في شخصه وسيرته. أثناء موجات الثورات التي غمرت العالم العربي لم يبرح بعض الكتاب مخاوفهم القديمة، وظلوا متوجسين يرنون إلي ضباب المستقبل الذي يستشرفون فيه أسوأ ما ينتظرنا: سيحتلنا الغرب والإسلاميون، أي سيعود إلينا ما لا يزال ماثلاً بيننا. ربما كان تشكيكهم في الحراك الشعبي علامة عجز وجمود مستقرين، فالريبة المعهودة واحتدام الجدالات مألوفان، أما المستغرب فهو استبعاد الأمل الذي يتطلع إليه الناس أمام الرعب، إذ ظلوا بإلحاح "منطقي" علي الدوام، مثل أنبياء يخسرون مؤمنيهم، يحذرون من الكوارث المحتملة القادمة، بينما الحاضر خوف علي الحياة، الحاضر جريمة مستمرة وغضب مستمر، استغاثات وهلع يخرس اللغة. انقسمت المواقف حين بدأ التغيير الذي لطالما كان الأدباء يصبون إليه ويزينونه بأفكار التمرد وتجاوز الذات، فارتد البعض إلي تبرئة ذواتهم أولاً واستأنفوا العبارات المزدوجة المعاني التي تلوم الجميع ولا تسمي أحداً بعينه، أو انكفأوا صامتين أو، في حالات قليلة، رفضوا الحراك بأكمله. هذا الرفض استفز الكثيرين لأنه جاء إنكاراً لنا ممن أحببنا، إنكار حق الغضب وحق الحياة إلا بعد توافر الشروط المثالية للقيام بأية ثورة، بينما كل ثورة مفاجئة وناقصة تستكمل ما فاتها أثناء استمرارها. خيبتنا تجعل أي دفاع عنهم شاقاً أو متعذراً. البلبلة التي أحاطت ببعض من الشعراء المكرسين إثر تصريحاتهم رآها البعض فضحاً واكتشافاً في آن. استفاد الجميع من ثمار الفضائح التي أتاحت للبعض فرصاً تطهرية استُغلّت ليرتقوا فوق من يخالفونهم الرأي، والمخالفون موصومون للأسف بالنرجسية وضيق الأفق والتخاذل. قد يقال: هذا كاتب كبير ولكنه أخطأ. "لكن" تجمع المتناقضات، إذ كيف سيجتمع النبوغ والشبهات؟ وكيف تتلاقي المغفرة وانتفاؤها؟ تتحول مثل هذه الأخطاء إلي فضائح صحفية عادة، وقد يعود القراء المهتمون، (وما أقل من تعنيهم مثل هذه الأمور في الواقع)، بذاكرتهم ليقارنوا ويبحثوا في الماضي ويأتوا بحجج تثبت الاتهامات، ويتلذذون بتداعي هيبة الأسماء الكبيرة مثل أقنعة مزقتها الجذور، المتمسكة بمنزلتها مع ذلك، أو يحاولون الإتيان بالكثير من المسوّغات ليجعلوا القضية سوء فهم لا أكثر، من قبيل عسر الحسم بين الفن والأخلاق، إذ كيف سندين من أمتعنا وأضاف إلي ثقافتنا المؤلفات والترجمات وأغناها حقاً؟ أمام القتل لا يتسني لأحد، قارئاً أو كاتباً، الاستغراق في تأويل النبوءات وتفسير المفارقات السلوكية. هذه الإدانة مؤقتة برأيي، لأننا نعيش أوقاتاً عصيبة ما انقضت بعد. ويبدو أن هنالك صعوبة في لجم العداء الذي صرنا نتبادله فجأة ولا نضمره، فالمواقف التي نتخذها تبتلعنا وتستعدينا أحياناً علي مخالفيها إن لم نجد هدفاً واضحاً نهاجمه. كنا نسخر مما نعتبره إسرافاً في الرومانسية والغرائبية التي بات الواقع يمدنا بها دون انقطاع، ثم عادت إلي الحياة بلاغة ظللنا نهجوها حتي نسيناها، وبعثت كلمات زيفت الأنظمة معانيها. في الحصار التكنولوجي اليومي وفوران نصوصه وارتجالاته الجميلة أحياناً، النزقة والساخطة، يتعالي إنشاد تشفع له وظيفته الأخلاقية، الضرورية في أوانها لمساندة الشارع، وإن ابتعد عن محرمات دينية واجتماعية يظل الأدب معنياً بالتساؤل حولها وتعريتها. ثمة عنف في الرداءة، والأدب الرديء عموماً يمثل المجتمعات أحسن تمثيل، وله دور وغاية قد لا يتحلي بهما الفن. ليس الأدباء دعاة سياسيين ولا نجوم شاشات، ولا يروجون لحركة أو حزب، لكن حريتهم أمام الكائنات