المقعد مشي ناظراً إلي فوق، إلي الغيم الذي يعبر، وقال في قلبه: إنهم يعبرون أيضاً هناك. هناك أيضاً فوق من يمشي، ولا مقعد له. ولكن من هم هؤلاء الذين طلعوا من ماء ويمشون فوق؟ لا شكًّ بينهم أنفاسُ غرقي. مُدَّ نظرةً إليهم، مُدَّ كرسيّاً، فلعلَّهم متعبون. مشي خافضاً رأسه. لا يريد أن يري أنفاس غرقي في الفضاء. مشي خافضاً رأسه، وانتابه حُبٌّ هائل للتراب. ما في قلبي علي الأرجح هو تراب إذاً وليس دماً، قال، ومشي. ابحثْ في التراب حبَّةً حبَّة، قد تجد نفسك، أو علي الأقلّ قطعةً منك. قد تجد قطعة من أجدادك، ومن أحفادك الذين لم يولدوا بعد. ابحثْ في التراب قد تري أصدقاء، وقد تتعرًّف إلي ناسٍ لا تعرفهم. انبشْ التراب الذي في قلبك، ستجد كثيرين مدفونين هناك، ينتظرون أن يصل مِعْولك إليهم كي يحيوا. تعبَ وأراد أن يجلس. علي الطريق أحجار. حجرٌ مستطيل يريد أن يمشي. حجر مكوَّر يندب نفسه. حجر ذو ثغرة كفمٍ يريد أن يقول شيئاً. حجر مائل يستنجد بحجر آخر... أحجار في جوفها شرايين، في جوفها دم... هل يجلس علي دم؟! ابسطْ نظرتك علي الأرض واجلسْ عليها. استرحْ في عينيك. في العيون مقاعد. اسحبْ كرسيّاً من عينك واقعدْ عليه. قديماً، مرَّ متعبون كثيرون وقعدوا في عينه. استراحوا قليلاً من سفر طويل، ثم تابعوا المشي علي نظرته. في ذاك الوقت كان يمكن أن تخرج العينُ من محجرها وتصير طريقاً. وحين يتعب الماشون، كان يمكن أن تعود إلي محجرها وتصير بيتاً. كان يمكن تلك العين أن تؤوي آلاف المتعبين، وآلاف الضالّين، في محجرها الصغير، وأن تقدّم لهم طعاماً وشراباً من شرايينها التي لا تُري. الأحجار ليست مقاعد، وعلي حوافي العين رمل، قد يكون من الدموع. من دموع المتعبين الذين يمشون كلًّ حياتهم ولا يجدون مقعداً. هيَّا، تابعِ المشي. لا تجلسْ علي رمل. لا تجلسْ علي دمع. وافترضْ أخذتَ كرسيّاً من عينك وجلست. أليس كلُّ الذين تنظر إليهم يجلسون عليه؟ فهل تجلس علي جالسين؟! هم أخذوا المقعد قبلك. فبمجرًّد أن نظرتَ إليهم صار المقعد في عينك لهم. امشِ، لا مقعد لك في عينك ولا مقعد لك علي الطريق. امشِ. وانتظرْ أن تنظر إليك عينُ عابرٍ آخر، فلعلَّك تقعد وتستريح فيها. العيون أيضاً يعبرون، أفراداً وجموعاً، ولا أحد ينظر إليه. إلي أين تذهب نظراتهم، لا يعرف. أين تحطُّ النظرة إنْ لم تحطَّ علي ناس؟! يسمع أنيناً تحت الأقدام. ويعتقد أنَّ من يئنُّ هناك هي العيون. انتشلِ العيونَ من التراب وضعْها علي الغصون، فالأشجار تريد أيضاً أن تنظر. انتشلْها وضعْها علي الحجارة، فربما الحجارة تريد أن تمشي وينقصها النظر، أو علي الأقلّ تريد أن تري من يقعد عليها. ليس عدلاً أن لا يكون للنظرات مكان. ليس عدلاً أن لا تعرف العيون إلي أين تذهب نظراتها. وإن احترتَ إلي أين ترسل نظرة فضعْها علي الطريق. قد يمرُّ أعمي ويكون في حاجة إليها. قال هذا والجموع تعبر ولا أحد يلتفت إليه. نظرات، يتيمة، في فضاء فارغ. تمنَّي لو يخلق لها أباً، أمّاً، أخاً، رفيقاً... نظرَ، ولم يرَ رحْماً. نظرَ، ولم يرَ. كأنه كان هو العابرين. ومثلهم لم يعرف إلي أين تذهب نظرته. الظِلّ اخرجْ وقُلْ للعابر أن يعود. تَرَكَ ظِلاًّ هنا فيه لهاثه. ظلٌّ فيه شوارع. فيه مسافات. فيه جبال ووديان وذكريات. وفيه ناسٌ علقوا به وهو يعبر في محاذاتهم. قُلْ للعابر أن يعود. نثار ظلّه هنا يفتقد نثاره الآخر، النثارَ الذي سبقه والنثار الذي تأخَّر عنه. قلْ له أن يعود ويجمع نثار ظلّه المستوحد الكئيب. أن يُخرج هذا الظلَّ من وحدته. ظلٌّ محمَّل بأثقال مسافات، ولم يُلقِ بثقله علي أحد. ناعم ككلّ المستوحدين، ككلّ الذين لا يملكون حتي أنفسهم. مَرَّ علي الحدائق، وصار فيه زهور. مَرَّ في الشوارع، وصار فيه ناس. مَرَّ في الليالي، وصار فيه قمر. مَرَّ في النهارات، وصار فيه شمس. مَرَّ علي المقابر، وصار فيه موتي. قلْ للعابر أن يعود ويجمع زهور ظلّه، وناسَ ظلّه، وقمر ظلّه، وشمس ظلّه، وموتي ظلّه... قلْ له إنَّ الحدائق والقمر والشمس والأحياء والموتي في ظلّه.
لهاث العابر ترك العابر بعض لهاثه ممدَّداً علي الدروب، وبعضَه شارداً في الفضاء. لهاثٌ يطأ عليه المارَّة ولهاثٌ يجهد كي يصير غيمة. ترك العابر لهاثاً يمشي في الشوارع مع الأقدام، أو يصير تحتها تراباً ولهاثاً يمشي مع الهواء، يرتطم بأشجار وبنايات، بقطارات وسفن، يعلو ويهبط، يهبط ويعلو، ولا يصير غيمة. انحرفْ عن الطريق. لهاثك فيه ناسٌ فلا تدعْ أقداماً تطأ عليهم وانحرفْ عن الفضاء. للفضاء رئة شاردة لا تتركْ لهاثك فيها فيشرد. امشِ كأنْ لا لهاث لك. امشِ كأنك ميْت فلا يشرّد الفضاءُ لهاثك ولا أحد يطأ عليه.