ليس اليوم كالأمس، ولا كان الأمس كأول أمس. أمر خطير طرأ. من السماء هبط أم من جحيم الأرض انفجر؟ يتساءل نجيب محفوظ ممهداً لتحول عاشور الناجي إلي فتوة.. تساؤل "الحرافيش" ينطبق علي حياتنا الآن. حينما نقرأ عملاً ملحمياً مثل الحرافيش، سنجد الصورة الذهنية التي يعكسها تحبب القارئ في الفتوة، حيث سيتعاطف مع سلالة عاشور الناجي كلها، ذلك الرجل الأربعيني الذي أوحت له الفتاة المليحة "فلة" بأنه "أسد"، ولا أحد غيره يستحق أن يكون الفتوة، وقد كان. عاشور سائق الكارو البطل، شخص مجهول الأصل، لكننا نعرفه، ننحاز له. هكذا كنا ننتظر ظهور الفتوة الجديد، بلهفة وشوق نتابع صعود كل واحد منهم في الملحمة، ونخاف حدوثها في الواقع. خطورة الخيال عندما يتحقق أنه يكون كابوساً. حكايات الفتوات كناس عاديين، يحبون، ويكرهون، ويضعفون، وتزداد قواهم، يصعدون، ويهبطون، بينما لا تكشف لنا حكايات البلطجة عن معني أو مبرر، نحن نتوقف عند أفعالهم، نرفضها، نتحمس للحزم معها، مثل اقتراح وزير الداخلية بتخصيص 200 طائرة للقضاء علي البلطجة، أو اقتراح ممثلة فاتنة بإعدام البلطجية بميدان عام أمام الأطفال! الجميلة تخلت عن عقلها بسبب الهلع.ونحن كذلك لا نمتلك مقدرة محفوظ علي تحويل العنف إلي جمال، حساسية، وغضب إنساني. خروج الفتوات المفارقة أن العام المخصص لصاحب الحرافيش في الثقافة المصرية كان عام الثورة، وتصادف معها خروج البلطجية.. كما لو أنهم خرجوا من رواية نجيب محفوظ اعتراضاً علي إلغاء المناسبة، لكنهم تشكلوا في الواقع بهيئة جديدة. خرج البلطجية، فعلياً، من أجل تدعيم النظام السياسي المهدد. مع حروب الشوارع التي دارت في جمعة الغضب، خرج فتوات العصور الحديثة لبث الرعب والهلع في النفوس.. لكن من سيكتب حكاية البلطجي؟ محفوظ بذل جهداً ليصيغ معني واضحاً للفتونة، وعلينا أن نبذل جهداً مشابهاً مع البلطجة. بالطبع نحن نخاف البلطجية، نرفض أفعالهم، ونريد ردع تلك الظاهرة/ الخرافة البدائية، نحاول الآن أن نصل لمعني داخل اللغة لفعل -نحته سياسيو "طرة"- في حياتنا .. فعل البلطجة. تي- شيرت هي مؤامرة.. تحايل لحبس الثوار! وجهة النظر التي نتبناها الآن خاصة ببعض المُتّهمين بالبلطجة بعد الثورة، وهم يقدمون المبرارت المقنعة لصحة المؤامرة التي أتحدث عنها..هذه أول خطوة لصناعة نظير درامي للفتوة، نترككم الآن مع حكاية الممثل علي صبحي: لم أكن أتخيل أن تكون التهمة هي البلطجة.هو مفهوم فضفاض. البلطجة بوصفها تهمة لا تشترط دلائل محددة، فحسب التهم التي كانت موجهة لي، يمكن أن يكون كل الثوار بلطجية، حيث اتهمت بتعطيل حركة المرور، ترويع المواطنين وإثارة الرعب في قلوبهم »كيف يمكن التيقن من حدوث ذلك؟« ، وكذلك كسر حظر التجول، أما التهمة الأخيرة كانت أنني كنت في الميدان في الساعة الخامسة عصراً! كيف تنجو من التهمة؟ في البدء عليك بسب المعتصمين، كل من سبهم نجا من العسكر، وهكذا سب "علي" زملاءه، كما لو أنه في حفلة تنكرية يرتدي زياً غير زيه..هذه أول وسائل الحماية من البلطجة، ولكنها لا تدوم، حيث فضحت المتنكر طبلة، فحينما لمح "علي" شخصاً يسرق طبلته، توقف عن سب المعتصمين. كان اللص يعلم أن الطبلة خاصة بالمعتصمين، فقد سرقها من بينهم، هكذا سقط قناع علي، ثم تطورت الأحداث بسرعة، فجأة وجد نفسه عند المتحف المصري، في ساحة ألعاب القوي هناك. مجند يطير في الهواء مثل "جاكي شان" ويستقر علي صدر صبحي، لينهار الآخر تماماً. فيلم حركة من النوع الآسيوي جري هناك، كان المعتصمون ينهارون مع حركات العنف القتالية. خلال حديثي مع "علي" لمحت شاباً يرتدي تي شيرت مكتوباً عليه "بلطجي". التي شيرت راج في الفترة الأخيرة كفكرة تؤكد أن تهمة البلطجة صارت صالحة للجميع. صاحب التي شيرت هو رامي عصام، اشتهر مؤخراً بلقب "مغني الثورة"، الذي اعتقلته الشرطة العسكرية. أغلب حديثنا دار حول التي شيرت. قال إنّ الفكرة راقته، بدأها بيير سيوفي بنفسه، ثم وزع التيشرتات علي الآخرين. سيناريو مؤلم تكشف عنه هذه الفكرة الاحتجاجية، اليوم يرتدي عصام التي شيرت للاحتجاج، لكن غداً قد يُجبر الجميع علي ارتدائه كتهمة! هكذا صارت البلطجة "شماعة" لسياساتنا الخاطئة، واحتقاننا الطائفي، وأزمتنا الاقتصادية..نحن نعاني من فوبيا، فوبيا البلطجة لهذا نستنتج أن البلطجي شخصية درامية شريرة. وهذا هو الملمح الأول. حكاية أشباح خلال الثورة أصابت بيوت الناس الحكايات، وأصوات طلقات رصاص..أراد أهالي بث الرعب في البلطجية ليبعدوهم، فأثاروا الخوف في نفوس أهالي آخرين! كنّا جميعاً نطارد الأشباح. يقال إن هناك بلطجية في سيارة سماوية اللون يطلقون النار علي المارة، السيارة باللون نفسه كتبت عنها "المصري اليوم"، ولكنها كانت تعبر أسفل مقر الجريدة، نزل منها الشياطين وهشموا سيارة مواطن في قلب الطريق، وتحرشوا بسائقها.. دائما هناك سيارة يركبها شياطين، وتكون بلون السماء، في الغالب ما تكون من فئة بيجو 504.. حسنا هذا هو الملمح الثاني. مزج السلاح بالدموع يحكي إنّ البلطجي هو كل من يحمل بلطة، وهو مصطلح يعود للغة التركية، حيث "جي" تعني الملكية، بينما "البلطة" هي "البلطة"، لكن هذا المعني يقترب من قاطع الأشجار في ألف ليلة وليلة ذلك المسمي بالحطاب. أطلب من "علي" تحديد صفات البلطجي، فيقول إنها مسألة شكل،"البلطجة مجرد شكل". يحكي أنه حينما قبض عليه دُست له أسلحة بيضاء..هكذا صار متهماً، يقول: " حينما قُبض عليّ عذبوني وعملوني بلطجي"، والآن نقدم لكم صورة البلطجي: شعر هائش، ملابس ممزقة، التعرض للضرب بحيث يكون شكله مثيراً للهلع.. أن تكون المضبوطات معه أسلحة بيضاء، بحيث تتقاطع زوومات الكاميرا علي الأسلحة مع الوجه، الذي لا يخلو من "دموع الندم"..تلك الصورة هي ثالث الملامح. الحياة العارية في أيام فض الميدان، كان، رجال الشرطة العسكرية يتحركون مع المدنيين الشباب. كل من يقاوم هذه القوة "العسكرية -المدنية" يعد بلطجياً. الكثيرون فهموا الحيلة لهذا هرب بعض المعتصمين عن طريق الانضمام لفريق شباب الثورة ضد فريق البلطجية.. للضرورة أحكام، وهكذا عرفنا وسيلة الحماية الثانية. ضم تشكيل فريق البلطجية: ثوار، باعة شاي "سريحة"، بائعو كروت شحن الموبايل، وبالطبع أطفال شوارع..دائما هناك "مظاليم" في الحبس. حالة لا تعبر عنها إلا فلسفة "الحياة العارية"، وهو مصطلح صكه جورجيو أجامبين، حيث المتظاهر المعتصم إذا قيل عنه أنه بلطجي تسقط عنه إنسانيته..لا حق له في الدفاع عن نفسه، وجوده نفسه إدانة. أحياناً تكون النظافة الشخصية معياراً لانتمائك لأي من الفريقين، وغيرها من المعايير التقديرية بصيغة»شكلك ابن ناس ولا بلطجي«..علي اعتبار أن البلطجي كائن فضائي! هريدي ليس بلطجياً في عام 1957 كتب نجيب محفوظ عن قصة لفريد شوقي سيناريو فيلم "الفتوة" للمخرج صلاح أبو سيف. الفتوة في الأحداث يواجه شخصاً ظالماً، يعد المؤامرات المتتالية لضربه في سوق الخضار، ولكنه يتحوّل حينما يصير كبيراً.. كانت هذه محاولة أولية لمناقشة الموضوع، محاولة سابقة علي كتابة الرواية.. كان محفوظ مشغولاً بفكرة السلطة في سوق شعبي، حكاية لا تخلو من دلالة سياسية. الحكاية بها صعود سريع في الحياة، من خلال ذكاء "ولاد البلد" وجدعنتهم، ثم تراجع تعلق القلوب بالبطل الشعبي، البلطجي كذلك كان موجوداً في حياتنا، يلعب أدواراً قذرة للنظام السابق، كان دمية في يد النظام. لا تحركهم أهداف سياسية أو اجتماعية، فقط التغافل عن أحكام بالحبس.. هكذا ملكت الداخلية ولاء البلطجي. خلال الثورة حدث تمرد داخل نفسية البلطجي.. توقف عن لعب دور الدمية. لم يعد مهدداً من الداخلية، وإنما صار تهديداً للمجتمع ككل. تحوّل إلي القوة الوحيدة في حالة من الفراغ الدستوري، القانوني، والأمني. البلطجي الجديد أما الملمح الأخير لهذه الشخصية، في دليلنا، فهو تضخم الأجر بعد الثورة، نحن نتحدث عن آلاف، حيث يعمل البلطجية علي القتل فقط. وسيلة الحماية التي حققت نجاحاً ملحوظاً كانت لجان الحماية الشعبية، وهذه ثالث الوسائل، لكنها تحمل تهديداً، حيث قامت الفئة الأكثر حماساً من شباب هذه اللجان بقتل سائق رحلات صفع مأمور قسم الأزبكية.. هكذا يتراجع بلطجية العشوائيات ومخبري الأقسام- بسبب سياسات السوق الاقتصادية ? ليتشكل الكابوس الجديد، فقد يملك المجال العام البلطجيةُ من أبناء الأحياء الآمنة!