موقف الأوتوبيس المتجه لشمال الدلتا، في الصباح الباكر. الجيبة رمادية تصل إلي منتصف الساق والحذاء نبيتي يرتفع عن الأرض مقدار سبعة سنتيمترات. لم أكن جائعة، لكنه صمم أن يشتري لي زجاجة بيبسي وتشكيلة من البسكوت والشوكولاتة. طراوة الصباح في نهاية الشتاء ولسعة برد خفية وضياء الشمس يغمر الساحة السوداء والسيارات تقف طابوراً علي مدد الشوف. عادم السيارات والبنزين المتسرسب منها يشكلان طبقة سميكة تختلط بالطين، تجعله رخواً. كعب الحذاء يغوص في طبقة الطين المقببة ويخرج منها لامعا عليه طبقة تشبه الورنيش. اشتري التذاكر ولحقني عند باب الباص، كنا أول من يصعد، اخترنا كرسيين في مقدمة السيارة. تتعبني الهزهزة ويصيبني دوار بسبب صوت الموتور. لم نتكلم كثيرا في الطريق. أكلت البسكويت. أكل سندوتش بيض اشتراه من بائعة ابتسمت له وتوسم فيها النظافة وعفة اليد. نفحها البقشيش عن طيب خاطر وزادته ابتساما. لاحظتهما من بعيد ورأيت بقايا ابتسام علي وجهه وهو يلحقني عند باب الباص. كان منتعشا، نشيطا، متفائلا. هبطنا بعد نحو ساعة ونصف من اللف والدوران علي الطريق السريع وبين المزارع عند رصيف المعدية. تماما كما وصفوا لنا. كانت تتجه نحونا ببطء والناس ينتظرونها بين ناعس وخامل، يتلاعب بعضهم بالقروش العشرة في يده فيتأكد من رنينها أنها مازالت عشرة، ويحدق البعض الآخر في الغريبين وكأنه يتفرج علي فيلم أجنبي. الجيبة الطويلة والشنطة والحذاء يجتذب نظر البنات والنساء، البيريه والكوفية الحرير والمعطف الصوف يجتذبن نظر الرجال والأولاد. نزل أولا وتبعته، بطن المعدية من الخشب الكالح، متسخ من أثر الأقدام، وريسها لا يسألنا من نحن لكن عينيه تتفرسان فينا باستغراب. يشير لمقدمة المعدية، نجلس بالقرب منه علي دكة خشبية. فيما ينتقل الصبي للطرف الآخر. الترعة ضحلة والطمي والأعشاب يلونانها بالأخضر الداكن. جنزير يمتد بعرض الترعة والمعدية تمر بجانبه، الصبي يجذبه بيديه القويتين فتتحرك المعدية ببطء في الاتجاه المعاكس. الريس لا يتحدث مع الناس إلا قليلا، يبدو عليه القرف حتي أنك لا تدري إن كان حقا زهقانا من هم الدنيا أم أنها طريقته في التعالي علي الخلق. ألتفت فأراه ينظر إلينا، ثم يشيح بوجهه وكأنه لم يقصدنا بهذه النظرة. ألتفت إلي أبي فأجده غارقا في ملكوته، رأسه عال ونظرته تسبقنا للشط الآخر وكتفاه مستقيمتان والكوفية تكاد تأكل من عنقه حتة. ترك الكيس البلاستيك وبقايا البسكوت والشوكولاتة علي مقعد الباص ونفض عن معطفه الأتربة. عندما هبطنا إلي بطن المعدية، كان حذاؤه مازال لامعا. لم أره ينظفه، كما أني لم أره متسخاً. انشغل بالي لحظات بهذا الخاطر، كيف يمكنه الحفاظ علي نظافته هكذا دائماً، دون أن يراه أحد لحظة التنظيف. دفعنا القروش للريس قبل الهبوط إلي البر. وساعدني الصبي علي الخروج من بطن المعدية. لم أكن في حاجة لمساعدته لكنه مد يده الخشنة وعيناه تقولان لا ترفضيها. ابتسمت له زيادة في اللطف. لمسة يد وابتسامة، زكاة عن الصحة. مبني المدرسة القديم يقع غير بعيد عن مهبط المعدية، يختفي وراء كوم من البيوت المتهالكة، في شارع جانبي مسدود. كانت المنطقة تضم فيما مضي أهم بيوت البلد. موقعها علي تيار الماء وقربها من المدرسة، مركز المركز، يميزانها عن غيرها من البيوت. مع الوقت، هجرها أصحابها وسكنتها شرائح فقيرة من الطبقة المتوسطة. تحولت المدرسة لكلية، لكنها ظلت بحكم تاريخها القديم تتعامل مع الأساتذة وطلاب باعتبارهم معلمين وتلاميذ. روح المدرسة تعم وتطغي، روح الجامعة تتراجع وتختنق. الدور الأول للفصول، والدور الثاني للأقسام ومكتب العميد والدور الثالث الذي أضافته الجامعة يضم قاعة كبيرة للامتحانات والاحتفالات وحجرات صغيرة للمعيدين وسطوح مفتوح علي السماء انخلعت بلاطاته الحديثة وتفتت الاسمنت حولها. الكلية مدهونة بالجير الأصفر وفناؤها تغطيه رمال صفراء والأخضر الوحيد الذي يذكر بالريف شجرة نحيلة تظلل مدخل المصلي المعتم وتحمي الزير المخصص للوضوء من حرارة الشمس. بواب المدرسة يقف بجوار الباب ويشير للمدخل والسلم الرئيسي المؤدي لمكتب العميد. يقول حين يعرف سبب الزيارة "حمد الله علي السلامة يا دكتورة". أول مرة توجه إلي هذه الكلمة، عمري لم يتعد الثالثة والعشرين. يسير أبي بجواري صامتا ويقول ونحن علي السلم إنه سينتظرني في السكرتارية. لابد أن سكرتارية العميد احتاروا في تصنيف هذا الرجل، لا يبدو مثل أساتذة الجامعة، ولا مثل رجال الأعمال ولا أصحاب الأراضي في الناحية، لايبدو مثل أي شخص رأوه في حياتهم. البيريه والكوفية الحرير والمعطف الصوف هي السبب. حتي ابنته غريبة، مصرية صحيح، لكنها لا تشبه المعيدين الذين ترسلهم مصر من آن لآخر بتوصية من الجامعات الأم. انتهيت من الاجراءات بسرعة. سيتم التعيين وتخصيص المرتب بعد عودتي من رحلة باريس. ادعيت أنها ضرورية لشراء كتب للماجستير. قالوا استلام العمل بعد العودة، ووفروا علي الجامعة مرتب شهر ونصف. وافقت، كنت سعيدة بالوظيفة. كنت أتمني أن أغير العالم، في ذهني صور محددة عن هذا العالم الذي سيتغير لأني فيه. دخلت لمصافحة العميد في نهاية المطاف. انشغل عني لحظات، عند عمد، كعادة العمداء والموظفين العموميين الذين يشعرون بغطرسة مصدرها المنصب. لم تعجبه أناقتي غير المعتادة، وسيظل يعاقبني عليها حتي استقالتي من العمل بالكلية بعد أربع سنوات. سأتعلم ارتداء الجينز في رحلاتي للجامعة فيما بعد، زيادة في التعالي علي منطق الوظيفة. لن أرتدي ثوبا أنيقا إلا في المناسبات. الطلاب سيدركون الفرق ويعاملونني باعتباري معيدة مختلفة، معيدة "من مصر". أدرك بعد سنوات أن بيريه أبي والكوفية الحرير والمعطف الصوف أدوات تخص الوجه الخارجي الذي حافظ عليه بعناية، لا تضعه خارج المشهد ولا تقف عائقا بينه وبين الناس. كانت الوجه الخارجي لأناقة الروح.